تملك رقية الطوقي 17 نوعاً من الأواني الفخارية في منزلها، ما بين مقلى وقٍدْر ومسحقة هرس ومبخرة أو مجمر للبخور وكوز وجرة، وما تزال ترغب في شراء المزيد.
تقول لرصيف22: "الأكل اليمني مرتبط بالمقلى الطيني أو الحجري، الذي يبقى ساخناً إلى أن نكمل وجبتنا، كما أن الطعام في الفخار له رائحة عالقة في ذاكرة المذاق، ومرتبطة بالقرية وما تصنعه جدتي. هذه الأواني تحافظ على مذاق اللحمة والخضروات والفول والعصيد دون أن تتعرض لحرارة عالية تفقدها مكوناتها، كما أن الفخار لا يصدأ ولا تتكون عليه طبقات احتراق كما يحدث في معادن الطهو".
وتحتاج رقية هذا العدد من الأواني بأحجامها المختلفة للتجمعات العائلية والمناسبات الاجتماعية. وتضيف: "ما أمتلكه لا يكفي أحياناً، فأستعير الفخار من الجيران في التجمعات لتحضير وتقديم الأكل الشعبي".
اليمن هو ربما البلد الوحيد الذي يستخدم سكانه حتى اليوم أواني طهو الطعام القديمة المصنوعة من الفخار.
كما أعادت خيرية الحرازي استخدام القِدْر المصنوعة من الفخار الذي يحد من تلف الطعام إذ يعزل حرارة الطقس، وبذلك تتمكن عائلتها من تناول اللحمة مطبوخة لمدة أسبوع دون أن تتلف في حرارة الغرفة، بعد تخليصها من المرق وتقليبها على النار لتصبح شبه مجففة دون أن تحترق، مستفيدة من قدرة الفخار على إنضاج الطعام على نار هادئة، وبكمية مياه أقل، ما يحافظ على المذاق الجيد والقيمة الغذائية، ودون أن يحترق الطعام أو يتلف الفخار حتى إن وضع على الفحم في ظل أزمات الغاز التي يعاني منها اليمنيون.
هل رأى أحدكم فخاراً من حجر أو طين يعبر المطارات في حقائب المسافرين في زمن الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي؟ هل ما تزال المطابخ في الشرق والغرب تستخدم أواني طهو الطعام المصنوعة من تراب الأرض وصخوره؟ أو تحرق الخشب كوسيلة لتحضير وجبة الغداء في قلب عاصمة بلد ما؟ هل ما يزال البشر يشربون المياه من الجرة وكأنهم على متن سفينة الصحراء؟ هل ترى أن هناك فارقاً في المذاق بين خضروات فُرمت بالخلاط الكهربائي أو بين قطعتي حجر؟
الفخار على مائدة اليمنيين
اليمن هو ربما البلد الوحيد الذي يستخدم سكانه حتى اليوم أواني طهو الطعام القديمة المصنوعة من الفخار، لارتباطها بالمأكولات الشعبية والعادات والتقاليد القديمة، فالمسحقة وهي حجر مسطح محفور من المنتصف ما تزال آلة لتحضير السحاوق "الصلصة الحارة" في البيوت ومطاعم المهجر رغم وجود الخلاط الكهربائي، ويقدم السحاوق أيضاً في المسحقة رغم حجمها ووزنها الثقيل.
ولا يخلو بيت تقريباً من الفخار، بهيئة أواني الطهو وأوعية حفظ اللحوم وأباريق تبريد المياه والمباخر والتماثيل والتحف التذكارية، فاستخدام الفخار في المعيشة اليومية ثقافة مجتمعية، ويعتقد اليمنيون بأن الشرب من الفخار ينقّي المياه ويزودها بالأملاح والمعادن الموجودة في تربة الأرض وصخورها، وبأن طهو الطعام في الفخار يحافظ على القيمة الغذائية للخضروات واللحوم.
ورغم إقبال الناس على شراء الفخار ما تزال أسعاره في الحد المعقول، قياساً لارتفاع سعر الأواني المنزلية المصنوعة من الزجاج والبلاستيك والألمنيوم والسيراميك والنحاس المنتج عبر المصانع، وقياساً لقيمته التراثية والأثرية، وعمره الافتراضي المقاوم للزمن.
الأكل اليمني مرتبط بالمقلى الطيني أو الحجري، الذي يبقى ساخناً إلى أن نكمل وجبتنا، كما أن الطعام في الفخار له رائحة عالقة في ذاكرة المذاق، ومرتبطة بالقرية وما تصنعه جدتي
كما تفرض المناسبات الاجتماعية الإبقاء على تناول المأكولات الشعبية التي تحضر وتقدم في الفخار مثل السلتة أو الفحسة أي خليط الخضروات واللحمة والحلبة، وكذلك العصيد والهريش أي حبوب الذرة والدخن والشعير المطحونة مضافاً إليها العسل والسمن أو الزبدة مع الحليب وحساء اللحم، وهي مأكولات يجب تناولها ساخنة، ضمن المقلى المصنوعة من الحجر أو الطين والذي يحتفظ بالحرارة طويلاً، كما تحتفظ القلة أو الجرة بالماء بارداً.
وكما أن الوجبة الشعبية جزء من المزاج العام في اليمن، فالمباخر اليمنية المرتبطة بتاريخ البلاد مع تجارة البن واللبان والبخور، وتنتشر في كافة المحافظات أيضاً.
