في سنوات الغليان الشعبي، في مدينة عدن جنوب اليمن، أنشأت السلطة البريطانية في أيلول/سبتمبر 1964، محطةً تلفزيونيةً، لاستمالة الأصوات المعارضة في الشارع، بعد استقلال شمال اليمن عن الحكم الإمامي في أيلول/سبتمبر 1962، إذ تطورت تأثيرات ثورة 26 أيلول/سبتمبر، من الإضراب إلى التظاهر، في مدينة عدن وريفها. وفي ذلك الوقت، استبشر العديد من الفنانين والفرق المسرحية، الذين كانوا يقدّمون عروضهم المرتجلة على خشبة المسرح، ثم اتجهوا بأعمالهم إلى مسرح التلفزيون، وظهرت فرق فنية لم يكن لها وجود من قبل.
ومن خلال مسرح التلفزيون، ظهرت أعمال مسرحية للمرة الأولى باللهجة الريفية، وهو ما أصبح يُعرف لاحقاً بمسرح الريف، وتتناول قضايا اجتماعيةً مثل التمايز الطبقي والتعصب القبلي والثأر وأهمية تحرر المرأة من الوصاية الأبوية بمشاركة عناصر نسائية، وسرعان ما حظي برنامج المسرح بجمهور واسع حتى وُصف بأنه "وُلد عملاقاً". وتبعاً لهذا، راحت السلطات البريطانية تموّل مسرحيات تروّج للالتحاق بالجيش البريطاني والانضمام إليه، مثل مسرحية "أنا الجندي".
وبرغم دور التلفزيون في إحياء المسرح في ستينيات القرن الماضي، إلا أن محطة التلفزيون لم تكن مؤهلةً من حيث البث والإمكانات التقنية، ولم تهتم الحكومة البريطانية بذلك على الرغم من الأرباح المالية التي حققتها من مردود الإعلانات التجارية بين فقرات البرامج.
الإهمال وغياب الأرشفة لم يكونا حصراً من مسؤولية الحكومة البريطانية في عدن. فبعد جلاء القوات البريطانية، عرف التلفزيون لأول مرة جهاز الفيديو (بالأبيض والأسود)، وازدادت مساحة المواد البرنامجية المحلية المصورة، وبدأ نشاط الأرشيف بشكل نسبي
ووفقاً للمؤرخ سعيد العولقي، حُشرت محطة التلفزيون وإستديوهاتها وكل ملحقاتها قسراً بإحدى البنايات القديمة التي استؤجرت لهذا الغرض، فوق إحدى تلال منطقة التواهي. وزيادةً على ذلك، لم تقم المحطة بتسجيل الأعمال المسرحية التي عُرضت على شاشة التلفزيون وحفظها وأرشفتها، إذ لم يعرف التلفزيون جهاز تسجيل الفيديو حتى الفترة التي تلت عيد الاستقلال في 1968.
وبجانب ذلك، لم تكن صحف الستينيات موثقةً رسمياً لدى أي جهة أو هيئة أو مؤسسة رسمية محلية. وعليه، اختفت جميع البرامج التي كانت تبث على الهواء مباشرةً، مثل السهرات الغنائية والموسيقية والندوات والمقابلات والبرامج التعليمية والاقتصادية والثقافية، وكذلك العديد من الأعمال المسرحية المهمة التي من شأنها أن تعين المهتمين بدراسة أعمال رواد المسرح.
على أن الإهمال وغياب الأرشفة لم يكونا حصراً من مسؤولية الحكومة البريطانية في عدن. فبعد جلاء القوات البريطانية، عرف التلفزيون لأول مرة جهاز الفيديو (بالأبيض والأسود)، وازدادت مساحة المواد البرنامجية المحلية المصورة، وبدأ نشاط الأرشيف بشكل نسبي. ومع ظهور الفيديو المحمول ضمن مشروع البث الملوّن عام 1981، تم الاستغناء عن الفيديو الأبيض والأسود.
ولكن، بحسب المؤرخ أحمد السلامي، في كتاب "تلفزيون عدن من التأسيس إلى القناة الثانية"، "لم تتم صيانة التلفزيون والحفاظ عليه بشكل جيد والبحث عن قطع الغيار اللازمة لبقائه فترةً أطول، وأهملت إدارة التلفزيون نقل المواد المسجلة على الأبيض والأسود، إلى الأشرطة الحديثة الأصغر حجماً مثل أشرطة اليوماتيك 3|4 بوصة، وأشرطة البيتاكام والديجيتال في ما بعد، كما أمرت بنقل تلك الأشرطة إلى غرف عشوائية شُيّدت خلف مبنى البينو". وكذلك تلاشت العديد من النصوص المسرحية المكتوبة، ولم يبقَ منها إلا أمسيات عالقة في ذكريات معاصريها. وبرغم حالة الإهمال وعدم التوثيق هذه، يمكن القول إن الحروب الداخلية أكثر الأسباب تدميراً للأرشيف.
