شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
ماذا جرى للرحالة الإيطالي اليهودي في الطريق إلى غزة قبل ستة قرون؟

ماذا جرى للرحالة الإيطالي اليهودي في الطريق إلى غزة قبل ستة قرون؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

السبت 21 أكتوبر 202301:22 م

ميشولام ابن مناحم الفولتوري، كان ابناً لأسرة يهودية ثرية في إيطاليا، "اشتغلت بأعمال الصرافة في مدن عدة، خاصةً في مدينة فلورانس، وكان والده من بولينا، ثم ارتحل إلى مدينة فولتيرا، حيث افتتح بنكاً للصرافة، وعمل فيه هو وأولاده. بعد وفاة الأب، ظل مناحم وأخوه إبراهام يعملان في البنك، حتى قام مناحم بتأسيس بنك خاص به في فلورانس"، وفقاً لما أوردته الدكتورة سامية السيد فرحات في رسالتها "المدن المصرية في رحلات الرحالة اليهود في القرن الخامس عشر".

وتقول سامية فرحات: "قام ميشولام بن مناحم بالسفر إلى القدس لكي يفي نذراً نذره في وقت الشدة، وخرج من نابولي في شهر أيار/مايو عام 1481 م، على متن سفينة من جنوى".

خلال رحلته من إيطاليا، مرّ ميشولام بمحطات عدة بدأت برودس، مروراً بالإسكندرية، ورشيد، ومن هناك استقل قارباً عبر النيل، حتى وصل إلى "فوه"، ومنها إلى القاهرة التي دخلها يوم الأحد، السابع عشر من حزيران/يونيو عام 1481 م، كما يروي في مخطوطته التي نشرها إلكان ناثان أدلر، ونشرتها دار "حوران" في سوريا، عام 2019، بترجمة مصطفى وجيه.

عندما وصل إلى غزة، وجد "ما بين خمسين إلى ستين أسرةً يهوديةً"، في حين وجد في الخليل "عشرين أسرةً يهوديةً تقريباً"، وازداد العدد في القدس التي كان فيها -كما يقول- مئتان وخمسون أسرةً يهودية

روى ابن مناحم أنه لم يستقر طويلاً في القاهرة، وخرج منها في العاشر من حزيران/يوليو نفسه، برفقة قافلة عبر صحراء سيناء، مارّاً بمدن مصرية عدة كالخانكة، وبلبيس، والقطارة، والصالحية، ثم بعد أحد عشر يوماً حط رحاله في غزة، ليبدأ بعدها رحلته القصيرة داخل فلسطين، وفي كل محطة من تلك المحطات، تناول ابن مناحم الكثير من الصور الاجتماعية والاقتصادية، لكن أبرز ما فعله هو تركيزه على أعداد اليهود في كل بلد مرّ به في رحلته!

نظرة عامة على زمن الرحلة

رحلة ميشولام بن مناحم، تزامنت مع عصر المماليك (1250-1517 م)، وهو العصر الذي شهد اهتماماً من الرحالة الأوروبيين باستكشاف المنطقة العربية، أو كما يقول الباحث مصطفى وجيه في مقدمة بحثه "دراسة في يوميات الرابي ميشولام بن مناحم الفولتيري": "في تلك الفترة صارت القاهرة مقصداً للزوّار والتجار والسفراء والحجاج والمغامرين الأوروبيين، وحتى الجواسيس أيضاً".

ويضيف وجيه: "جاء الأوروبيون إلى عاصمة دولة سلاطين المماليك جماعات وأفراداً ملتمسين إذنَ السلطان المملوكي المترفع عن السائل الأوروبي المتواضع بالارتحال داخل أراضي الدولة، وكذا السماح للرحالة المسيحيين الغربيين بالسير إلى الأراضي المقدسة التي شهدت الوقائع التاريخية لحياة المسيح عليه السلام، فضلاً عن ذلك، فقد كانت لتلك البقاع مكانتها الكبيرة في الوجدان اليهودي، لذلك شدّ اليهود إليها رحالهم متخذين من حركة اليهود التوراتية، وتنقُّل قبائلهم من مكان إلى آخر، معيناً لهم".

ابن مناحم في الطريق إلى فلسطين

ذكر ابن مناحم أن المسافة من مصر إلى غزة تبلغ نحو 298 ميلاً، ونوّه بأنه عندما اقتربت قافلة ميشولام من غزة، شاهد فندقاً يُسمّى الخان، وذكر أن هذا المكان تتوقف فيه القوافل، وفيه أيضاً توجد أفنية واسعة، وخلفها يستريح الرجال خلف ستائر.

رحلة ميشولام بن مناحم إلى فلسطين عام 1481م، برغم قِصرِها، حفلت بدلالات جديرة بالقراءة. 

حديث ابن مناحم عن وجود فندق في غزة في القرن الخامس عشر، كان أمراً طبيعياً وقتها، إذ كانت تقع حينها على الطريق التجاري البري الذي ربط مصر ببلاد الشام، "والقوافل كانت تتخذها محطة استراحة (...) وحديث ميشولام عن الفندق أو الخان لا يعني أن غزة كان فيها فندق واحد أو خان واحد، بل خانات متعددة، لتُوائم كثرة الطلب العائد إلى كثرة القوافل التي تواكب ازدهار حركة الحج والتجارة في بلاد الشام آنذاك"، بحسب مصطفى وجيه في رسالته.

لم ينسَ ابن مناحم أن يرصد بشكل دقيق تعداد اليهود في البلدان التي زارها، فحرص على ذِكر أعدادهم في كل مدينة مر بها. عندما وصل إلى الإسكندرية وجد نحو 60 أسرةً يهوديةً، وكما يقول: "ليس بينهم قرّاؤون أو سامريون".

أما في القاهرة، فوجد "ثمانية آلاف أسرة يهودية"، منهم عدد كبير من اليهود القرّائين، وقرابة خمسين من السامريين، وفي الخانكة وجد "عشرين أسرةً يهوديةً"، وقلّ العدد نسبياً في بلبيس فأكد أن تلك المدينة في محافظة الشرقية تعيش داخلها "ثلاث عائلات يهودية".

اللافت هنا أنه عندما وصل إلى غزة، وجد "ما بين خمسين إلى ستين أسرةً يهوديةً"، في حين وجد في الخليل "عشرين أسرةً يهوديةً تقريباً"، وازداد العدد في القدس التي كان فيها -كما يقول- مئتان وخمسون أسرةً يهوديةً.

"اجلِسِ القرفصاء"... وصايا ابن مناحم للمسافرين بعده

يبدو أن ابن مناحم -برغم قصر رحلته- تكبّد الكثير من المشقّة في الرحلة من مصر إلى غزة، مما كان سبباً في تركه وصايا عدة لمن يريد أن يسير على دربه، ويحاول الذهاب إلى بيت المقدس عبر صحراء سيناء.

قدّم ميشولام إحدى عشرة وصيةً للرحالة الذين سيلحقونه، خاصةً الذين لا يعرفون العربية، فنصحهم بوجوب ارتداء ملابس مثل ملابس الأتراك، "حتى لا يعرف أحد أنه يهودي أو من الفرنجة"

قدّم ميشولام، إحدى عشرة وصيةً للرحالة الذين سيلحقونه، خاصةً الذين لا يعرفون العربية، فنصحهم بوجوب ارتداء ملابس مثل ملابس الأتراك، "حتى لا يعرف أحد أنه يهودي أو من الفرنجة، كما يُمكّنه ذلك من عدم دفع كثير من الضرائب المقررة على الأوروبيين، وأن يضع فوق رأسه غطاءً أبيض مثلما يفعل المسلمون".

وتابع وصاياه بتفادي البدو "الذين يختفون في الرمال وتغطّيهم حتى أعناقهم، مختبئين دون طعام ولا شراب، ويضعون حجراً أمامهم يحجب رؤيتهم، وهم في هذا الكمين يستطيعون رؤية القادمين الذين لا يرونهم".

لكن أعجب تلك الوصايا، تلك التي تحدث فيها ميشولام عن بدو صحراء سيناء في الأميال الأخيرة قبل دخول غزة، إذ يقول عنهم: "وإذا سألتني عن أسلوبهم، وماذا يجب أن تفعل، فإنه من الضروري عندما تصل إلى هذه الأماكن، أولاً أن تخلع نعلك، وتجلس القرفصاء، ولا تحاول أن تقف، وإذا سقطت منك كسرة خبز التقطْها، ولكن لا تأكل هذه الكسرة إلا إذا وضعتها فوق رأسك، وعليك أن تدعو من حولك ليشاركوك الطعام، حتى لو كانوا لا يأكلون معك (...)، وإذا قدّموا لك أي طعام، عليك أن تمدّ يدك وأن تنحني عندما تأخذه".

بيد أن كل هذا العناء كان سبباً في قِصر رحلة ميشولام ابن مناحم، فنراه قد غادر غزة سريعاً في الشهر نفسه الذي دخلها فيه، واتجه فوراً إلى مدينة حبرون، ومن بعدها إلى القدس، التي مكث فيها أقلّ من شهر، ثم خرج منها في السادس والعشرين من آب/أغسطس من السنة نفسها، متجهاً إلى رملة، ومنها إلى يافا، ثم استقل سفينةً واتجه إلى أوروبا عائداً إلى فينيسيا يوم التاسع والعشرين من شهر تشرين الأول/ أكتوبر عام 1481 م.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ماضينا كما يُقدَّم لنا ليس أحداثاً وَقَعَت في زمنٍ انقضى، بل هو مجموعة عناصر تجمّعت من أزمنة فائتة ولا تزال حيّةًً وتتحكم بحاضرنا وتعيقنا أحياناً عن التطلّع إلى مستقبل مختلف. نسعى باستمرار، كأكبر مؤسسة إعلامية مستقلة في المنطقة، إلى كسر حلقة هيمنة الأسلاف وتقديم تاريخنا وتراثنا بعين لا تخاف من نقد ما اختُلِق من روايات و"وقائع". لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. ساعدونا. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image