من الأماكن المفضّلة لدى الإيرانيين خلال عطلة رأس السنة الإيرانية التي تبدأ في أول أيام الربيع، المكان الذي دُفن فيه يعقوب بن ليث الصفّار، في جنوب غرب إيران، تحديداً في مدينة دِزْفول التابعة لمحافظة خوزستان. يتفق المؤرخون الإيرانيون جميعهم على أن هذا الشخص دُفن في مدينة جندي شابور، لكن موقع هذه المدينة القديمة غير معروف على نحو مؤكد. على الرغم من ذلك، يعتقد معظم الإيرانيين أن قبر يعقوب بن ليث يقع في قرية شاه آباد، على بعد عشرة كيلومترات من مدينة دزفول. من هو هذا الشخص الذي يحترمه الإيرانيون كثيراً؟
كان يعقوب بن ليث الصفّار، حدّاداً من جنوب إيران. عرفه الناس قبل وصوله إلى سدة الحكم، "عيّاراً"، والعيار هو الشخص الذي يأخذ المال والممتلكات بالقوة من الأغنياء ويعطيها للفقراء. تمكّن يعقوب بمثابرته وشجاعته التي لا مثيل لها، من الإطاحة بالحكومة الطاهرية القوية في خراسان، وأسس السلالة الصفّارية، بعد قرنين من فتح المسلمين لإيران. كان أول ما فعله بعد وصوله إلى سدة الحكم، منع استخدام اللغة العربية في البلاد التي كانت تُعدّ اللغة العربية فيها لغةً رسميةً، وجعل اللغة الفارسية هي اللغة الرسمية في بلاطه وجميع أراضي حكومته التي كانت تشمل أجزاء من إيران وأفغانستان وطاجيكستان وباكستان وتركمانستان.
يعقوب بن ليث، الذي عدّ نفسه من نسل الساسانيين الذين كانوا يحكمون إيران قبل الإسلام، استبدل اللغة العربيةَ باللغة الفارسية، من أجل إحياء الثقافة الإيرانية القديمة، وقد ذكر المؤرخون أن أحد الشعراء لمّا كتب قصيدةً باللغة العربية في مدح يعقوب وقرأها عليه، قال له الأخير: "لماذا لا تكتب الشعر باللغة الفارسية؟ لا ينبغي أن تقول أي شيء لا أفهمه".
يعقوب بن ليث... الحدّاد الذي أصبح "عيّاراً"
وُلد يعقوب بن ليث الصفّار عام 225 هـ، في أسرة كانت تتخذ من الحدادة مهنةً لها في محافظة سيستان جنوب شرق إيران. لا توجد أي معلومة مؤكدة عن مذهبه أو ديانته، ولكن عدّه البعض على المذهب السنّي، كما عَدّه آخرون من أتباع الديانة الزرادشتية، في حين ذكر البعض أنه من أتباع المذهب الشيعي الإسماعيلي. وبالرغم من أنه لم يعِش طويلاً إذ توفي في سن الأربعين، إلا أن أفعاله ظلّت خالدةً في تاريخ إيران.
كان يعقوب بن ليث الصفّار، حدّاداً من جنوب إيران. عرفه الناس قبل وصوله إلى سدة الحكم، "عيّاراً"، والعيار هو الشخص الذي يأخذ المال والممتلكات بالقوة من الأغنياء ويعطيها للفقراء
بعد أن أسس يعقوب بن ليث، حكومته في سيستان، هاجم أولاً مدينتَي كِرمان وشيراز وفتحهما، ثم ذهب إلى خراسان وفتحها أيضاً، وأخيراً أطاح بالحكومة الطاهرية، وأقام الدولة الصفّارية. كان يعقوب يتمنى أن يُسقط حكومة بني العباس ذات يوم، ففتح محافظة خوزستان بجيش كبير وتحرك نحو بغداد، لكنه هُزم من قبل الجيش العباسي وأصيب بجروح خطيرة.
في نهاية حياته، غزا خوزستان مرةً أخرى بجيشه وخطط للحرب على العباسيين مرةً أخرى، لكنه مرض فجأةً وتوفي بعد فترة وجيزة. يتفق المؤرخون على أن يعقوب بن ليث كان رجلاً شجاعاً وذكياً وذا حنكة سياسية، وأنه لم يتزوج قط، وكان يستضيف الناس العاديين كل يوم في بلاطه وذلك لمتابعة أمورهم من دون أي وسطاء.
الصفّارية... أول حكومة مستقلة في إيران بعد الإسلام
حكَمَ الصفّاريون (861-1003م)، منطقةً شملت أجزاء من إيران الحالية وطاجيكستان وباكستان وأفغانستان وأوزبكستان وتركمانستان. وكان الصفّاريون يدّعون بأن أصولهم تعود إلى سلالة الساسانيين الذين حكموا إيران لقرون قبل دخول المسلمين. بدأ مؤسس السلالة الصفّارية، يعقوب بن ليث، حملتَه في إيران في الوقت نفسه الذي بدأت فيه إمامة الهادي، الإمام العاشر للشيعة الاثني عشرية، وقد عرّفت بعض المصادر التاريخية الصفّاريين بأنهم أتباع للمذهب الشيعي أو الإسماعيلي، كما اتُّهموا بأنهم يوفرون الظروف اللازمة لنموّ المذهب الشيعي في شرق إيران.
بعض المصادر التاريخية، عدّت الصفّاريين بمن فيهم يعقوب بن ليث، من الشيعة. ذكر نظام الملك الطوسي، في كتابه الشهير "سير الملوك"، أن يعقوب بن ليث، كان تحت تأثير شخص يُدعى "أبو بلال"، والأخير دعا يعقوب إلى المذهب الإسماعيلي. وبحسب بعض الباحثين، فإن خلاف يعقوب بن ليث مع الخليفة العباسي والهجوم على كرسي الخلافة، كان لهما تأثير كبير في تصديق الناس لفكرة تشيّع يعقوب.
يعقوب يحارب العلويين
عندما استولى يعقوب بن ليث على خراسان، أصبح حاكم المنطقة الشرقية لإيران؛ لكن الشيعة الزيديين حصلوا أيضاً على السلطة في شمال إيران وكانوا ينتفضون من وقت إلى آخر على حكومة يعقوب، ومن هذا المنطلق أخذ يعقوب جزءاً من قواته لمحاربة الزيديين وتوجه إلى شمال إيران، فهرب الحسن بن زيد إلى الديلم، حيث استطاع أهلها مساندته وأخفوه، ولم يسمحوا ليعقوب بالقبض عليه.
كان يعقوب يتمنى أن يُسقط حكومة بني العباس ذات يوم، ففتح محافظة خوزستان بجيش كبير وتحرك نحو بغداد، لكنه هُزم من قبل الجيش العباسي وأصيب بجروح خطيرة.
لاحق يعقوب الزيديين، حتى وصل إلى منطقة رويان في مازندران، وهناك طلب من الناس الذين ساعدوا الزيديين جزية عامَين مرةً واحدة. كان قاسياً مع الناس إلى درجة أنهم أصبحوا فقراء وكانت لديهم مشكلات في توفير الملابس والطعام، من ثم عيّن يعقوب حاكماً قاسياً على أهل طبرستان ورويان، وذلك عقاباً لهم على عدم تسليم الحسن بن زيد، ولكن الناس هرعوا إلى بيت ذلك الحاكم وقتلوه. بعد هذه الحادثة ذهب يعقوب بنفسه إلى طبرستان، وأشعل النار في المدينة، ولكن في الطريق إلى رويان، هاجم الذباب جِماله وقتلها جميعها، وكانت هذه الضربة الأولى لجيش يعقوب.
بعد ذلك نزلت أمطار غزيرة استمرت أربعين يوماً، وتسببت في متاعب ليعقوب حتى أنه لم يتمكن من تحريك جيشه من تلك المنطقة، ولم تنتهِ مشكلاته هنا، بل زاد الطين بلةً زلزال قويّ ضرب شمال إيران، وبحسب المصادر التاريخية، استمر لثلاثة أيام، وفقد يعقوب على إثر ذلك نحو ألفَي جندي من جنوده.
هذه الأحداث كلها أضعفت قوة يعقوب، وتسببت في هشاشة جيشه، إذ قام بتقدير جيشه وأدرك أنه فقد نحو 40 ألف جندي خلال تلك الأحداث. كلّفته مطاردة الحسن بن زيد، نفقات كثيرةً، وفي الأخير تمكّن يعقوب من العثور على مخبأ الحسن بن زيد وعبد الله بن محمد، اللذين كانا مختبئين في مدينة الري (طهران)، وحينها أرسل يعقوب رسالةً إلى حاكم الري وطلب منه أن يسلمهما إليه. خوفاً من هجوم الصفّاريين، سلّمهما حاكم الري ليعقوب الذي شنقهما بمسامير حديدية على حائط في مدينة نيشابور.
يعقوب والخليفة العباسي
الخليفة العباسي المعتمد بالله، الذي كان خائفاً من ازدياد قوة يعقوب، قام بتكفير يعقوب والتشهير به، كما اتّهمه باتّباع المذهب الإسماعيلي، ووجه إليه الضربة الأخيرة باتهامه بالباطنية، وشاع في كل مكان أن يعقوب اعتنق المذهب الإسماعيلي.
يعقوب بن ليث، الذي عدّ نفسه من نسل الساسانيين الذين كانوا يحكمون إيران قبل الإسلام، استبدل اللغةَ العربية باللغة الفارسية، من أجل إحياء الثقافة الإيرانية القديمة
في تلك الأثناء، اعتقد يعقوب أن ملاحقة العلويين وقمعهم في طبرستان، سيرفعان من شأنه عند الخليفة الذي سيحترمه، ولكن هذا لم يحدث، بل عندما علم الخليفة بضعف يعقوب وقواته، حاول إضعاف موقفه وتدميره كلياً، ولذلك حقد يعقوب على الخليفة العباسي وقرر جمع قواته لمهاجمة بغداد وإسقاط المعتمد العباسي.
هجم يعقوب على بغداد، لكنه هُزم على يد جيش الخليفة العباسي وعاد إلى خوزستان، وعفا الخليفة عنه وأرسل إليه مبعوثاً وطلب منه العودة إلى خراسان، لكن يعقوب لم يقبل، وأرسل طبقاً من الكراث والسمك والبصل مع مبعوث الخليفة، وقال: "أخبر الخليفة بأنني حداد وهذا طعامي، وقد اكتسبت ثروتي من خلال 'العيارة' ولم آخذ ميراثاً قط. لذا، لن أرتاح حتى أخرجك أنت وعائلتك، فإما أن أصل إلى هدفي أو أعود إلى طعامي البسيط".
كان يعقوب بن ليث الصفّار، يستعد للانتقام من الخليفة العباسي، لكن مرضه لم يسمح له بذلك، وتوفي عن عمر يناهز الأربعين، واليوم يُعدّ قبره في جنوب غرب إيران مكاناً يتجمع فيه محبّو اللغة والثقافة الفارسيتين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...