"عندما تتحرك آلة القتل الإسرائيلية، تأكد أن أحداً لا يستطيع إعاقة المذبحة". هذه العبارة الحاسمة للكاتب والناشط الحقوقي الإيطالي فيتوريو أريغوني، كانت، بجانب فجائع كثيرة، على رأسها فجيعة قتله، خلاصةَ تجربته المروعة في قطاع غزة، كشاهد عيان على المجازر التي ارتكبتها إسرائيل في حق المدنيين الفلسطينيين على مدار 22 يوماً من 27 كانون الأول/ديسمبر عام 2008، في ما عُرف عسكرياً وإعلامياً باسم عملية "الرصاص المصبوب".
كان فيتوريو ينتمي إلى عائلة شيوعية، رسخت لديه وعياً مبكراً بالقضية الفلسطينية كقضية إنسانية عادلة، وهذا الوعي والإيمان بحقوق الشعب المحتل، هو ما دفعه إلى الانضمام لحركة التضامن العالمية الداعمة للشعب الفلسطيني في غزة ابتداءً من عام 2008، حيث وصل إلى هناك برفقة مجموعة من الناشطين الحقوقيين، والمتطوعين ضمن الحملة التي هدفت إلى كسر الحصار اللاإنساني على القطاع الأعلى كثافةً سكانية في العالم. لحظة وصول السفينة إلى شاطئ غزة وصفها فيتوريو بـ "أسعد لحظات حياته".
كان فيتوريو يكتب تقارير المجزرة، موَقّعاً إياها بشعار "غزة... حافظوا على إنسانيتكم"، وهو نفسه عنوان كتابه الذي وثق فيه التفاصيل الدامية لعملية "الرصاص المصبوب" التي لم يكن شاهد عيان عليها فقط، بل قام بأدوار بطولية مع أهالي غزة في إنقاذ الجرحى وانتشالهم من تحت الأنقاض
عاش فيتوريو في شقة مواجهة للبحر، وكوّن صداقات وعلاقات قوية مع أهل المدينة والقرى والبلدات الحدودية، وعبر هذه الصداقات، أصبح الشاب الإيطالي على دراية كاملة بجغرافيا القطاع، راصداً لصور الحياة الشاقة البائسة التي يعيشها سكانه، عاقداً العزم، ومعه رفاقه في حركة التضامن، على مساعدة هؤلاء البشر الذين حُرموا عبر سياسات إسرائيل العنصرية من أبسط متطلبات الحياة، وصاروا فرائس وضحايا للجوع والمرض، وللعمليات الإجرامية الإسرائيلية التي لم تتوقف منذ وصول حركة حماس إلى مقاعد السلطة في غزة في حزيران/يونيو عام 2007.
عصف العدوان الإسرائيلي الذي شُن على غزة في السابع والعشرين من كانون الأول/ديسمبر عام 2008، بأحلام فيتوريو، بل بحياته وحياة الآلاف من الفلسطينيين، ففي صباح هذا اليوم، انفتح الجحيم خارج نافذته، حيث استيقظ على صوت القنابل وهي تسقط على بعد عدة أمتار من منزله، ليصل عدد القتلى في اليوم الأول إلى 210 بينهم أصدقاء فيتوريو من الأطفال الذين كانوا يُلقون عليه السلام أثناء عودتهم من المدرسة.
إنها -بحسب تعبيره- "عملية سفك دماء غير مسبوقة، لقد دمروا المرفأ المُقابل لشقتي حتى سُويِّ بالأرض، وسحقوا مراكز الشرطة. بلغني أن وسائل الإعلام الغربية تمالئ إسرائيل مكررة البيانات الصحفية التي يُصدرها الجيش الإسرائيلي بشكل ببغاوي والتي تبعاً لها فإن الهجمات تستهدف فقط أوكار حماس الإرهابية بدقة تشبه دقة العملية الجراحية".
وسط هذا الجحيم كان فيتوريو يكتب تقارير المجزرة، ليُرسلها إلى الجريدة الإيطالية "إل مانيفستو"، موَقعاً هذه التقارير بشعار "غزة... حافظوا على إنسانيتكم"، وهو نفسه عنوان كتابه الذي وثق فيه التفاصيل الدامية لعملية "الرصاص المصبوب" التي لم يكن شاهد عيان عليها فقط، بل قام بأدوار بطولية مع أهالي غزة في إنقاذ الجرحى وانتشالهم من تحت الأنقاض. ومع وصول الإجرام الإسرائيلي إلى ذروته وقيام القوات بتصويب الرصاص على عربات الإسعاف التي تقل الجرحى إلى المستشفيات، لم يجد فيتوريو مفراً من أن يجعل من نفسه -ومعه بعض رفاقه من حركة التضامن- درعاً بشرياً عبر التمترس في العربات، معتمداً على كونه ناشطاً أوروبياً، مما قد يكون رادعاً للجيش الإسرائيلي في سلوكه الوحشي تجاه الجرحى.