التهمت الحروب في اليمن الأرشيف على الدوام، ومنذ استقلال الجنوب، وإزاحة الرئيس قحطان الشعبي، في العام 1969، ومحمد علي هيثم في العام 1971، والرئيس سالمين في العام 1978، والرئيس عبد الفتاح في العام 1980، والرئيس علي ناصر في العام 1986، امتدت آثار هذه الحروب، خصوصاً الأخيرة، إلى جميع المؤسسات الحكومية بما فيها أرشيف التلفزيون. ووفقاً للسلامي "قامت الأجهزة الأمنية بالسطو على أشرطة مكتبة تلفزيون عدن وأخذ وثائق تاريخية مهمة وتركها في مخازنهم المظلمة حتى تحللت وأصبحت علكةً ورماداً".
التهمت الحروب في اليمن الأرشيف على الدوام، ومنذ استقلال الجنوب، وإزاحة الرئيس قحطان الشعبي، في العام 1969، ومحمد علي هيثم في العام 1971، والرئيس سالمين في العام 1978، والرئيس عبد الفتاح في العام 1980، والرئيس علي ناصر في العام 1986، امتدت آثار هذه الحروب، خصوصاً الأخيرة، إلى جميع المؤسسات الحكومية بما فيها أرشيف التلفزيون.
ثم نشبت حرب نظام صالح ضد الجنوب في صيف 1994، وهي الأكثر تدميراً وضرراً، حيث نُهب أرشيف الجنوب بإرادة سياسية، فلم يتعرض الأرشيف للدمار بسبب تلك المعارك الدامية فحسب، بل نُقلت أشرطة ومواد إلى قناة الرئيس صالح في صنعاء شمال اليمن، بحسب تحقيق استقصائي. اختفت مكتبة تلفزيون عدن وأرشيفه من الأشرطة المسجلة للبرامج والسهرات الفنية والأغاني والمسرحيات، ومنها الأشرطة الفيلمية لأول محاولات إنتاج فيلم سينمائي "من الكوخ الى القصر"، الذي أنتجه وأخرجه المخرج جعفر بهري في بداية السبعينيات وأفلام تلفزيونية أخرى لأشرف جرجرة وعلوي علي، وكذلك الأفلام القصيرة التوعوية والتعليمية.
ومن المفارقات المحزنة، أن ظهور التلفزيون ودور السينما في الثمانينيات أزاح المسرح من المشهد الفني اليمني، لأسباب من أهمها إهمال الدولة في رعاية المسرحيين والفرق المسرحية، وتضييق الخناق عليهم مالياً ورقابياً، وتالياً استقطب التلفزيون جمهور المسرح الذي أخذ بريقه في الانطفاء، خصوصاً مع ظهور العديد من المسلسلات الدرامية الجيدة آنذاك، لكن سرعان ما دُمّر أرشيف المسرح والتلفزيون على السواء، واختفى جمهور الدراما والمسرح تحت وطأة الاضطرابات السياسية.
يحفل تاريخ اليمن السياسي المعاصر بسلسلة من الإقصاءات: فمنذ أن قام الإمام يحيى بإتلاف كتب اليهود الدينية ومخطوطاتهم الشخصية، استمرت هذه العادة لدى الفصائل السياسية المسيطرة بعد تحقيق الجمهورية وتكوين الدولة. ويظهر تدمير الأرشيف كنوع من اضطهاد الذاكرة الذي يستتبع اضطهاد الآخر الديني والسياسي. وهكذا يمكن قياس مدى فداحة ذلك خلال عقود متتالية في ضوء دورات الاقتتال المستمرة بين الحلفاء والخصوم.
وعلى كل، لم تتوقف تبعات الحروب والإقصاء والحكم الأحادي عند نهب الأرشيف وتدميره فحسب، حيث قضى انقلاب العام 1994، على جميع مستحقات تلك الفترة المدنية الواعدة في اليمن بين العام 1990 حتى العام 1994، فانعكست الأحادية السياسية على الحياة الفنية بعد سيطرة التيار الديني على أجهزة السلطة، واحتكم المسرح إلى النظرة الأصولية المتخلفة، فتم إقصاء العناصر النسائية، وشُددت الرقابة على النصوص المسرحية؛ بحيث إذا أفلت النص من الرقابة، وخرج وعُرض، يُمنع صاحبه من تقديم عرض آخر ويمنع تسجيله تلفزيونياً.
