شيئان أو سلوكان يثيران في نفسي مزيجاً من الحزن وربما الخجل حين استرجعهما من فترة السجن. كان ذلك في الفترة الأولى لنا في السجن، وكانت في سجن "الشيخ حسن" في باب مصلى في دمشق، حين كانت عواطفنا وانفعالاتنا تقودنا، قبل أن يتكفل السجن، ليس فقط بوصفه سجناً بل بوصفه حياة أيضاً، في إعادة الأمور إلى نصابها، وإعطاء العقل، وقد نال نصيباً من النضج، حقه في التقرير.
السلوك الأول يتعلق بسجين متهم بأنه ينقل أخبار المهجع إلى الشرطة. قيل لنا منذ دخولنا المهجع، ومن قبل "أبناء تهمتنا"، أي من قبل من لا نشك في معرفتهم ولا في تقييماتهم، أن هذا الرجل (وكان اسمه عمران) مخبر، وأن علينا الانتباه منه. لا أنسى كيف رحت أتأمله، على غفلة منه، كي أشبع نظري من هذه الظاهرة التي كانت عصية على فهمي. بالنسبة لنا، كانت رؤية سجين مخبر تعادل، في غرابتها، أن ترى كائناً فضائياً. كيف يكون المرء مخبراً لسجّانيه؟ وما نوع هذه الحقارة الذي تنطوي عليها نفسه حتى يقبل أن يؤذي سجناء يعيش معهم ليل نهار؟ ومقابل ماذا؟
لقد فعلت أميركا ما كان حزب البعث الشقيق في سورية يريد أن يفعله بشقيقه العراقي، على مدى سنوات العداء بين الشقيقين... مجاز
كان عمران سجيناً بتهمة "بعث العراق"، ولم يكن ليخطر في بال أحد حينها أنه بعد عقدين من الزمن سوف نشهد اجتثاثاً أمريكياً للبعث في العراق. لقد فعلت أميركا ما كان حزب البعث الشقيق في سورية يريد أن يفعله بشقيقه العراقي، على مدى سنوات العداء بين الشقيقين، وهو ما كان في الحقيقة السبب في سجن عمران، ذي الهوى العراقي، بعد عودته من زيارة له إلى أقارب له في بغداد. ولكن الطريف أن الاجتثاث الأميركي جاء بعد أن كفّ الحزبان الشقيقان عن العداوة المتبادلة لأنهما أحسا بالخطر الأمريكي المشترك حينها.
المهم أن عمران كان شخصاً بسيطاً في اهتماماته، لا تعنيه السياسة ولا الثقافة بشيء، ويبدو أنه كان من عائلة لها موقع مهم في العشيرة التي ينتمي إليها في الجزيرة السورية. سمعت منه مرة قصة تقول إن رئيس فرع الأمن السياسي أرسل إلى أبيه من يقول له إن الإفراج عن ابنه لا يكلفه سوى شرب فنجان قهوة في مكتب رئيس الفرع، يعود بعدها إلى بيته برفقة ابنه، ولكن الأب رفض، فقد رأى في ذلك تقليلاً من قيمته.
لم أجد في نفسي ما يمكن أن يغفر "تهمة" عمران، ولم أجد أيضاً ما يستلزم مني التدقيق في صحتها. والحقيقة أنها كانت صحيحة، كما تبين لي لاحقاً، ولكنها لم تكن على قدر تام من الصحة، أقصد إن الرجل لم يكن "مخلصاً" في نقل ما يرى، فقد كان يعفّ عن أشياء يراها، كما لاحظنا أكثر من مرة. وفي بعض الأحيان كان يستخدم ثقة الشرطة به لتقديم بعض الخدمات للمهجع، منها مثلاً أنه عمل على تهريب كتاب من مخزن المصادرات إلى المهجع، وأذكر أنه كان باللغة الإنكليزية، عن حرب السويس أو ما نسميه العدوان الثلاثي. كما أنه كان ينقل إلى المهجع بعض الأخبار التي تتناهى إلى سمعه من الشرطة، أي كان يقوم بدور المخبر باتجاهين.
قصة الاتجاهين لم تكن جديدة على عمران فيما يبدو، ففي إحدى زيارات رئيس الفرع إلى السجن، تقدم منه "المخبر" وسأله عن سبب الاحتفاظ به كل هذه المدة (حوالي ست سنوات حينها)، فأجابه العقيد ذو النظرة الرخوة الواثقة المتعالية بسؤال آخر: "هل أنت العميل المزدوج؟".
كان الشخص ودوداً وخدوماً، والحق أنه كان مهذباً، لكن ما الذي يمكن أن يشفع لمخبر؟ ثم كيف يمكن أن نعرف إن كان تهذيبه ووده ومسكنته طبيعة فيه أم أنها بفعل الحصار الذي فرضناه عليه؟ كان قرارنا بمقاطعته قطعياً، ولم نكن حينها العدد الأكبر في المهجع فقط، بل والجزء الأكثر حيوية، لأننا كنا الأصغر سناً والأحدث سجناً. أذكر كيف كان يجلس جانباً بينما نحن نلعب ونتمازح وفي عينيه رغبة في المشاركة، فهو لم يكن يكبرنا كثيراً في العمر. غالباً ما كان يشاركنا من عزلته، فيضحك كما نضحك، ويقترب أحياناً لمشاهدة دق شطرنج، وأحياناً يمكن أن يدفعه نزوعه الاجتماعي إلى أن يتجاهل المقاطعة ويخاطب أحداً منا آملاً أن يلقى رداً، وقد كان بعضنا أقل قسوة من بعضنا الآخر في هذا الجانب.
ولكن ليس كل ما سبق هو الذي يثير في نفسي شعور الندم، فمهما يكن، من الطبيعي أن يحمي السجناء، وغير السجناء، أنفسهم من المخبرين، حتى لو كان في هذه الحماية بعض القسوة على "المتهمين". ما يثير الحزن في نفسي هو الضغط الذي مارسناه، ومارستُه بصورة أكبر من غيري ربما، ليس على عمران، بل على عبد الحميد فيما يخص علاقته مع عمران.
عبد الحميد كان واحداً من مجموعة الأصدقاء الجامعيين الذين أثقلوا على صدر دولة البعث بأنهم كانوا يلتقون في غرفة ما، يناقشون كتاباً ويستحضرون ما علق في أذهانهم منه، فوجدوا نفسهم، دون أن يسمّي عليهم أحد، في قبو فرع الأمن السياسي في دمشق، تحيط بهم الجدران والخيزرانات والدواليب والكره والعدوانية، قبل أن يجري خنقهم في حوض مغلق من الزمن اللزج المرقم الذي يسمونه السجن.
وعبد الحميد هو الوحيد من هذه المجموعة القادم للدراسة في دمشق من منطقة الجزيرة السورية، المنطقة التي ينحدر منها عمران أيضاً. في الأيام الأولى استأنس عبد الحميد كثيراً بعمران، تجمعهما اللهجة والبيئة والشخصيات المعروفة والحكايات الشائعة، الطريف منها والمأساوي، والأكلات الشعبية هناك ولاسيما الثرود. يقضيان نصف ساعة التنفس معاً، وينزويان في المهجع وقد وجد كل منهما راحة نفسه مع الآخر. كان ذلك قبل قرارنا بمقاطعة "المخبر" الذي فرض على عبد الحميد قطع علاقته مع عمران تحت طائلة قطع علاقته مع أصدقائه و"أبناء تهمته".
التزم عبد الحميد بالقرار، ولكن حين كانت تضيق روحه بالسجن وتدفعه للبحث عن نافذة لا توفرها لها ألعابنا وتسالينا، كان يراوغ ويسرق بعض التواصل مع عمران الذي كان بدوره ينتظر بقلب عطشان مبادرات عبد الحميد هذه، كأن يستشيره في أمر يتعلق بصناعة مسبحة من نوى الزيتون، أو يسأله عن مثل شائع لديهم في المنطقة، أو يمشي معه في التنفّس دورة أو دورتين، فقد كان تنفّسنا في ذلك السجن دوراناً حول المبنى في ممر لا يتجاوز عرضه المترين، محصور بين المبنى وسور عال يحيط به.
عبد الحميد كان واحداً من مجموعة الأصدقاء الجامعيين الذين أثقلوا على صدر دولة البعث بأنهم كانوا يلتقون في غرفة ما، يناقشون كتاباً ويستحضرون ما علق في أذهانهم منه، فوجدوا نفسهم في قبو فرع الأمن السياسي في دمشق... مجاز
ولكن أنّى لمراوغات عبد الحميد أن تفلت عن أنظارنا! فبعد كل تواصل ممنوع سوف يسمع تنبيها أو توبيخاً أو تحذيراً، لأن مثل هذا التراخي في التعامل مع "مخبر" لا يجوز. والحقيقة أن قرار المقاطعة كان يشمل أحياناً بعض السجناء الكبار في السن الذين كانوا يتعاملون مع عمران. أحد هؤلاء، وكان سجيناً بتهمة "23 شباط"، وكما لو أنه كان يناكدنا، فلم يكن يكتفي بعلاقة عادية مع عمران، بل كان يعتني به. صحيح أن الرجل كان يستفيد من خدمات عمران الكثيرة، ومنها أن يقوم بدور السخرة كاملاً نيابة عنه، لكنه نال منا قسطه من عدم الرضى والازدراء والفتور.
بعد مدة ليست طويلة، أُسعف عبد الحميد إلى المستشفى بسبب بحصة في المثانة منعته من التبوّل، فوضعوا له قسطرة بولية، وكثيراً ما كرّر لنا وهو يضحك بتفاخر خجول أنهم اضطروا إلى استخدام أكبر مقاس من القساطر لديهم. ثم بعد مدة أخرى ألم بعبد الحميد مرض عصبي على شكل نوبات تجعله متشنّجاً كلوح من الخشب ويغدو عاجزاً عن الكلام. نقل إلى المشفى في المرة الأولى، وفي المرة الثانية لم يعد إلى السجن، فقد أفرج عنه بسبب هذا المرض الغريب.
يصعب تبرئة قرار المقاطعة ذاك من الحالة التي وصلها عبد الحميد، كما يصعب أن يقتنع المرء بأن قرار المقاطعة ذاك ساهم شيئاً في حمايتنا من "المخبر"، الذي أفرج عنه بعد سنوات من الإفراج عن عبد الحميد، واستخدم من جديد علاقاته مع الشرطة مسنوداً بنفوذ عشيرته، كي يعود إلى السجن زائراً هذه المرة. وهكذا وقف بجلابية بيضاء وشماخ أحمر، رافعاً يديه للجميع من على الطرف الحر من الشبك.
للسلوك المخجل الثاني حديث آخر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه