زرت مدينة أسوان عدة مرات، وترددت في الذهاب للقاء الدكتور مجدي يعقوب، خشية انتزاع دقائق المقابلة من وقت مخصص للأطفال مرضى القلب. في ميدان مجدي يعقوب بأسوان، أتأمل تمثاله المطل على نهر النيل، وأثق أن له تماثيل في القلوب. صار الجرّاح الرمز أيقونة عصرية، وبالنسبة إلى أطفال مصر هو استثناء، دون نجوم الفن والكرة، يحبونه كقديس.
وليس في سِيَر القديسين دراما، ولا اختيار للملائكة، سُبُلهم مستقيمة، أحادية تخلو من التعقيد والعناد. الشياطين أكثر إغراءً لصناع الدراما، إلا إذا صادفتْ حياة المصطفين نتوءات وصراعات مع جهلة وغيورين وحاقدين، أو سابقوا الزمن لإنقاذ إنسان يتطلب علاجه فنوناً لمواجهة المرض، والسيطرة على مفاجآته.
أتأمل تمثال مجدي يعقوب المطلّ على نهر النيل، وأثق أن له تماثيل في القلوب. صار الجرّاح الرمز أيقونة عصرية، وبالنسبة إلى أطفال مصر هو استثناء، دون نجوم الفن والكرة، يحبونه كقديس
وقد اجتمعت لجرّاح القلب المصري مجدي يعقوب صفات الاستغناء والحزم والتحدي والرهان على بلوغ الهدف، والقلق الإيجابي الداعي إلى الشك في الحقائق، والانتصار للعلم ولو أدت به المغامرة في سبيل إنقاذ مريض إلى الاتهام، وخضوعه للتحقيق في مقرّ الشرطة، واستدعائه إلى المحكمة، وهو لا يبالي، متسلحاً بالعلم، والرغبة في علاج القلوب، حتى إنه جعل من مستشفى هيرفيلد القروي، خارج لندن، قبلة للباحثين الراغبين في العلم، ورجاء لفاقدي الأمل في الحياة؛ فاستحق ألقاباً منها "ليوناردو دافنشي جراحة القلب". ووصفته الأميرة ديانا بأنه "ملك القلوب". ونال لقب فارس، ومنحته ملكة بريطانيا لقب "سير". ثم حمل مركز هيرفيلد لعلوم القلب اسم مجدي يعقوب.
سيرة مجدي يعقوب، التي كتبها اثنان من أبرع صحافيي التايمز، هما سيمون بيرسن وفيونا جورمان، تكشف جوانب كثيرة من دراما معقدة، وفي بعض المواقف تبلغ حدود التراجيديا. تفاصيل تضعني أمام إنسان قرر أن يصنع مصيره، وفي بعض الأحيان يعمل فوق ما يحتمله إنسان، فما بالنا بجراح يسافر جواً إلى دولة أخرى، ليحصد قلباً طازجاً ينتظره مريض آخر في بريطانيا، ولا بدّ من بدء عملية الزراعة قبل أقل من أربع ساعات على عملية الاستصال، ولا مجال للخطأ. يحكي ابنه أندرو يعقوب أن أباه لم يكن حاضراً في طفولته، إذ كان يرجع إلى البيت في الثانية بعد منتصف الليل، ويغادر قبل السابعة صباحاً.
أندرو أكبر أبناء يعقوب، ولد عام 1969، ويتذكر طيف أبيه: "كنت أظنه في طريقه إلى تدمير نفسه بعمله بأقصى طاقة ممكنة"، وكذلك في السفر الدائم، والأب يرى أن "أي شيء أقل من ذلك سيكون عادياً، وأنا لا أحتمل أن أعيش عادياً". وكان يخطف سويعات، فيغفو على أرضية مكتبه.
اجتمعت لمجدي يعقوب صفاتُ الاستغناء والحزم والتحدي والرّهان على بلوغ الهدف، والقلق الإيجابي الداعي إلى الشكّ في الحقائق، والانتصار للعلم ولو أدت به المغامرة في سبيل إنقاذ مريض إلى الاتهام، وخضوعه للتحقيق في مقرّ الشرطة.
