عندما حالفها الحظ وذهبت معه في يوم، سألها ليختبر تجاربها العاطفية السابقة: "عارفة الشارع دا إسمه ايه؟". ردّت بمنتهي الشغف قائلة: "طريق العشاق، كنت دايماً باجي هنا مع فضل وفرحان واحنا راجعين من النادي". فيلم "غرام الأسياد".
القصص التي حدثت لي في مختلف الأماكن، كان دائماً للشوارع فيها نصيب كبير من الحب واللقاء وأيضاً الفراق، كأن الشوارع أغنية مستمرّة.
عمارة موشوفيسكي
أول لقاء يجمعني مع عامر، كان في أحد شوارع "وسط البلد". تجوّلنا كثيراً وظننت بأننا ضللنا سبيلنا وسلكنا طريقاً عشوائياً. وقفت فجأة أمام إحدى العقارات العريقة، مدخل مبهر تسمّرت أمامه وشرد ذهني، انفصلت عن الواقع تماماً لعدة دقائق أتأمل الزخارف والديكور. المدخل عبار عن منحوتة درامية عن فتى وفتاة، على ما يبدو أنهم في حالة انفصال بعد علاقة حب عميقة كانت تجمعهم. أول ما قاله لي عامر: "العمارة دي ليها قصة. الإتنين دول كانوا بيحبوا بعض، والراجل كان رجل أعمال كبير إسمه ثيودور موشوفيسكي، اللي المبني بإسمه لحد دلوقتي، وكان عامل المبني دا كله مخصوص لخطيبته عشان تيجي تعيش معاه في مصر، وبعد ما خلصت بعت لها عشان تيجي تعيش معاه، بس هي مردتش عليه، وعرف إنها سافرت مع رجل أعمال تاني واتجوزته، وقتها غضب وفقد ثقته في كل الستات والناس، وأجّر العمارة لنحات مشهور في وقتها. النحات دا كان عارف قصته، فحب يوثقها بطريقته، وعمل التمثالين دول تخليداً للقصة، ومن وقتها ودي من أشهر عمارات ومداخل وسط البلد".
القصص التي حدثت لي في مختلف الأماكن، كان دائماً للشوارع فيها نصيب كبير من الحب واللقاء وأيضاً الفراق، كأن الشوارع أغنية مستمرّة... مجاز
نظرت اليه وسألته: "تفتكر ممكن نسيب بعض ويحصل لنا حاجة زي كدا؟".
وحينها رد على الفور: "حتى لو بعّدنا هنتقابل صدفة في أي مكان وهنرجع تاني، إحنا لسه لنا قصص كتير هنعيشها سوا في أماكن أكتر. بتحبي عبد الحليم حافظ أوي، صح؟".
ابتسمت بالإيجاب علي الفور وفهمت حديثه وقلت له: "كان يوم حبك أجمل صدفة"، وكانت أول أغنية نتشاركها في ذلك اليوم.
وأثناء استماعنا للأغنية سألني: "ايه أكتر مكان نفسك تزوريه في حياتك؟".
قلت بدون تردد : "باريس ، نفسي نمشي هناك تحت المطر سوا، ونفسي نقعد في قهوة كمان هناك".
ابتسم نصف ابتسامة، وآخر ما قاله في حوارنا: "يبقي لو بعدنا ممكن نتقابل ونرجع هناك".
حي الزمالك، جنينة الأسماك
في اللقاءات الأولى لنا، كان لي نصيب في زيارة "جنينة الأسماك". كنت أسمع دائماً أنها مشهورة بـ"حديقة الحب"، ولكنني لم أسع وراء فهم السبب. كنت أظن أنها ملتقى للعشاق فقط، ولكن في ذلك اليوم، عندما أخذني وتجولنا بداخلها، أمسك يدي بطريقة حنونة، وسلكنا طريق الدخول، وسألني وهو يسير بجانبي: "تعرفي ايه عن جنينة الأسماك؟".
بحكم معرفتي البسيطة حينها، قلت له: "كانت زمان تخص كل الحبّيبة، وأي حد بيحب التاني بيجوا هنا".
وقفنا ونظرنا لبعضنا البعض، وابتسم عامر وقال: "بس كدا؟ طب تعرفي أنا جايبك النهاردة هنا ليه؟".
لم أدر في الحقيقة، وظهر علي علامات الاستفهام: "لاء معرفش، ليه بقى؟".
قصّ علي حكاية بناء الحديقة، حين أمر الخديوي إسماعيل ببنائها من أجل السيدة التي كان يحبها، وهي "اوجيني" ملكة فرنسا، وكيف بدأت قصة حبهما عندما كان طالباً يدرس في فرنسا، ولكن العلاقة لم تكتمل بسبب عدم استقرار الأمور السياسية والاجتماعية وعاد الخديوي إلى القاهرة وما زال قلبه معلقاً بها. ظلت ساكنة في عقله وروحه بالرغم من زواجه، وزواجها أيضاً من نابليون الثالث.
مرّت السنين وكانت مدعوة لافتتاح قناة السويس، ولذلك تم بناء الحديقة لتكون مقراً لها بشكل خاص، كانت في مصر لمدة 21 يوماً قبل الافتتاح، وعندما رأت ما فعله الخديوي لأجلها، وعندما كانت على وشك المغادرة، شاهدها عدد من المصريين وهي تتجول وتبكي في الحديقة وكأنها حزينة على الحب غير المكتمل.
نظر لي عامر عندما انتهي ووجدني أبكي بصمت. وقف وحاول أن يقوم بتهدئتي، وكل ما يدور ببالي حينها: "المكان ده مش رمز للحب، ده رمز للعذاب".
أكملنا سيرنا وذهبنا لمكان يبدو مألوفاً فقد رأيته في عدة أفلام، ولكنني لا أتذكرها بدقة، وطول الطريق كنت أستمتع بنسمات هواء الربيع وأشعة الشمس التي تتسلل من خلال الأشجار وممرات أحواض الأسماك، وحروف وأسماء لمحبين على الجدران. يبدو أن المكان كان شاهداً على عدد هائل من قصص الحب.
صعدت سلالم وقفت في أعلى مكان وبداخلي إحساس أن المكان مألوف. ذكرني عامر بجميع الصدف التي جمعتنا، وأول أغنية لعبد الحليم حافظ "صدفة"، وأشار للمكان وأخبرني بأن عبد الحليم غنّى "كان يوم حبك أجمل صدفة". أطلت النظر إليه وهو يقول: "مش صدفة أنا جايبك هنا، بس علشان أقولك إني بحبك، وإن أحلى صدفة هي اللي عرفتك فيها".
الإسكندرية. صوت حليم. المكان الفارغ. كل شيء وكأنه مُفصّل خصيصاً لأضع ذكرياتي على الطاولة وأمضغها... مجاز
شارع فؤاد الإسكندرية
شارع فؤاد هو من أعرق الشوارع في الإسكندرية، طرازه والشوارع والعمارات به توحي بأنه يرتبط بعلاقات الحب والقصص الأفلاطونية، من يسير به يشعر بحنين من حيث لا يدري.
في إحدى ليالي ديسمبر الشتوية، بدأت قوة الأمطار بالتزايد تدريجياً، حتى أصبحت ما يقال في الإسكندرية "نوه". لم أكترث. تابعت المشي بنفس الثبات حتى وصلت إحدى الكافيهات التي أحبها في الشارع. كنت أحب أن أجلس هناك دائماً مع عامر وحتى بعد ما افترقنا، حافظت على عادتي.
دخلت المكان. أغاني عبد الحليم كالعادة. لا يوجد أحد. إحساس لا مثيل له بالنسبة لشخص مثلي يقدس الهدوء والشتاء.
الإسكندرية. صوت حليم. المكان الفارغ. كل شيء وكأنه مُفصّل خصيصاً لأضع ذكرياتي على الطاولة وأمضغها. طلبت فنجاناً من القهوة. صوت عبد الحليم والشتاء يثيران بداخلي شغفاً رهيباً. بعد دقائق أدرت وجهي فوجدته. نظرت إليه وقد نسيت أمر حليم والشتاء، ولا أشعر بشيء سوى نبضات قلبي، ولا أري سوى عينيه.
تجمّد المشهد لمدة دقيقة ربما، وبداخلي أصرخ ألعن القدر والصدفة، وربما أغاني حليم وكأنها السبب في جذبه. أحسست بزلزال في رأسي، ولكنني تمالكت أعصابي وتجاهلته، ثم أدرت وجهي وبدأت في شرب فنجان قهوتي.
أعلم أنه سرح في تفاصيلي وفنجان قهوتي. أعلم أنه يتذكر كم كان قاسياً، وكم كاد يقتلني بالبطء، وكم أخطاؤه واعتذاراته المقتضبة الباردة مرهقة. بالتأكيد يتذكّر أنه لم يتأسف سوى مرتين فقط، على سنتين من الأخطاء.
شعرت به يتمتم صوت منخفض، وقد زادت حمرة عينيه وحاول كتم دموعه بعد تفكيره في جميع الأمور تلك، أو هذا ما أردته. ترك طاولته وغادر. كنت مع كل رشفة وكل نبضة من قلبي أتذكر تفاصيله، أتذكر السنوات التي تحملته فيها، أتذكر قسوته، ولكن أيضاً أتذكر نظراته، ابتسامته، مواقفه الطيبة، حنية قلبه... كنت أتمنى فقط أن نجلس سوياً في ذلك الوقت تحديداً، نستمع لأغنية ما ونصمت.
"إحنا فعلاً حبينا بعض، حتى لو الزمن مسمحش إن الحدوتة تكون بالشكل اللي كان لازم تكون فيه وتكمل، حتى لو دارينا حبنا وكابرنا ومحاولناش، بس إحنا فعلاً حبينا، ياتري هنرجع أو خلصت خلاص؟ معرفش الحقيقة، بس كل اللي عرفته إن زي ما كان في نصيب للحب في الشوارع وولادة علاقات طيبة، فيه نصيب للفراق".
أمسك يدي وأخذ يجري مسرعاً باتجاه الشمال، قائلاً بنبره صاخبة: "لو اتعاتبنا وفوتنا الفرصة دي نبقي مجانين، هنجري لآخر نقطة مطر. أوعدك عمري ما هسيبك"... مجاز
الشانزليزيه
الحي الثامن من باريس شمال غرب المدينة شتاءً. مضي يومان قضاهما عامر وحيداً في بلد الفن والجمال. ما فائدتهما بينما الوحدة تنهش روحه؟ يخشى الوحدة بالرغم من أنه محاط بكثير من الأشخاص والأصدقاء، ويخشى الحب، لذلك كان يخشاني ولذلك قرّر الهروب.
في العاشرة مساءً. مطر خفيف يهطل في ليلة غريبة، أجواء ممزوجة بالحنين والاشتياق، جلد الذات ومسامحتها في نفس الوقت، الوجع وربما الندم. لا أحد يميز حقاً هل تلك دموعه أم مطر متناثر على وجهه؟ هو نفسه لا يعلم. مجرّد شخص شريد، ذهنه لا يتوقف عن التفكير، يتطوّح في الشوارع، ولكنه لا يصدّق عينيه. كنت آخر من ينتظر لقاءه في باريس. وقف مكانه ورفع عينيه التائهتين إليّ مباشرة، نعم هو يراني بالفعل ولست خيالاً من تأليف حنينه.
ابتسامتي، نظرتي، وجنتاي الدافئتان عندما أراه، خصلات شعري المتناثرة من الهواء، الكوفية خاصتي، لمعه عيني. كاد يشعر بصوت نفسي وكأنه يحتضني بعينيه، وأول ما قاله لي: "أنت؟". قالها ببلاهة طفل واشتياق عاشق و لهفه حبيب. اقتربت منه وأنا ما زلت أرمقه بنفس النظرات التي يخشاها. كنت وحدي فقط القادرة على احتوائه كأميرة تستطيع ترويض الوحش.
نظرت الي عينيه مباشرةً وقلت له : "أنا، شفت الصدف؟ فاكر أول أغنية جمعتنا لعبد الحليم كان إسمها بردو (صدفة). ياترى هتهرب فين تاني يا عامر؟".
أمسك يدي وأخذ يجري مسرعاً باتجاه الشمال، قائلاً بنبره صاخبة: "لو اتعاتبنا وفوتنا الفرصة دي نبقي مجانين، هنجري لآخر نقطة مطر. أوعدك عمري ما هسيبك".
نظرنا لبعضنا ونحن مستمرين في الجري وتتعالى ضحكاتنا كالمجانين، وأكملنا سيرنا. كانت الشوارع المبتلة مستمرّة في المشاهدة والضحك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 23 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع