في أيلول/سبتمبر 1967 قال نورمان شمواي لمجلة الجمعية الطبية الأمريكية إن الوقت حان لزراعة القلب البشري. وأجريت التجربة لكلب زرع له قلب وعاش أكثر من سنة. وفي لندن "تابع يعقوب ذلك باهتمام".
وفي كانون الأول/ديسمبر 1967 أجرى الجرّاح الجنوب إفريقي كريستيان برنارد أول زراعة لقلب بشري لإنسان. أيلول/ديسمبر 1967 أجرى الجرّاح الجنوب إفريقي كريستيان برنارد أول جراحة زراعة قلب بشري لإنسان. وأراد يعقوب مغادرة غرفته الصغيرة، والسفر إلى الولايات المتحدة؛ فهناك "العلاقة أوثق بين العلم والجراحة"، وقد ضمن له الجرّاح دونالد روس منصباً في كلية الطب بجامعة شيكاغو، براتب يبلغ خمسة عشر ألف دولار في السنة، "كان العرض يتجاوز حدود خيالي".
واجهت الجرّاحين آنذاك عقبات أخلاقية وسياسية، منها كيفية تحديد متى يمكن اعتبار المتبرِّع ميتاً؟ رأوا أنه يُعتبر "ميتاً عند توقُّف القلب عن النبض". لكنه إذا توقف يتدهور ولا يصلح للزراعة، وإذا استأصل جرّاح "قلباً قبل الوفاة المحددة قانوناً فقد يتعرض لاتهام بارتكاب جريمة قتل. كان البديل هو القبول بأن يُعد المبترِّع ميتاً عند توقف المخ عن العمل"، وهي الوفاة السريرية، وبالدعم الصناعي تظل الأعضاء حية. وغادر يعقوب بريطانيا متسلحاً بالعزيمة والخيال. يسجل كاتبا سيرتِه قولَ البروفيسور وولتر سومرفيل له: "ميزتك يا مجدي هي أن لديك خيالاً ثلاثي الأبعاد لكل حالة تتعلق بالقلب... ستلمع أينما تكون، حتى لو ذهبت إلى الصحراء".
يقول إسماعيل الحمامصي إن يعقوب، فضلاً عن التواضع، "ملهم على أكثر من مستوى، في عمق معرفته، وفي مدى فضوله العلمي... ليس ممّن يقولون هي هكذا وانتهى الكلام. وإنما يقول دائماً: فلنجرب دراسة الأمر ونقيّمه بأفضل ما في وسعنا
في كلية الطب بجامعة شيكاغو أعطوه معملاً، وأحبّه الطلبة؛ فهو ينثر الأفكار وهم يطورونها. يقول إسماعيل الحمامصي إن يعقوب، فضلاً عن التواضع، "ملهم على أكثر من مستوى، في عمق معرفته، وفي مدى فضوله العلمي... ليس ممّن يقولون هي هكذا وانتهى الكلام. وإنما يقول دائماً: فلنجرب دراسة الأمر ونقيّمه بأفضل ما في وسعنا. فهو يتبع منهج كارل بوبر العلمي". بوبر ملهم ليعقوب، ويرى وجوب انطلاق الباحث من السعي إلى إثبات خطأ نظريته، والاستعداد لتعديل معتقداته في ضوء الأدلة الجديدة، فالنظرية التي لا تتعرض للتحدي ولا تُختبر "لا تكون لها قيمة كبيرة". ومن مُلهميه بيتر مدوَّر عالم الأحياء البريطاني ذو الأصل اللبناني.
عامٌ في أمريكا منح يعقوب "ذراعاً إضافية... لم يكن متاحاً في غير أمريكا أن يكون المرء باحثاً وجرّاحاً ممارساً على أعلى مستوى". وكانت ماريان قد لحقت به وتزوجا. ونصحوه بالبقاء، وأغروه بفريق من المساعدين، وتركوا له تحديد الراتب. ولم يطمئن للتوحّش الرأسمالي الأمريكي، وقارنه بهيئة الصحة الوطنية في بريطانيا، حيث يعالجون المريض، ولا يطلبون رؤية بطاقته الائتمانية. وكانت الجنسية البريطانية قد تمت الموافقة عليها، وتسلم جواز سفره البريطاني من القنصلية البريطانية في شيكاغو. ورجع إلى بريطانيا وهو مواطن بريطاني لا ينسى التراث العلمي لبلاده، ويستند إلى "أكتاف عمالقة" أولهم إمحوتب، مستشار الملك زوسر الذي حكم مصر عام 2667 قبل الميلاد.
إلى زوسر يُنسب تشييد هرم زوسر المدرَّج، أول بناء حجري في التاريخ. وإليه يُنسب نص هيروغليفي "لدليل طبي جادّ يصف الجروح والكسور والأورام وعلاجاتها". وفي عام 2007 نشرت صحيفة ديلي تلغراف البريطانية مقالاً عنوانه "كيف منحنا إمحوتب الطب؟". وفيه دلل فريق بحثي بجامعة مانشستر على أن فجر الطب "بزغ في مصر على يد أمثال إمحوتب... الذي ارتقى إلى مصاف الآلهة باعتباره إلهاً للشفاء". إمحوتب بطلٌ ليعقوب الذي احتفظ بتواضعه، "فكان يمسح بنفسه أرض غرفة العمليات توفيراً للوقت في ما بين العمليات"، ولا يقول "أنا"، بل "نحن". إنه ذو قدرة مذهلة على العمل. وصفته زميلته روزماري رادلي سميث بأنه "جرّاح مفكر".
