جرت العادة منذ الطفولة أن أذهب كل خميس للمبيت عند جدتي، وهي عادة لم تنقطع حتى بعد أن وصلت منتصف الثلاثينيات، وبدأ الشعر الأبيض يغزو ما تبقى من الأسود، ولم يجاملني الزمن ويتركه لي كما عهدته، أسود، فوضوياً، متمرداً لا يعرف الهزيمة.
كانت عقارب الساعة تقف عند الخامسة إلا ربع، الشمس تلملم خيوطها وتميل نحو المغيب عندما وقفت في بلكونة الجدة القابعة بالطابق الثالث في بيت من سبعة أدوار، والتي تسمح برؤية جيدة. نظرات خاطفة من أعلى تكشف عن المكان من حولي، حواري ضيقة، وبيوت تحتضن بعضها البعض أكثر من حضن ساكنيها، محال ارتصّت على جانبي الطريق وسيارات زاهية الألوان، لحظات سكون قطعت صخب المارة وضجيج الصبية، ليعلو صوت فيروز قادماً من راديو المقهى القديم وهي تغني "طيري يا طيّارة طيري يا ورق وخيطان"، لم يفسده سوى صوت كلاكسات التوكتوك تدوي في المكان.
كان العم عادل يجلس كعادته على كرسيه أمام مدخل العمارة التي تزينه شجرة "البونسيانا" والتي صدعت جذورها الرصيف، ثمة ورود حمراء ذابلة تتساقط تحت قدميه مثل سنوات عمره. لا أعرف كيف لا يضحك وهو يكنس الورد. أسمع ضجيجاً خافتاً من خلف النوافذ لقاطني الشارع، يغلبه صوت فيروز وهي تكمل "بدّي إرجع بنت صغيرة على سطح الجيران وينساني الزمان على سطح الجيران".
كان العم عادل يجلس كعادته على كرسيه أمام مدخل العمارة التي تزينه شجرة "البونسيانا" والتي صدعت جذورها الرصيف، ثمة ورود حمراء ذابلة تتساقط تحت قدميه مثل سنوات عمره... مجاز
ربما لم تكن أمنية فيروز وحدها، كنت أتمنى ورفاقي أن ينسانا الزمان على سطح الجيران ونحن نتسابق في لعبة "الطيارة الورق"، نمسك بالخيط ونطلقها باتجاه الريح، لا نحمل من هموم الحياة غير القليل، كان أكبرها هو أن لا ينقطع الخيط وتسقط طيارة أحدنا على سطح آخر بعيد، أو تذهب مع الريح دون رجعة.
كانت الجدة تقف في المطبخ منهمكة في تحضير طعام العشاء قبل أن يسكن الليل البيوت، تقطع شرائح البطاطس وتنثرها فوق اللحمة ثم تضعها في الفرن. أي طعام يلمس يدها تحيطه البركة حتى يفيض، كأنها تصنع السعادة وتسكبُها في الطبق. رحت أتأمل البيوت. كانت كما هي لم تتغير، لونها من الخارج أصفر باهت بعد أن ضربت حيطانها الشمس التي لا جديد تحتها، حتى الجيران لم ينسهم الزمان مثلما نتمنى أنا وفيروز.
تقف الخالة زينب أم محمود في بلكونة شقتها التي لو أدركتها قوات نابليون بونابرت لقصفتها بالمدفعية، إذ لا ثغرة فراغ في "بلكونتها". تضع كرسياً متهالكاً، مربوطاً بعدد لا بأس به من حبال الغسيل، وفي المنتصف علقت بعضاً من رؤوس الثوم بجوار حبات من "البامية" على شكل عقد، وعلى السور تضع بعض علب السمن الفارغة التي زرعتها بالنعناع، وستارة بيضاء اللون تدخل منها، تحيي جيرانها وكأنها تقف على خشبة مسرح الريحاني.
بينما ينظر الحاج مصطفى البقال من شباك غرفته الضيقة في الطابق الأرضي، يخبئ همومه في دخان سجائره رخيصة الثمن، وهو يتأمل دخانها الذي يتخذ شكل دوائر لا تكتمل، وسرعان ما تتطاير بفضل نسمة هواء باردة لم تدرك برد يناير.
كان الحزن يتمشى في أرجاء وجهه وهو يطيل النظر إلى دكانه المغلق لأجل غير معلوم، بعد وفاته زوجته التي كانت تساعده في تقطيع الجبنة وبيع الآيس كريم. ربما لسان حاله يقول: "مللت البيع والفصال مع زبائني، وفي نهاية العمر لا أعرف كيف أشتري الونس".
أطلّت إحدى الجارات برأسها من الشباك، ومدّت يدها للخارج ونظرت للشارع. داعب الهواء خصلات شعرها الأسود، وفجأة تذكرت أنها تركت القهوة فوق "سبرتاية" قابعة على "ترابيزة" صغيرة تتوسط الصالة. جرت بسرعة ناحية القهوة. لحقت بها قبل أن تفور بثانية واحدة. ابتسامة خفيفة علت وجهها وكأنها أحرزت هدفاً في الدقيقة 90 على طريقة الأهلي، أو هدفاً من قدم شيكابالا لم يضل طريقه نحو الشباك. وضعت نقطة "مية ساقعة" على القهوة مثل سائقي شاحنات النقل الثقيلة، وراحت تكمل قراءة باقي رواية "مكتوب" لـ باولو كويلو.
لو يتركنا الزمان هكذا، أنا وأهل مدينتي، خارجه، في غفلة عن جريانه، مغمورين بالسعادة والنسيان، والأزهار التي تتساقط من شجرة "البونسيانا" كأن لا همّ لها إلا البهجة... مجاز
كانت قد أخبرتني قبل عامين عندما قابلتها صدفة عند بائع البُن، أنها تحب الروايات وتبكي عند موت بطل روايتها المفضل. أتذكر حينها أنها ضحكت بصوت عال عندما دعوت الله أن لا أكون يوماً أحد أبطال روايتها.
في الشقة المقابلة، كان يجلس شاب بجوار خطيبته يتبادلان الضحكات، ربما كان يتغزل في شعرها الكيرلي. دسّت يدها داخل حقيبتها وأخرجت قطعة شيكولاته، ومدتها ناحيته بابتسامة تنم عن حب كبير. تناولها من يدها وكأنها بمثابة اعتذار عن آخر سوء تفاهم حدث بينهما، ربما لسان حاله يقول: "لو كانت تعلم ان أصحاب العيون السوداء أخطائهم مغفورة لاحتفظت لنفسها بقطعة الشيكولاتة".
لم يقطع تفكيري سوى صوت الجدة وهي تنادي بأن أذهب لتناول الطعام، دخلت وجلست أمامها أتأمل وجهها الطيب الذي تجرّأ عليه الزمن وحفره بالتجاعيد، بينما في الخارج يحسب الزمان سنوات عمر العم عادل وهو يكنس بيده التي تهتز بفضل الشيخوخة ورد شجرة "البونسيانا" التي تتساقط بكثرة في فصل الربيع، أو ربما يجلس فوق سور بلكونة زينب أم محمود، بجوار علب السمن المملوءة بالنعناع، ينتظر يوم أن تلقى على جيرانها "الوداع الأخير" وهي تلوح لهم بيدها بحركة تشبه حركة يد كونداليزا رايس، بعد كل خطاب، أو يضيِّع مفتاح قفل دكان الحاج مصطفى حتى يلحق بزوجته ليشاركها الونس في الجنة، ويسرق سنيناً من عمر جارتي التي تخطت الأربعين وهي تنتظر بطلاً نجا من الموت في نهاية رواية كئيبة، أو ربما يفسد قطعة الشيكولاتة ويجعلها "تسيح" قبل أن يأكلها خطيب الفتاة.
لو يتركنا الزمان هكذا، أنا وأهل مدينتي، خارجه، في غفلة عن جريانه، مغمورين بالسعادة والنسيان، والأزهار التي تتساقط من شجرة "البونسيانا" كأن لا همّ لها إلا البهجة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع