شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
برغم الازدهار حدثت ثورة... ماذا جرى في غزّة تحت حكم محمد علي باشا؟

برغم الازدهار حدثت ثورة... ماذا جرى في غزّة تحت حكم محمد علي باشا؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ نحن والحقيقة

الثلاثاء 14 مايو 202402:24 م

بين عامَي 1831 و1840، خضعت غزّة لحكم محمد علي باشا، إذ كانت جزءاً من حملة وجهها للسيطرة على فلسطين وبلاد الشام، وخلال هذه الفترة طرأت تغيّرات اقتصادية واجتماعية على أحوال أهلها، غير أن الأمر انتهى بثورة عارمة، وانسحاب جيش والي مصر.

لا يمكن فصل تواجد جيش محمد علي في غزّة عن رغبته في السيطرة على الشام، والتي كانت تمثل له أهميةً حيويةً بالنسبة لمخططاته وصراعه مع الدولة العثمانية. ويذكر سليم المبيض، في كتابه "غزّة وقطاعها: دراسة خلود المكان... وحضارة السكان من العصر الحجري الحديث حتى الحرب العالمية الأولى"، أن حرب محمد علي باشا والي مصر على بلاد الشام، سنة 1831، لم تكن وليدة هذا العام، بل كان حلم الاستيلاء عليها شاغله الشاغل منذ توليه الحكم في مصر، ومع بداية ثلاثينيات القرن التاسع عشر تمخضت الظروف السياسية عن تمهيد أسباب الغزو وذرائعه.

فرار عائلات مصرية إلى غزّة

ويروي المبيض أن سياسة محمد علي في تطبيق سياسة التجنيد الإجباري على الفلاحين، وجباية الضرائب منهم، أدت إلى فرار العديد من الأسر المصرية من منطقة الشرقية، خاصةً بلبيس، نحو فلسطين، بأعداد وصلت حتى سنة 1831 إلى نحو ستة آلاف نسمة، وسكن معظمهم في غزّة وقراها الشرقية والشمالية والجنوبية.

بين عامَي 1831 و1840، خضعت غزّة لحكم محمد علي باشا، إذ كانت جزءاً من حملة وجهها للسيطرة على فلسطين وبلاد الشام، وخلال هذه الفترة طرأت تغيّرات اقتصادية واجتماعية على أحوال أهلها، غير أن الأمر انتهى بثورة عارمة وانسحاب جيش والي مصر

وإزاء ذلك الوضع طالبَ محمّد علي باشا، عبدَ الله باشا والي عكا، بإعادتهم إليه، لأن في ذلك إهداراً لطاقاته البشرية والاقتصادية في مصر، فردّ عليه عبد الله باشا قائلاً: "إن هؤلاء الستة آلاف رعايا السلطان، وشأنهم هنا كشأنهم في مصر، فإن شئت فاحضر لأخذهم"، فرد عليه والي مصر مهدداً: "إني سأحضر لأخذ ستة آلاف وواحد فوقهم (أي عبد الله نفسه)".

وتمادى عبد الله باشا في الإساءة إلى محمد علي، مدّعياً سوء معاملة والي مصر له، فرفض تسديد ما عليه من ديون، وبدأ بتنفيذ مقاطعته الاقتصادية لمصر، فمنع عنها تصدير بذور التوت المستخدمة في تربية دودة القز، ثم عمل على تحويل تجارة الحاصلات المصرية إلى طريق سيناء البري بدلاً من تصديرها من الموانئ عبر البحر المتوسط، وذلك لتعريضها لعمليات النهب والسلب، خاصةً أن عرب "الرتيمات" كانت تتربص لهذه القوافل وتنقضّ عليها، كما فعلت في قافلة خرجت من غزة سنة 1830 فسلبت كل حمولتها بعد معركة شهيرة عند العريش.

وعجلت كل هذه العوامل بتنفيذ محمد علي لرغباته، فاندفعت قواته بقيادة ابنه إبراهيم باشا بحراً وبرّاً، فاستولت على خان يونس، ثم عسكرت في ظاهر مدينة غزة الجنوبي، حتى اقتحمتها في تشرين الأول/أكتوبر سنة 1831، دون مقاومة تُذكر، ثم حاصر الأسطول المصري البحري مدينة عكا في 26 تشرين الثاني/نوفمبر سنة 1831، وظل محاصراً المدينة حتى سقطت في 27 أيار/مايو سنة 1832 بعد مقاومة ضارية، في حين استولت القوات البرية على مدينة القدس في كانون الأول/ديسمبر سنة 1831، ليكتمل لإبراهيم باشا الاستيلاء على فلسطين كلها، واستمر بعد ذلك في اندفاعه شمالاً نحو سوريا وتركيا ليكمل مسيرته.

وبحسب المبيض، يمكن عدّ التواجد المصري في كلّ المدن الفلسطينية، ومنها غزّة، نقطة تحول مهمةً في المجالات السياسية والاقتصادية والإدارية والاجتماعية، حيث تركت آثاراً عميقةً هي أشبه في الواقع بثورة غيّرت مناحي الحياة، وذلك برغم قصر مدة هذا التواجد الذي لم يتعدَّ التسع سنين إلا ببضعة أشهر.

توزيع الأراضي على الفلاحين

تمتعت غزة في أثناء الحكم المصري بأهمية اقتصادية، وبفترة ازدهار حقيقية. وتذكر عائدة فايق حسن أبو عياش، في دراستها "متسلمية غزّة تحت الحكم المصري 1247-1256هـ/1831-1841"، أن عوامل كثيرةً تضافرت وجعلت من غزة بلداً اقتصادياً يتمتع باكتفاء ذاتي، منها خصوبة أرضها، وما تمتاز به من مناخ معتدل، فضلاً عن كونها محطةً طبيعيةً للقوافل التجارية القادمة من مصر إلى فلسطين وبالعكس، وفضلاً عن مجموعة من المتغيرات الإدارية التي نهضت بالزراعة.

وبحسب أبو عياش، كانت الأراضي في غزة قبل الحكم المصري موزعةً بين مجموعة من الإقطاعيين العسكريين والفلاحين والدولة، فضلاً عن الأراضي الزراعية الوقفية، بالإضافة إلى الأراضي البور.

وعانت الزراعة من تدهور مستمر بسبب الفوضى والاضطرابات التي كانت تعاني منها غزة، والناتجة عن غارات البدو وقطاع الطرق، فضلاً عن تعسف جباة الضرائب والولاة الذين كانوا يشاركون الفلّاح ثمار أتعابه.

وإزاء ذلك، بذلت الحكومة المصرية جهودها المستمرة في تنمية الزراعة، لأنها الفرع الأساسي للاقتصادين الشامي والمصري، فوزّع إبراهيم باشا الأراضي البور التي كانت مهملةً على من يريد زراعتها بالأشجار والعنب، مع إعفائه من ضريبتها إن كانت في حالة غير حسنة.

شملت الإصلاحات أيضاً الأراضي الخاصة التي كانت ملكاً خاصاً لأصحابها، حيث جزّأتها الحكومة إلى مناطق، وأُلزمت أصحابها بزراعتها. وخطت الحكومة خطوةً كبيرةً عندما وزعت عليهم المساعدات من النقود والقمح والشعير والزيتون والعنب والمحاريث، حيث استجابت لطلب متسلم غزة صالح بوشناق عام 1831، الذي اشتكى حال الفلاحين في غزة، كما تذكر أبو عياش.

وطالت الإصلاحاتُ القرى الخربة والمُهملة التي رحل عنها أصحابها قبيل قدوم قوات إبراهيم باشا، بسبب تعسف جباة الضرائب والولاة العثمانيين، ومن أجل ذلك ألزمت الحكومةُ كبارَ الموظفين والأهالي الأغنياء بإصلاحها وزراعتها، كما أنفق إبراهيم باشا أموالاً طائلةً على مشروعات من هذا القبيل ليكون مثلاً لغيره. وبناءً على ذلك طالب أصحابُ الرُّتب في الجيش والمسؤولون بامتلاك الأراضي غير المزروعة، فزرعوها بالزيتون والتّوت والكروم.

وتضرب أبو عياش مثالاً على ذلك قرية "نعليا" التي رحل سكانها عنها قبيل قدوم القوات المصرية عام 1831، إثر حوادث دامية بينهم وبين البدو. ففي أثناء تجوال إبراهيم باشا في غزة، رأى هذه القرية مهجورةً، فأمر بتحويلها إلى غابة كثيفة من أشجار الزيتون، وطلب من أهالي منطقة المجدل إعمارها، فرحل إليها الغرباء، ثم بدأ المهاجرون من سكانها الأصليين يعودون إليها، مثل آل الكحلوت، وشاهين، وفريخ، وآل أبي وطفة، كما استقر فيها بعض المصريين.

القضاء على الإقطاع

استكمالاً لتحقيق السياسة القاضية بتنشيط الزراعة، لجأت الحكومة المصرية إلى القضاء على النظام الإقطاعي الذي كان لوجوده أثر سلبي على النشاط الزراعي، حيث تمتعت عائلات عدة بنفوذ إقطاعي كبير فعاشت وأثرت على حساب الفلاحين، مثل آل الشوا والحسيني والعلمي، ذكرت أبو عياش.

يذكر عارف العارف، في كتابه "تاريخ غزّة"، أن ثورةً ضد حكم محمد علي اندلعت في المدن الفلسطينية وامتدت إلى غزة، وذلك لأسباب عديدة، منها أن محمد علي أمر بجمع السلاح من الناس، وفرض التجنيد الإجباري في البلاد.

وإزاء ذلك، لجأت الحكومة إلى حل الإقطاعيات العسكرية، وخصصت لأصحابها رواتب لا تساوي عُشر ما كانوا يحصلون عليه من إقطاعياتهم، ثم عزلتهم وجرّدتهم من السلاح بالقوة دون تمييز بين الأشراف وغيرهم من عامة الشعب، كما أُلغت نظام زراعة أراضي السلطان، فآلت هذه الأراضي إلى الحكومة المصرية، كما ضمت ممتلكات الباشاوات.

ولم تتوقف الحكومة المصرية عند هذا الحد، إذ اعتنت بالفلاحين الذين شكلوا الغالبية العظمى من سكان غزّة، وذلك بتأمينهم من غارات البدو، التي كانت تدفعهم إلى مغادرة أراضيهم.

وبحسب أبو عياش، أدت هذه الجهود إلى توسيع الرقعة الزراعية، ومن ثم ارتفاع أسعار الأراضي التي بلغ إيجارها ثلاثة أمثال ما سبق، كما ارتفعت أجور العمال.

وبرغم ما بذلته الحكومة المصرية، إلا أن شكاوى الفلاحين في غزة استمرت بسبب كثرة الضرائب التي كانوا يدفعونها للحكومة، وذلك بسبب جور الموظفين في فرض الضرائب، فضلاً عن المخاطر التي كانت تتعرض لها الزراعة بسبب الحروب والثورات المستمرة، بالإضافة إلى أن أهالي غزة ومواردها الاقتصادية كانوا مقيدين برغبات الحكومة المتمثلة في التجنيد والسُخرة والاحتكار والضرائب، والتي ترتب عليها فرار الأهالي من هذه الأعباء، لذا حُرمت الأراضي الزراعية من الأيدي العاملة، وقلّ الإنتاج في ما بعد.

تقليص امتيازات الأجانب في غزة

أما النشاط التجاري في عهد الحكم المصري فلم يقتصر على الأهالي من السكان المحليين، وإنما امتد أيضاً إلى الأجانب الذين تمكّنت تجارتهم من فرض وجودها منذ فترة مبكرة في ظل الامتيازات الأجنبية التي منحتهم إياها الدولة العثمانية.

وبحسب أبو عياش، وجد القناصل مآربهم المنشودة في ظل هذه الامتيازات، خاصةً أنهم كانوا يدفعون رسوماً جمركيةً أقل من أهالي غزّة الأصليين، لذا فتحوا المجال لإسباغ الحماية على من يطلب الدخول في كنفهم حتى يحصل على امتيازاتهم بعد أن يدفع لهم المقابل، وبناءً على ذلك أصبحت التجارة في يد الأوروبيين.

لذا، أعادت الحكومة المصرية النظر في امتيازات الأجانب، في محاولة لوضع الحدود والمعايير لهذه الامتيازات، ونجحت في ذلك، إذ حرمت القناصل الذين مارسوا هذا العمل لسنين طويلة من هذه الامتيازات التي كانوا يزاولونها رسمياً، كما وضعت القيود لحماية الإنتاج المحلي، ففرضت رسوماً جمركيةً إضافيةً على بعض المواد الخام المستوردة مثل القطن وجلود الأرانب البرية، وفي الوقت نفسه منحت التجار الوطنيين جميع الحقوق والامتيازات التي يتمتع بها التجار الأجانب، من حيث الرسوم الجمركية المفروضة على تصدير البضاعة واستيرادها، فضلاً عن السماح لهم بتصدير بضائعهم من موانئ برّ الشام.

وبرغم كل هذه الإجراءات، استمر الأجانب في التهرب من دفع الرسوم البسيطة التي فُرضت عليهم، وظلوا مستمرين في تحقيق مطامعهم، تساندهم في ذلك حكوماتهم من ناحية، والفرمانات السلطانية من ناحية أخرى.

ثورات واضطرابات ووأد جهود الحكومة

وبعد سنوات من تطبيق هذه الإجراءات الإصلاحية لم يُكتب لجهود الحكومة المصرية النجاح الذي كانت تعول عليه بسبب الثورات والاضطرابات التي اجتاحات مناطق عدة. ويذكر عارف العارف، في كتابه "تاريخ غزّة"، أن ثورةً ضد حكم محمد علي اندلعت في المدن الفلسطينية وامتدت إلى غزة، وذلك لأسباب عديدة، منها أن محمد علي أمر بجمع السلاح من الناس، وفرض التجنيد الإجباري في البلاد، ولم تجد نصائح ابنه إبراهيم في هذا الصدد نفعاً، إذ كان يرفض ما ذهب إليه والده.

بحسب الكاتب سليم المبيض، يمكن عدّ التواجد المصري في كل المدن الفلسطينية، ومنها غزّة، نقطة تحول مهمةً في المجالات السياسية والاقتصادية والإدارية والاجتماعية، حيث تركت آثاراً عميقةً هي أشبه في الواقع بثورة غيّرت مناحي الحياة

وفي الوقت نفسه، كان الباب العالي يشجع الثورة، إذ كان ناقماً على محمد علي باشا، وكان يعدّ عمله هذا تمرداً وخروجاً على القانون والنظام، فوجدت التحريضات العثمانية مرتعاً خصباً لدى وجوه البلاد وأعيانها، لا سيما أولئك الذين كانوا يتمتعون بنفوذ واسع قبل تواجد قوات إبراهيم باشا في بلادهم، فشعروا بتضاؤل نفوذهم، مثل عائلات أبي غوش في جبال القدس، والقواسم وآل جرار وطوقان وعبد الهادي في جبال نابلس.

لذا، اجتاحت البلاد من أقصاها إلى أقصاها موجة من الاستياء انتهت بالاحتجاج الصاخب، ثم حمل الناس السلاح، واشتعلت نيران الثورة في الصلت والقدس ويافا ونابلس وفي كل مكان، وجرت معارك دموية بين الجند والثوار، وانتهى الأمر بانسحاب جيش محمد علي من سوريا والمدن الفلسطينية، بحسب العارف.

ويذكر مصطفى مراد الدباغ، في موسوعته "بلادنا فلسطين"، أنه لما أُجبر إبراهيم باشا على إخلاء سوريا والعودة إلى مصر، لاقت جيوشُه الأهوالَ من جوع وعطش ومهاجمة عربان، حتى تمكنت من الوصول إلى غزة في 31 آذار/مارس 1841، وهناك أبلغه والدُه بأمر الانسحاب نهائياً من سوريا والعودة إلى مصر.

وبلغ عدد الجند المحتشدين في غزة للعودة إلى بلادهم نحو 30 ألف جندي، عاد بعضهم عن طريق الصحراء، والبعض الآخر عن طريق البحر، وبذلك كانت غزة آخر مدينة تم جلاء المصريين عنها.

وبحسب الدباغ، كان من أحداث غزة في تلك الأيام الطاعون الذي انتشر عام 1839، وكان سبباً في هلاك الكثير من سكانها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ألم يحن الوقت لتأديب الخدائع الكبرى؟

لا مكان للكلل أو الملل في رصيف22، إذ لا نتوانى البتّة في إسقاط القناع عن الأقاويل التّي يروّج لها أهل السّلطة وأنصارهم. معاً، يمكننا دحض الأكاذيب من دون خشية وخلق مجتمعٍ يتطلّع إلى الشفافيّة والوضوح كركيزةٍ لمبادئه وأفكاره. 

Website by WhiteBeard
Popup Image