أما بيتر أليفيزاتوس، مؤسس زراعة القلب بجامعة بايلور الأمريكية، فقابل يعقوب في لندن، عام 1982، وكتب: "الانطباع الأول كان مذهلاً، وكأن فرعونا قام من مقبرته. هي البشرة الداكنة نفسها، والعتاقة، وسكينة النظرة، والوجه النبيل أتمّ ما يكون النّبل، كل ذلك طبع في نفسي أنني أقابل شخصاً عاش ورأى كل ما كان قبل ثلاثة آلاف عام". لعلها الروح المستمدة من مصر القديمة تبث الاطمئنان. تذكر باتريشيا أن يعقوب استقبلها ليلاً في وقت متأخر، لفحص ابنها سكوت بين الجراحات، وجذب انتباهها أنه نفخ في السماعة بين يديه، "أدفأ السماعة أولاً قبل أن يقربها من ابني"، فتأكد لها أنه "رجل فيه نبل حقيقي".
لعل قارئاً ملولاً أضجره المقال؛ لعدم اعتياده قراءة سير العلماء. وأراهن أن القراء سيخوضون رحلة شائقة مع "مذكرات مجدي يعقوب"، لسيمون بيرسن وفيونا غورمان. سيرون خفة ظل عالِم يحب الدعابة.
سكوت عمره سنة، عام 1975 وقت إجراء العملية، وشارك يعقوبَ فريقٌ من خمسة عشر طبيباً وتقنياً، والطفل أصغر من احتمال جهاز القلب والرئة، فتم ربط الدورة الدموية "لقرد من نوع السعدان عمره خمس سنوات بدورة سكوت الدموية في محاولة لإنقاذ الطفل". وبعد أكثر من خمسة وأربعين عاماً، ذكرت باتريشيا لمؤلفي الكتاب أن يعقوب كان الأمل الأخير لسكوت الذي لم يجدوا لقلبه علاجاً. ظل يعقوب يتردد على سكوت، ويرى عينيه تتحركان، وقال لأمه: "واصلي الحديث إليه لأنه الآن يقاتل". توفي الطفل، وثارت الصحافة فنشرت أن العملية "وحشية". ووصلت الحكومة شكوى من "التجربة الرهيبة". ودافع جرّاحون عن الجراحة، كخطوة منطقية إلى الأمام.
بعد العملية قالت باتريشيا للصحافة: "إنها كانت معركة مجيدة من أجل حياة سكوت". وتطوعت الأم للعمل في مستشفى هيرفيلد، وتأثر ابنها كريستوفر بموت أخيه، وقال لأمه: "عندما أكبر سوف أصبح طبيباً مثل مستر يعقوب". وبدأ برنامج زراعة القلب في هيرفيلد عام 1980. ومن الحالات الأولى ديريك موريس كبير عمال ميناء، وفي البداية استنكر أن يُزرع له قلب، ثم حصل على قلب امرأة في السادسة والعشرين، وتحسنت صحته، ثم رجع إلى الميناء، يعمل لساعات طويلة. منحته العملية "خمسة وعشرين عاماً إضافية، فجعلته أطول زراعي القلوب في أوروبا" آنذاك، وشارك في حملات توعية بأمراض القلب. وكعادة أي نجاح لا يخلو من أعداء.
فالمحامي والبرلماني كينيث كلارك، الذي صار وزيراً، كتب رسالة لإدارة الصحة والأمن الاجتماعي تنتقد "هذا الجراح المجنون في مستشفى هيرفيلد... كيف يمكن أن نوقفه؟ لعل أفضل سبيل إلى ذلك هو إغلاق مستشفى هيرفليد". لكن الدعم الجماهيري والتبرعات أسهمت في مواصلة يعقوب "البحث عن الحقيقة من خلال العلم"، فأجرى 14 عملية عام 1980، وإحدى عشرة عملية عام 1981. وغيّر وجه جراحات القلب، وأسس في المستشفى القروي في هيرفيلد "أضخم برنامج لزراعة القلب والرئة في العالم". وبرع بوصفه عالماً في مجالات متنوعة تجدد عضلة القلب، وبيولوجيا الخلايا الجذعية، وهندسة الأنسجة، وعلم مناعة زراعة الأعضاء، كما نشر أكثر من ألف ورقة بحثية علمية.