يُحذرنا فيتوريو من خطورة الغوص في كتابه، الذي دونه في أجواء جحيمية، حيث يقول إن "هذه الأوراق مؤذية، وملطخة بالدماء، كما أنها مُشبعة بالفسفور الأبيض، وهي حادة كحدّة شظايا قنبلة".
يُحذرنا فيتوريو من خطورة الغوص في كتابه، الذي دونه في أجواء جحيمية، حيث يقول إن "هذه الأوراق مؤذية، وملطخة بالدماء، كما أنها مُشبعة بالفسفور الأبيض، وهي حادة كحدّة شظايا قنبلة".
ومن المؤسف أن الكاتب الإيطالي، الذي رحل عن عالمنا إثر قتله في ظل ظروف ملتبسة في الخامس من نيسان/أبريل عام 2011، لا يعرف أن هذه التحذيرات لا معنى لها اليوم، إزاء عمليات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والمذابح التي تقوم بها القوات الإسرائيلية ضد قطاع غزة ويُشاهدها العالم يومياً على الهواء مباشرة.
وبالعودة إلى عبارة فيتوريو الحاسمة التي يؤكد فيها أن آلة القتل الإسرائيلية، عندما تتحرك، لا أحد يستطيع أن يوقف المجزرة التي سترتكبها، نستطيع هنا -بعد قراءتنا لوثيقته المهمة- أن نضيف أموراً أخرى لهذه الخلاصة؛ إن سيناريو الجرائم، ثابت وموحد في كل الحروب التي شنتها إسرائيل ضد قطاع غزة والاختلاف فقط يكمن في عدد الضحايا ومعدل التوحش. فما تقوم به القوات الإسرائيلية الآن من استهداف المستشفيات، وإسقاط القنابل على الجرحى وعربات الإسعاف، وإجبار سكان الشمال على ترك بيوتهم والنزوح إلى الجنوب، وكذلك استخدام الأسلحة المحرمة دولياً، وتعمد قتل النساء والأطفال، وقطع الكهرباء ووسائل الاتصالات، ومنع دخول المساعدات الإنسانية، كل ذلك هو ما انتهجته ونفذته إسرائيل في حربها على غزة (2008- 2009)، والتي راح ضحيتها آلاف القتلى ضمنهم المئات من الأطفال والنساء.
إذاً، يُمكننا اعتبار شهادة فيتوريو، وثيقةً تصلح لكل حرب إسرائيلية على سكان غزة، وتحديداً الحرب المندلعة حالياً، والتي تُعد امتداداً أكثر وحشية ودموية لعملية "الرصاص المصلوب"، بالإضافة إلى المخططات القديمة الجديدة الخاصة بمستقبل قطاع غزة.
كـ"كارون" بطل دانتي الذي ينقل الناس بعبّارته إلى الجحيم، يأخذنا فيتوريو في رحلة إلى جحيم غزة، آملاً أن تكون رحلة الألم هذه، لقاحاً لنا ضد التمييز العنصري وضد وباء العنف تجاه أي شخص مختلف عنا.
في ردهات مستشفى "الشفاء"، وقف فيتوريو متأملاً الوجوه، محاولاً تمييز القسمات البشرية لما كان مرة وجهاً بشرياً، قبل أن يتم تصغيره إلى ما يُشبه العجينة بفعل أسلحة الدمار الشامل المستخدمة والتي حرمتها كل الأعراف والشرائع الدولية.
وفي طرقات كثير من المشافي التي زارها، رأى فيتوريو جثامين عديدةً في لباس موحد وتأكد أن العديد منها يعود لأطفال، اعتادوا أن يُلقوا عليه التحية كلما كان يُقابلهم في الشارع، وهو في طريقه إلى الميناء، أو خلال تمشّيه نحو المقهى الرئيسي في المساء. يقول: "أعرف العديد منهم بالاسم. اسم وتاريخ وعائلة متقطعة الأوصال".
كان أغلب الضحايا شباباً بين 18-20 عاماً، وبحسب ما ذكره فيتوريو، فقد كانوا من دون ميول أو انتماءات سياسية لحركة فتح أو حماس، وبكل بساطة انتسبوا إلى قوات الشرطة بعدما أنهوا دراستهم الجامعية لكي يؤمنوا فرصة عمل في غزة التي تعيش تحت الحصار "لم أرَ أيّ (إرهابي) بين المصابين، ليس هنالك سوى مدنيين ورجال شرطة. ليلة البارحة فقط كنتُ أمرح مع اثنين منهم حول طريقتهم بارتداء القفطان اتقاءً للبرد، بينما كانا واقفَين أمام منزلي".
لا يختلف الأمس عن اليوم؛ يحكي فيتوريو عن رائحة الفوسفور اللاذعة التي تملأ الهواء بينما السماء ترتجف من زلزلة الأرض المستمر، وأمام مشفى الشفاء، يأتيهم التحذير الإسرائيلي الرهيب بضرورة إخلاء المستشفى، وقبل يوم واحد كان مشفى الوئام قد تعرض للقصف، ومستودع الأدوية في رفح والمشفى الإسلامي وعدد من المساجد الموزعة في كل أنحاء القطاع.
وكلما مضينا قُدماً في تصفح وثيقة فيتوريو، بالأحرى، كلما قطعنا عدة خطوات في الجحيم الغزاوي، أدركنا أنه كان صائباً في تحذيره لنا، حتى لو كنا نُشاهد هذه المجازر الآن. ثمة صورة بالغة القسوة هنا، من ضمن صور العار البشري المستفحل في الحرب الدائرة الآن. يروي الكاتب: "تم سحب ستة أجساد بالغة الصغر لست أخوات من تحت الركام. خمس منهن قتلى وواحدة بين الحياة والموت. قمنا بتمديد الفتيات الصغيرات على الإسفلت الأسود، فَبَدَونَ مثل دمى محطمة ومرمية وكأنها أصبحت غير قابلة للاستعمال. لم يكن قتلهن قد حصل بالخطأ، إنه رعب متعمد واستخفافي".
وثيقة فيتوريو التي دونها تحت عاصفة من القنابل، تم تدعيمها من جانب منظمات حقوق الإنسان الموثوقة، سواءً كانت حكومية أم غيرها، أما هو فكانت هذه الوثيقة بالنسبه إليه "دعوة لنا جميعاً كي نتذكر انتماءنا إلى جماعة فريدة من الكائنات الحية، ألا وهي العائلة الإنسانية"
وكان هنالك العديد من المفقودين. والمشافي ملأى بنساء يائسات يبحثن عن أزواجهن أو أبنائهن. وبعد ساعات من البحث بين أشلاء القتلى في الثلاجة -كما روى الكاتب- ميزت امرأة فلسطينية يدَ زوجها المبتورة. فقد كان ذلك كلّ ما تبقى لها من زوجها، بالإضافة إلى خاتم الزواج في اصبعه "بقية حب أبدي، كان كلٌّ منهما قد أقسم للآخر على الإخلاص له".
ويورد الكاتب قصةً أخرى عن أحد الرجال المسنين، كان قد استغل ساعات الهدنة، وخرج ليجلب لنفسه خبزاً، وبعد أن انتهى من شراء الطعام، لم يستطع العودة إلى المنزل، في المدينة التي سُويت بناياتها بالأرض، فظل هائماً على وجهه في الشوارع، وكان ذلك بداية لفقدانه عقله.
وعلى مقربة من هذا الرجل، لمح فيتوريو طفلاً جالساً على أنقاض منزله وبجواره جثة أمه، ولم يُصدق الطفل أن أمه قد ماتت، فكان حريصاً على أن يذهب ليُحضر لها الطعام والماء، ظناً منه أنها ستقوم وتأكل. هذه الحكايات المأساوية، تسكن كلَّ بيوت وشوارع غزة، فثمة عائلات بأكملها قد تمّ شطبها من السجلات، وكأنهم لم يأتوا إلى الحياة.
ولمقاومة هذا المحو الإجرامي لأهل غزة، رأى فيتوريو أهمية التوثيق والكتابة والحكي عن هؤلاء الأبرياء، مستنكراً ومندداً بموقف الصامتين: "إن اختيار البقاء صامتاً، يعني بطريقة أو بأخرى تقديم الدعم للذين يقومون بالإبادة الجماعية. فلتصرخوا معبّرين عن نقمتكم في كل عاصمة من عواصم العالم (المتحضر)، في كل مدينة، وفي كل ساحة، ولتعبّر هذه الصرخات عن الألم والرعب".
وثيقة فيتوريو التي دونها تحت عاصفة من القنابل، تم تدعيمها من جانب منظمات حقوق الإنسان الموثوقة، سواءً كانت حكومية أم غيرها، أما هو فكانت هذه الوثيقة بالنسبه إليه "دعوة لنا جميعاً كي نتذكر انتماءنا إلى جماعة فريدة من الكائنات الحية، ألا وهي العائلة الإنسانية".
قُتل فيتوريو أريغوني بغزة، وكان موته فجيعة كبرى، بالنسبة للكثيرين من أحرار العالم. ولقيت جريمة اغتياله إدانة عالمية واسعة، كما أدانتها أيضاً مختلف الفصائل الفلسطينية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...