اليمن أرض الملكات... من ملكة سبأ حتى الملكة الشيعية السيدة الحرة

ربما تكون السيدة الحرة، المعروفة أيضاً بالملكة السيدة، أشهر وأقوى امرأة في تاريخ الشيعة والإسلام. لكن من هي تلك المرأة؟ وهل كانت من سلالة بلقيس ملكة سبأ في اليمن؟ يتردد اسمها أكثر من اسم أي امرأة أخرى في تاريخ اليمن المضطرب، بل أكثر من اسم أي حاكم آخر للبلاد. وكانت السيدة الحرة أقوى امرأة في حكومة شيعية وفي تاريخ اليمن، ربما بعد بلقيس.

في مرحلة من تاريخ اليمن، تحديداً في العصور الوسطى، عندما كان التياران الشيعي والزيدي ضعيفين جداً، تمكّن الشيعة الإسماعيليون من الاستيلاء على الحكومة في اليمن، وذلك بهيئة الصالحين، ومن هنا تبدأ قصة السيدة الحرة ملكة اليمن.

1 – اليمن... الجزيرة العربية السعيدة أو أرض سبأ

قام الفيلسوف اليوناني الكبير بطليموس، في القرن الثاني الميلادي، بتقسيم الجزيرة العربية إلى ثلاثة أجزاء هي: "الصخرية" و"الصحراوية" و"السعيدة"، فأطلق على اليمن اسم "الجزيرة العربية السعيدة"، لأن لليمن أرضاً جيدةً مليئةً بالغابات والشلالات وطقساً رائعاً وأمطاراً كافيةً.

في مرحلة من تاريخ اليمن، تحديداً في العصور الوسطى، عندما كان التياران الشيعي والزيدي ضعيفين جداً، تمكّن الشيعة الإسماعيليون من الاستيلاء على الحكومة في اليمن، وذلك بهيئة الصالحين، ومن هنا تبدأ قصة السيدة الحرة ملكة اليمن

تُعرف أرض اليمن في القرآن والعهد القديم، من خلال قصة النبي سليمان وملكة سبأ بلقيس، الملكة العابدة للشمس التي كانت تحكم اليمن، قبل أن تلتقي بسليمان وتصبح موحدةً مؤمنةً بإله سليمان، إذ وفقاً للقرآن، تعرّف النبي سليمان من خلال طائر الهدهد، على أرض تحكمها امرأة تعبد هي وشعبها الشمس.

كتب سليمان رسالةً إلى ملكة سبأ، ودعاها إلى اتّباع دينه، وردّت بلقيس على الرسالة، بإرسال هدية إلى سليمان لمنع حدوث أي حرب، لكن سليمان لم يقبل الهدية، لذا ذهبت ملكة سبأ إلى سليمان لتتحدث معه، وأحضر سليمان عرش الملكة إلى قصره قبل وصول الملكة نفسها، وذلك باستخدام الكائنات السحرية والجن الذين كانوا تحت تصرفه، وعندما وصلت ملكة سبأ إلى قصر سليمان ووجدت عرشها هناك، تحدثت إلى النبي وآمنت بإلهه.

صورة للملكة بلقيس

لكن بحسب العهد القديم، فإن ملكة سبأ التي سمعت بشهرة سليمان، أتت إليه من باب الفضول وطرحت عليه أسئلةً وحصلت على إجابات حكيمة ومناسبة، كما أنها رأت القصر الجميل والطعام الملكي ومراسم البلاط والخدمة المنتظمة والسقاة والذبائح المقدمة في قصر سليمان، فجعلها كل ذلك مفتونةً بدين سليمان وإلهه.

ولم يذكر القرآن مكان لقاء سليمان وملكة سبأ، لكن بحسب ما ورد في بعض المصادر الإسلامية، فإن اللقاء تم في مكان آخر غير بيت المقدس، وفي أثناء رحلة سليمان إلى مكة، حسب العهد القديم، اجتمعا في قصر سليمان في بيت المقدس.

وبينما اسم ملكة سبأ ليس موجوداً في القرآن أو العهد القديم، فإن قصتها متجذرة في التاريخ، وبحسب الكثير من المفسرين والمؤرخين كان اسمها "بلقيس"، لكن تاريخ هذا الاسم غير معروف بالتحديد، ويعدّه البعض مشتقاً من الكلمة اليونانية (Pallaxis)، التي تعني الفتاة العذراء، وقد ذكروا لها مرادفات في اللغتين الآرامية والعبرية، وقد عدّ البعض أن أصلها اليوناني يعني نوعاً من الآلات الموسيقية، وقد ذكروا لها مرادفات في اللغات السومرية والأكادية والبابلية واللاتينية، إذ يرى بعض المؤرخين أن اسم بلقيس مشتقٌ من مفردة (Pairika) "باريكا"، في اللغة الفارسية القديمة.

من المعروف أن ملكة سبأ وُلدت في مدينة مأرب اليمنية، التي تُعدّ إحدى المدن القديمة في العالم، إذ كانت في تلك الفترة عاصمةً لمملكة بلقيس وغيرها من حكام اليمن، وكانت تُعرف بأرض الجنّتين عند العرب. كما يُعدّ سد مأرب القديم أحد المعالم التاريخية لليمن، وهو السد الذي تم بناؤه قبل 500 عام من ميلاد المسيح، بين جبلي بلق الأيمن وبلق الأيسر، وذلك في عهد عبد الشمس موسى.

وبحسب المحدث والعالم السوري في القرن السادس الهجري، ابن عساكر، فإن ملكة سبأ حكمت اليمن لمدة تسع سنوات قبل لقاء النبي سليمان، وبعد ذلك جلست على عرش الحكم لمدة أربع سنوات نيابةً عن سليمان، وعدّ بعض الباحثين أن بلقيس كانت معاصرةً لسليمان، أي أن عهد بلقيس تزامن مع منتصف القرن العاشر قبل الميلاد.

2 – الإسماعيلية والزيدية والصلاحيون

على الرغم من وجود الكثير من الغموض في تاريخ اليمن، إلا أنه يمكن القول بشكل عام إن مملكة سبأ حكمت اليمن من 950 إلى 115 قبل الميلاد، وكانت لفترة قصيرة تابعةً لمملكة سبأ وملكتها بلقيس.

ومع سقوط الدولة السبئية، أصبحت المنطقة بأكملها تحت سيطرة "الحميريين" الذين استمر حكمهم حتى القرن السادس الميلادي. وفي عام 525، تم القضاء على السلالة الحميرية على يد الجيش الحبشي، كما هزمهم الجيش الإيراني في عام 575 خلال الفترة الساسانية. وفي عهد الملك الإيراني كسرى الأول، أصبح اليمن تحت سيطرة الحكومة الساسانية في إيران، حتى ظهور الإسلام، حيث من المعروف أن قبائل اليمن اعتنقت الإسلام بعد ظهوره مباشرةً.

بعد وفاة نبي الإسلام محمد، انقسم المسلمون إلى مذهبين رئيسيين، السنّة والشيعة، كما عانى المذهب الشيعي من الانشقاقات عبر التاريخ، إذ خرجت منه مذاهب فرعية، مثل: "الإسماعيلية" و"الزيدية" و"الإمامية والاثني عشرية". ويعتقد الإسماعيليون أنه بعد وفاة الإمام السادس جعفر الصادق، خلفه ابنه إسماعيل، بينما الشيعة الإثني عشرية يعدّون موسى الكاظم إمامهم السابع.

والزيدية هي أيضاً إحدى فرق الشيعة، ويعتقد أتباعها أن الإمامة بعد علي بن أبي طالب والحسن والحسين والسجّاد وزيد بن علي، تصل إلى كل ذكر من ولد يكون من سلالة السيدة فاطمة بنت نبي الإسلام وزوجة الإمام الأول للشيعة علي بن أبي طالب، ويكفي أن يكون عادلاً وحكيماً وشجاعاً، فيبايعه المؤمنون (من شروط الزيدية في الإمام أن يخرج).

وقد افترقت هذه الطائفة عن سائر الشيعة في أوائل القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي، وشكّل الزيديون حكومةً في اليمن وطبرستان والمغرب العربي، وحكم الأئمة الزيديون اليمن لمدة أحد عشر قرناً تقريباً. انتهت حكومة الأئمة الزيدية في اليمن، بعد انقلاب الجمهوريين والعلمانيين عام 1962 وتأسيس الجمهورية اليمنية.