في عام 2012 رجع جون مكافيرتي إلى هيرفيلد في الذكرى الثلاثين لعمليته، وتوفي عام 2016 عن ثلاثة وسبعين عاماً، "بعد أكثر من ثلاثة وثلاثين عاماً على إخباره بأنه لن يعيش إلا عشرة أيام». أما باتريشيا باربييري طالبة الطب في روما، فنالت قلب صبي بولندي في السابعة عشرة لقي مصرعه في حادث. وتكتم فرانسيس بوكو وزوجته على زراعة قلب لابنتهما ماري، ولم يعرف إخوتها إلا حينما كبرت، وصارت محامية، وبلغت الحادية والخمسين، وعاشت بقلب مزروع سبعة وثلاثين عاماً، وهي من أطول الحالات في العالم. إنجازات، كما يقول المؤلفان، تؤكد أن يعقوب "ألهم جيلاً من الأطباء البريطانيين في مواجهة المعارضة المهنية والسياسية".
في عام 1983 خاض يعقوب مغامرة غير مسبوقة بزراعة قلب ورئة. عملية صعبة توجب استئصال العضوين من المريض دون مساس بأجهزته الأخرى، والمجيء بالمتبرِّع إلى مستشفى المريض المتلقي، لنزع قلبه ورئتيه كتلة واحدة، وزرعهما في القفص الصدري الخاوي للمريض. وكان الصحفي الرياضي السويدي لارس لونبرج ذو الثلاثة والثلاثين عاماً يحتاج إلى قلب ورئتين، ولجأ إلى جراحين في أوروبا والولايات المتحدة، وأخيراً جاء إلى يعقوب، للاستفادة من فرصة أخيرة للحياة، وطلب عزف قداس موتسارت في جنازته. وأبدى حزب المحافظين رفضاً لفكرة التبرع للأجانب. تمت الجراحة، واستجاب لارس، واسترد وعيه. ومات بعد أسبوعين. لكن يعقوب "لم يرتدع... لأن العملية نفسها نجحت جوهرياً".
نشر الشاعر والسياسي الأيرلندي غراي غاوري ديوانه "ترنيمة الدومينو: قصائد من هيرفليد"، أهداه إلى زوجته نيني، وإلى مجدي. إنه جرّاح مصري كان يرى "العلميات في أحلامي مجسّمة وأفكر في ما يمكن أن يقع من أخطاء، فأحاول أن أمنعها"
وفي عام 1984 نجحت زراعة قلب ورئة لأندرو ويتبي، شاب في العشرين. وفي عام 2015 كان أندرو أطول زراعي القلب والرئتين بقاء على قيد الحياة، يعمل في سوبر ماركت، ويتطوع للعمل في هيرفيلد. وبعد 1400 عملية زراعة، قال الجرّاح جافين رايت، بعد حضوره مؤتمراً في سان فرانسيسكو: "مستشفى هيرفيلد هو المكان الذي ينبغي أن يقصده من يريد أن يكون طبيباً". وفي سن الستين، احتاج الشاعر والسياسي الأيرلندي غراي غاوري إلى زراعة قلب، وحصل على قلب حيّ، من شخص حيّ. جاوري بطلٌ لجراحة "الدومينو" التي تشمل مريضين، أحدهما يحتاج إلى رئتين؛ فيزرع له قلب ورئتان، وينتزع قلبه السليم فيزرع للمريض الثاني.
غاوري هو الطرف الثاني في جراحة "الدومينو"، وتبرّع له شخص لا يزال حياً. كما جرت عملية الدومينو لأم نيوزيلندية في السابعة والثلاثين. عانت كاي بورينت من تمدد الحويصلات الهوائية الرئوية، ونالت 1987 قلباً ورئتين من شابة ماتت في حادث، ومُنح قلب بورينت لرجل هولندي. عاشت بورينت أربعة وثلاثين عاماً بعد الجراحة. أما غاوري فعاد إلى الشعر، ونشر ديوانه "ترنيمة الدومينو: قصائد من هيرفليد"، أهداه إلى زوجته نيني، وإلى مجدي. إنه جرّاح مصري كان يرى "العلميات في أحلامي مجسّمة وأفكر في ما يمكن أن يقع من أخطاء فأحاول أن أمنعها". إنه العنيد الذي اتهموه بالجنون، وجسّد معنى أن يكون الجرّاح عالماً.
لعل قارئاً ملولاً أضجره المقال، لعدم اعتياده قراءة سير العلماء. وأراهن أن القراء سيخوضون رحلة شائقة مع "مذكرات مجدي يعقوب"، لسيمون بيرسن وفيونا غورمان. سيرون خفة ظل عالِم يحب الدعابة. أخطأ باولو الجرّاح الإيطالي في فتح صدر مريض، وتدفق الدم، "كارثة غير مسبوقة"، فاستدعوا يعقوب الذي سيطر على الحالة، واستقر المريض. ولم يزد يعقوب على القول: "كنتَ اليوم يا بولو مشاكساً للغاية". يعقوب الذي يجري عملياته على خلفية الموسيقى الكلاسيكية، يزرع الورد في حديقة بيته، ولديه ولع خفيّ بالسيارات السريعة. وقد تسلم سيارة لامبورغيني من المصنع في إيطاليا، وقادها ليلاً إلى بريطانيا. فاجأه شرهها إلى الوقود، كيف نسوا أن يخبروه؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...