ومهما يكن من أمر، فقد شهد المسرح انتعاشاً نسبياً في مطلع الألفية الجديدة، حيث رعت الأنشطة المسرحية مصادر تمويل متنوعة، مثل المراكز الثقافية الفرنسية والألمانية، والسفارتين الأمريكية والهولندية، ومجموعة من المنظمات الدولية مع شركائها المحليين، وامتازت معظم هذه العروض بالجرأة السياسية نوعاً ما؛ لأنها تحررت من التمويل الحكومي، وإن كان هذا لا يعني أن المسرح لم يشهد تدخلات عنيفةً من الدولة أو القبائل النافذة لإغلاق بعض العروض المسرحية بالقوة.
ولكن برغم الزخم الذي حظي به المسرح في الألفية الجديدة، لم يشهد الأرشيف الدعم الكافي حتى في أفضل سنوات المسرح. وتؤكد الكاتبة والباحثة أروى عثمان، في حديثها إلى رصيف22، "أن الأرشيف المسرحي والسينمائي والفوتوغرافي تعرّض للكثير من الإهمال والعبث في اليمن، حيث أُتلفت مواد فيلمية ونصوص مسرحية ووُضعت في مخازن غير مؤهلة للتخزين بسبب الرطوبة والديدان".
إذا كانت الذاكرة اليمنية قد قُوّضت باستمرار منذ القرن الماضي، فإنها اليوم تشهد تصفيةً أيديولوجيةً منظمةً من قبل جماعة الحوثي (أنصار الله)، منذ انقلابها على الدولة في العام 2014؛ حيث قامت بقصف مقر التلفزيون في العاصمة صنعاء، وأوقفت نشاط المسرح نهائياً، ومنعت الغناء في الأعراس
وتضيف أروى: "جرت العادة لدى الجماعات الحاكمة عند تسلّمها السلطة، أن تقوم بتوجيه التعليم، وكذلك حافظت على الأرشيف على نحو أيديولوجي، سواء الأرشيف العسكري أو الأرشيف الثقافي أو الأرشيف التاريخي أو الأرشيف التعليمي، ولذا لا يوجد أرشيف بالمعنى المتعارف علمياً في اليمن".
عند الحديث عن المسرح والتلفزيون، تبرز مشكلة الأرشيف. إذ يغيب الأرشيف ليس بسبب الرغبة المستعصية في تدمير الذاكرة فحسب، وإنما لعدم الاكتراث في المقام الأول للحفظ والتوثيق. بالنسبة لنا نحن اليمنيين، فنحن مثل بقية العرب، ننتمي إلى بيئة شديدة التعلق بالصوت، ولذا نجد اليمنيين يحبّون الشعر، ويرددونه في حياتهم الشخصية، ويحلّون به القضايا الاجتماعية بين القبائل، ولكن لن نجد من يهتم بالحفظ والتدوين والأرشفة كما يؤكد الباحث في الإثنوغرافيا جيرهولم. وهكذا يمكن قياس هذا الرهان على التاريخ الشفوي حتى بالنسبة إلى المؤسسات والهيئات والسلطات الحاكمة على مستوى المسرح والتلفزيون.
وإذا كانت الذاكرة اليمنية قد قُوّضت باستمرار منذ القرن الماضي، فإنها اليوم تشهد تصفيةً أيديولوجيةً منظمةً من قبل جماعة الحوثي (أنصار الله)، منذ انقلابها على الدولة في العام 2014؛ حيث قامت بقصف مقر التلفزيون في العاصمة صنعاء، وأوقفت نشاط المسرح نهائياً، ومنعت الغناء في الأعراس (وهو المكان الوحيد الذي يُقام فيه الغناء في اليمن). وإمعاناً في اضطهاد الذاكرة، أتلفت جميع المسلسلات والأفلام والوثائق التي أُنتجت في فترة الثمانينيات والتسعينيات، وقامت بصنع بطل يمني جديد في مسلسل "باقة ورد"، يتوافق مع فكر الإمامة الأيديولوجي. بناءً على ذلك، فإن الأفظع من انتهاك الأرشيف التلفزيوني والمسرحي، هو خلق مناخ قمعي مرعب يمنع ظهور أي عمل فني، لأنه لا يلغي الأرشيف المستقبلي فحسب، بل يلغي فعل الذاكرة نفسه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.