وُلد مؤسس المذهب الصليحي الشيعي علي بن محمد الصليحي، في عائلة سنّية، لكنه تأثر في سن مبكرة بالداعية الإسماعيلي سليمان الرواحي، وبذلك تحول إلى المذهب الإسماعيلي، حتى بلغ درجة المرجعية في هذا المذهب الشيعي، كما كانت لديه خبرة ومعرفة بالمذاهب الأخرى.

من أبرز حكام الحكومة الصليحية، امرأة تُدعى "أروى" المعروفة بالسيدة الحرة، والتي عُرفت بأنها أعظم حاكمة في تاريخ الشيعة والإسلام نظراً إلى قدراتها في الإدارة وسلطتها في الحكم

كان الصليحي عالماً فقيهاً وشاعراً مشهوراً، وملكاً قوياً ومتسامحاً في الوقت نفسه، إذ كان يحج كل عام بهدف كسب المزيد من الأتباع والمساعدين، ولنشر أفكاره بين الحجاج. في عام 1047، استولى على قلعة مسار التي تقع في منطقة حراز غرب صنعاء، ومن هناك دعا إلى تشكيل حكومة توحّد اليمن، وبعد ذلك وسّع الصليحي فتوحاته.

قبل عام 1063، كانت الحكومة الصلحية تمتد من حضرموت إلى مكة، وفي عام 1067، قُتل علي بن محمد الصليحي، الذي كان في طريقه إلى الحج حسب العادة، على يد قبيلة بني نجاح في منطقة المحجم (بالقرب من زبيد)، وأسر سعيد الأحول زوجته الأولى وقتل زوجاته الأخريات.

3 – السيدة الحرة... حاكمة اليمن القوية

ومن أبرز حكام الحكومة الصليحية، امرأة تُدعى "أروى" المعروفة بالسيدة الحرة، والتي عُرفت بأنها أعظم حاكمة في تاريخ الشيعة والإسلام نظراً إلى قدراتها في الإدارة وسلطتها في الحكم. بعد قرن من الدعوة الإسماعيلية، استولى المسلمون على السلطة في اليمن وجعلوا صنعاء عاصمةً لهم، وألقوا الخطب باسم الإمام الفاطمي في جميع أنحاء اليمن.

صورة للسيدة الحرة

علي بن محمد الصليحي، الذي كان من أصل إيراني، أسس الحكومة الصليحية في اليمن، وكان متزوجاً من ابنة عمه أسماء بنت شهاب. أطلق علي بن محمد، على زوجته لقب "ملكة اليمن"، وأعطاها صلاحيات كبيرةً لإدارة شؤون البلاد، كما أمر بقراءة خطبة الجمعة باسمها، وكان هذا العمل فريداً من نوعه بين العرب آنذاك.

بعد وفاة علي بن محمد الصليحي، أصبح ابنه أحمد داعية اليمن بأمر من الخليفة الفاطمي المستنصر بالله، وتزوج بامرأة ترعرعت في حضرة والدته العالمة منذ أن كانت طفلةً، وهذه الفتاة هي السيدة الحرة.

بعد فترة أصيب أحمد في الحرب، وتوفيت والدته أسماء أيضاً، وتولت السيدة الحرة شؤون الحكومة الصليحية في اليمن طوال 40 عاماً تقريباً، ونقلت العاصمة من صنعاء إلى مدينة جبلة، وبوفاة زوجها أحمد، أطلق الخليفة الفاطمي المستنصر بالله على السيدة الحرة لقب حجة اليمن، وبذلك كانت أول امرأة تصل إلى منصب الحجة الرفيع، وصُكّ باسمها ختم قيادة اليمن.

وفي زمن السيدة الحرة بلغت العلاقات بين إمارة اليمن وخلفاء مصر الفاطميين ذروتها، حيث تزامنت مع فترة الازدهار وذروة قوة الفاطميين في مصر، كما أرسلت الملكة أروى مبشرين إسماعيليين إلى الهند للترويج للدين الإسماعيلي بين المسلمين الجدد في الهند.

حكمت السيدة الحرة حتى عام 532، وكانت ثاني ملكات اليمن بعد حماتها، ولعل شعب اليمن هو الأمة العربية الوحيدة التي تمتعت نساؤها بحقوق اجتماعية بهذا المستوى عبر تاريخ الإسلام. وكانت السيدة الحرة امرأةً مشهورةً بين الناس حتى أنه يُطلَق عليها في الأدب الشعبي اليمني لقب "بلقيس الصغرى".