يحكي إسماعيل الحمامصي، وهو جرّاح عمل مع يعقوب، ونال الدكتوراه في "الصمام الأورطى الحيّ" وتخصص في جراحة الأورطى؛ فلم تعد تسعه الجراحة العامة للقلب، أنهم كانوا يجرون العمليات طوال النهار، ويتكلمون في العلم في المساء، ثم يخرجون لتناول العشاء مع مضيفيهم حتى منتصف الليل. في السادسة صباحاً، ينتظر يعقوب؛ "لنبدأ من جديد".
لنحو نصف قرن، كره يعقوب الصحافة، وزهد في الإعلام. وتساءل الكثيرون: متى يكتب سيرته؟ وجاءت الإجابة بكتاب "مذكرات مجدي يعقوب... جرَّاح خارج السرب"، وهو حصاد جهد كبير بذله مؤلفان أجريا حوارات مطولة، تزيد على خمس وعشرين ساعة مع يعقوب وزوجته ماريان وابنتيهما ليزا وصوفي، وابنهما أندرو عبر البريد الإلكتروني، إيماناً بأن جودة أي سيرة "إنما هي جودة الأصوات التي تساعد في حكي قصتها"، كما قابلا مرضى سابقين وأقارب لمرضى، في بريطانيا واليونان والولايات المتحدة، وأطباء عملوا مع يعقوب، وبعضم لا يزال يعمل في "معهد مجدي يعقوب" في هيرفيلد؛ لكتابة "قصة رجل متواضع، عاش يراكم المعرفة"، كما عاش الكثيرون يراكمون الثروة.
صدرت الطبعة الإنكليزية عام 2023 عن الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وبرعاية من مكتبة الإسكندرية. ووقع اختيار مؤسسة مجدي يعقوب على الدار المصرية اللبنانية في القاهرة، لإصدار الطبعة العربية (2024)، وترجم الكتاب الشاعر أحمد شافعي.
وفي تقديم الطبعة العربية كتب الدكتور محمد أحمد غنيم، رائد زراعة الكلى في مصر والعالم، أن نشاط يعقوب لم يقتصر على مصر، "بل امتدّ متطوعاً لبلاد أخرى في إفريقيا، تعاني من فقر الموارد المادية والبشرية، إسهاما منه في علاج مرضاهم، وتدريب أطبائهم". وأكد أن يعقوب قدوة ونموج يُحتذى. وفي تقديم الطبعة الإنكليزية، قالت السيدة ماري آرتشر: "نشعر جميعاً بالامتنان لكونه ذات يوم قد رسا على شواطئ بلدنا".
ماري آرتشر وصفت يعقوب بأنه رجل استثنائي، أرّقته ولادة عشرة ملايين طفل سنوياً بعيوب خلقية في القلب، وأغلبهم في الدول الفقيرة، ولا يجد معظمهم الرعاية الصحية، فأسس سلسلة الأمل الخيرية في بريطانيا عام 1995، وامتدّت إلى إثيوبيا وموزمبيق وأسوان وجامايكا ورواندا، "إنها قصة ملهمة". واستشهدت بفيلم "مجدي يعقوب، ملك القلوب" الذي أذاعته قناة ديسكفري، عن الأسبوع الأخير لعمل يعقوب في هيئة الصحة الوطنية البريطانية. إنه فريد "لمس من قلوب الناس أكثر مما لمس أي شخص عداه، بالمعنى الحرفي للمس القلوب". وقد حوّل مستشفى هيرفيلد من مصحة صغيرة متخصصة في طب الجهاز التنفسي، إلى المركز ذي الشهر العالمية في جراحة القلب.