تجارة الطين والحجر
ينتج الفخار عن عملية حرق الطين بالنار في فرن بدائي مصنوع من الحجر يسمى القمين، بعد تشكيله وتلوينه وتزيينه، وتمنحه الحرارة القوة لمقاومة تأثيرات الزمن وتقلبات المناخ، وهو فرن مشابه لما يستخدم في تجهيز الطوب الأحمر أو الآجر.
وفقاً لموقع السياحة التابع للمركز الوطني للمعلومات اليمني، تُرجع البعثة الإيطالية صناعة الفخار في اليمن إلى حوالى عام 2600 قبل الميلاد، ويؤكد رئيس قسم الآثار بجامعة صنعاء عبده عثمان غالب ذلك في حديثه لرصيف22، إذ يشير إلى العثور على فخار بلا معالم واضحة خشن الملمس، من النوع البسيط جداً في صناعته، في مواقع مختلفة في البلاد.
وما تزال صناعة الفخار رائجة على الأغلب من خلال مشاريع عائلية في أماكن يمنية متفرقة، وعلى الأخص منطقة تهامة في محافظة الحديدة ذات درجات الحرارة المرتفعة قياساً إلى المدن اليمنية الأخرى، فهي من المناطق التي حافظت على صناعة الفخار بأنماطها التقليدية وألوانها الزاهية. وتختلف جودة الفخار باختلاف الطين والحجر تبعاً للمنطقة الجغرافية وفوارق التضاريس والمناخ.
يقبل الناس على شراء التنور والفرن الحديدي محلي الصنع لصنع الخبز والمعجنات في البيت، نتيجة الظروف المعيشية الصعبة، والعودة للمسحقة الحجرية ومحاولات الاستغناء عن الخلاط الكهربائي واللجوء إلى أواني الفخار لإبقاء الطعام ساخناً خصوصاً في شهر رمضان
يقول الحرفيون في سوق المدر للفخار في صنعاء القديمة، إن صناعة الفخار حرفة متوارثة ما تزال تلقى رواجاً رغم وجود أواني المطبخ الحديثة، لارتباطها بالمأكولات الشعبية التي ما تزال أطباقاً معتمدة على السفرة اليمنية يومياً، زيادة على كون الفخار أحد الأدوات القديمة التي أعادها الناس في زمن أزمات الكهرباء والغاز مثل القنديل وتنور الحطب ومكنسة القش. ولكون الفخار نتاج الأرض ومصنوع من الطبيعة، فإنه قابل للتدوير دونما مخاطر بيئية، قياساً للمواد المصنعة وغير القابلة للتحلل.
يمتهن ناجي عبد الودود حرفة صناعة الفخار منذ صباه، ويقول لرصيف22: "هي حرفة لا تدر مالاً رغم أننا نصنع الفخار يومياً، قياساً إلى الجهد المبذول، لكن صناعة الفخار صارت جزءاً من تكويني. يكفي أنه مصنوع من طين وكذلك الإنسان".
وعن تطور صناعة الفخار يتحدث: "كان الفخار يأتي بأشكل غير منتظمة، والطين ممتلئاً بالشوائب والخشب ويتطلب تجفيفه وحرقه أياماً، لكنه أصبح اليوم سريع الصنع مستوياً ونقياً وبأحجام وألوان وتشكيلات جذابة ورخيص الثمن. ويتفاوت سعر مقلى الفخار بين 6 و 15 دولاراً حسب حجمه ونوعيته".
كما أصبح العم ناجي يعيد إصلاح الفخار المكسور، فالبعض يصنعه بدون خبرة ولا أمانة، فيشكو الزبائن من تسرب الماء والطعم السيئ للمأكولات فيه.
صناعة الفخار حرفة متوارثة ما تزال تلقى رواجاً رغم وجود أواني المطبخ الحديثة.
وعن مستقبل حرفة الفخار يرى بأنها ستبقى رغم تفضيل الناس الفخار المستخدم الذي تعرض للنار كثيرًا؛ "لأن الفخار ليس مركونًا كتراث بل مستخدمًا يتناول اليمنيون طعامهم وشرابهم منه".
ويتحدث سليم مدقه أحد بائعي الفخار في منطقة دارس في صنعاء عن إقبال الناس على شراء التنور والفرن الحديدي محلي الصنع لصنع الخبز والمعجنات في البيت، نتيجة الظروف المعيشية الصعبة، والعودة للمسحقة الحجرية ومحاولات الاستغناء عن الخلاط الكهربائي واللجوء إلى أواني الفخار لإبقاء الطعام ساخناً خصوصاً في شهر رمضان، للحيلولة دون تسخين الطعام نتيجة أزمة الغاز المنزلي أو ارتفاع ثمنه فوق قدرة الناس الشرائية، كما أعاد توقف التيار الكهربائي الناس إلى تبريد المياه طبيعياً بوضعه في الجرة أو القلة.
وبازدهار تجارة الفخار لم يعد بيعه مقتصراً على الأسواق الشعبية مثل سوق المدر في صنعاء القديمة، إذ باتت المجمعات التجارية الضخمة تخصص زاوية للفخار، كما أصبح التجار يجلبون الفخار معهم في أحد أيام الأسبوع المخصصة لعرض البضائع كموروث ثقافي، ولا يخلو متجر للأواني المنزلية من الفخار.
ولم يعد التنافس بين مصنعي الفخار على جودة الطين أو الحجر والمواد الداخلة في صناعته فحسب، بعد أن أصبحت الألوان وأدوات التشكيل والتزيين مجالاً للتنافس، وتحديداً المباخر كونها تحفة فنية زيادة على كونها مكاناً لوضع الفحم المشتعل والبخور اليمني الذائع الصيت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 10 ساعاتمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
Ahmed Adel -
منذ 3 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ أسبوعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعاخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.