ولد مجدي يعقوب في بلبيس عام 1935. أبوه حبيب جراح عامّ. أمه مادلين ابنة قاض. يكبره أخواه مهجة وجمال، ويصغره أخوه الثالث سامي. في المدرسة كان صامتاً، وظن المعلمون أنه "متأخر عقلياً"، ثم فاجأهم بأنه الأول على فصله، واندمج في فريق كرة القدم، وأحب السباحة. وفي عام 1940 توفيت عمته الصغرى يوجين، الطالبة بالجامعة، لإصابتها بروماتيزم في القلب، فقرر "أن يصبح جرّاح قلب". وفي عام 1948 عاشت الأسرة عامين في مدينة أسوان الجنوبية، وفي معبد كوم أمبو أدهشه وجود "رسوم لأولى الأدوات الجراحية، ضمن الرموز الهيروغليفية". وفي سن الخامسة عشرة كتب مقالة عن النشاط الإشعاعي، فنال منحة للدراسة بجامعة القاهرة.
دخل الأخوان مجدي وجمال كلية الطب. اقترنت الدراسة بالمرح، فواظب مجدي على لعب التنس والسباحة، وحضور عروض الموسيقى في دار الأوبرا، واشترك في جمعية الموسيقى الكلاسيكية بكلية الطب. وتخرج عام 1957، ولم ينس سبب وفاة عمته. كان ترتيبه التاسع، وكرمه جمال عبد الناصر: "لقاء عابر... مثلما كان الزعيم المصري عبد الناصر يغير العالم، سيغيره كذلك يعقوب، ولكن في مجال مختلف، وعلى نحو شديد الاختلاف. كانت لدى كلا الرجلين رؤية للعدالة الاجتماعية". وعمل ثلاث سنوات بمستشفى قصر العيني. وخلافاً لرغبة أبيه، الذي توفي عام 1959، قرر الرحيل إلى بريطانيا، ليس لتحيّز ضد المسيحيين، بل "بحثاً عن فرص في العلم والطبّ السريري".
سيرة مجدي يعقوب، تكشف جوانب كثيرة من دراما معقدة، وفي بعض المواقف تبلغ حدود التراجيديا. تفاصيل تضعنا أمام إنسان قرر أن يصنع مصيره، وفي بعض الأحيان يعمل فوق ما يحتمله إنسان
في أيار/مايو 1960، استقل الشقيقان مجدي وجمال القطار من محطة رمسيس بالقاهرة إلى الإسكندرية، ومنها ركبا سفينة إلى لندن. حدد مجدي هدفه بوضوح، وهو التدرب على يد راسل بروك أحد أهم جراحي القلب في العالم. برع بروك في جراحات توسيع الصمام الرئوي، وكان يرى أن جراحة القلب ليست عمل فرد، "لا غنى عن فريق عمل". أقام الشقيقان في غرفة، ولضيق ذات اليد عاشا على المعلبات، وتقدم مجدي لامتحانات ثلاث زمالات دفعة واحدة. نجح مجدي. وورسب جمال وظل فخوراً بأخيه الصغير، ثم أصبح استشارياً في جراحة العظام، وهاجر إلى أستراليا. وبدأ مجدي يبحث عن وظيفة، وأصابه الوسط الطبي في بريطانيا بالإحباط.
ففي عام 1962 تقدم إلى المستشفى الملكي في مدينة ستوك، وبعد المقابلة اختاروا غيره، "جرحت نرجسيته"، وتقدم لشغل وظيفة في مستشفى لندن للصدر، ومنها ارتقى إلى اختصاصي أول، وعمل أيضاً في مستشفى برومبتون لأمراض الصدر والرئة. وفي وقت مبكر، تعلم أن "الجراحة في حقيقتها حالة ذهنية"، فاعتاد الهدوء أثناء إجراء الجراحة، وتشغيل موسيقى كلاسيكية.
ولاحظ جرّاح القلب المخضرم هولمز سيلورز، رئيس كلية الجراحين الملكية، شغف يعقوب بالمعرفة، فقال له: "لقد أجرينا كل جراحات القلب ذات القيمة، ولم يتبق شيء لاكتشافه، وقدرتك الذهنية على التساؤل سوف تضيع بدداً". ونصحه بالبحث عن تخصص آخر. فمضى يعقوب باتجاه البحث عن الجديد في تخصصه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أياممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.