تختلف قصص اللاجئين السوريين اختلافاً كبيراً بالرغم من تشابه ظروف لجوئهم مع آخرين، فلكلّ منهم تجربة فريدة من نوعها، فعندما يكون الوطن في قلب الحلم وتتحول الحرية إلى أمنيات معلقة، تبدأ القصص الإنسانية في التكوين، وفي قلب هذه التجارب المؤلمة يفتح اللاجئون السوريون قلوبهم للحديث عن رحلتهم المليئة بالكثير من المعاناة والشجن والحنين للعودة رغم استحالتها.
هكذا هي قصة عمار حمو، الصحفي السوري الذي بدأت رحلته قبل 13 عاماً هرباً من ويلات الحرب وقمع نظام بشار الأسد، ليصل إلى بر الأمان في أوروبا، وسط آماله المعلقة بلقاء أفراد عائلته الذين باتوا مشتتين بين ثلاث قارات.
في العام 2011 الذي شهد خروج مئات الآلاف من السوريين إلى الشوارع للمطالبة بالحرية والديمقراطية ورحيل بشار الأسد، وفي ذلك الوقت كان حمو ينشط في التغطية الإعلامية لأحداث مسقط رأسه في مدينة دوما بريف دمشق، لكنه سرعان ما أدرك خطر الاعتقال الذي يهدد حياته، فاضطر للمغادرة إلى الأردن خاصة أنه ينتمي لعائلة بها شخصيات معارضة لنظام الأسد زُوج بعضها للسجن، حيث عاش 10 سنوات قبل أن يضطر للجوء إلى فرنسا بعد تزايد التهديد بترحيله إلى دمشق بسبب التقارب بين النظامين الأردني والسوري، والآن وبعد 13 عاماً من الحلم بالحرية في سوريا صارت كل آماله تدور حول جمع شمل عائلته المشتتة.
بعد 13 عاماً من الحلم بالحرية في سوريا، صارت كل الآمال تدور حول جمع شمل العائلات السورية المشتتة
في حديثه لرصيف 22 يقول عمار، 38 عاماً، إنه كان يتنقل بين سوريا والأردن منذ العام 2006، وفي الوقت ذاته كان يدرس في كلية الإعلام، بجامعة دمشق. لكنه خرج للمرة الأخيرة في 2011 ولم يعد، حيث كان قد أسس وقتها مع صديقين آخرين "تنسيقية مدينة دوما"، وهي أول منبر إعلامي يغطي أهم أحداث وأخبار الغوطة الشرقية التي تعد دوما أكبرها ومركزها.
"خرجت من سوريا ولم أتخرج". يقولها الصحفي السوري الشاب، موضحاً أنه فر من سوريا وحال بينه وبين التخرج مادة واحدة فقط، ولم يستطع العودة خشية أن يكون تم تعميم اسمه على الأفرع الأمنية، وأن يكون ضحية اعتقال، خاصة أنه ينتمي لعائلة تضم شخصيات معارضة للنظام السوري. ودرس من جديد الصحافة والإعلام، في إحدى الجامعات الأردنية فحصل على شهادته الجامعية منها.
عمار حمو وشقيقه منيب، صورة شخصية للقائهما في رومانيا.
حينما فر عمار من سوريا لم يخرج حينها أي شخص آخر من أفراد أسرته. "لا والدي ولا والدتي ولا إخوتي، كنت برفقة زوجتي فقط، وهي سورية من مواليد الأردن، وكما نقول نحن بلغتنا الدارجة، من أصحاب الهجرة الأولى، فوالدها خرج من سوريا في الثمانينات لأنه كان مطلوباً لدى النظام السوري في فترة حكم حافظ الأسد". يقول عمار. في أواخر العام 2012 خرجت عائلته إلى الأردن، لكن لم الشمل هذا كان بداية لـ"رحلة شتات جديدة".
يقول عمار: "بقينا عامين مع بعضنا، وبعدها سافر أخي براء إلى البرازيل، وبعدها بعام عاد أخي، عبدالرحمن، إلى سوريا وبقي نحو عامين ومن ثم خرج إلى تركيا ومنها إلى البرازيل. وفي العام 2020 سافر أخي الأصغر، منيب، إلى تركيا للدراسة، وفي مطلع 2024 التحق أبي وأمي وأخ وأخت آخرين لي بإخوتي في البرازيل، ولي أخت أيضاً في السعودية".
في العام 2021 غادر عمار الأردن بعد عشرة سنوات قضاها هناك، وتزوج خلالها وأنجب ثلاثة أطفال. يوضح: "سبب خروجي كان التضييق على الإعلام السوري المعارض للنظام السوري، والذي تزامن مع تطبيع الأردن مع النظام السوري".
كالعديد من السوريين، يواجه عمار التحديات في تحصيل تأشيرات السفر وزيارة أفراد عائلته، والتكاليف المادية المرتفعة. ورغم ذلك، يرى أن وضع عائلته يعد أفضل بكثير من آلاف السوريين
وفق تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش، صدر في أكتوبر/ تشرين الأول 2017، تقوم السلطات الأردنية بترحيل جماعي للاجئين سوريين، بما في ذلك إبعاد جماعي لأسر كبيرة. لا يعطى السوريون فرصة حقيقية للطعن في ترحيلهم، ولم يقيّم الأردن حاجتهم إلى الحماية الدولية.
سافر الصحفي السوري إلى فرنسا بتأشيرة إنسانية، وقدم طلباً للجوء. لكن أيامه الأولى هناك كانت شديدة القسوة، حيث وجد نفسه في مراكز استقبال للمهاجرين تفتقر إلى المقومات الأساسية للحياة المقبولة.
يقول: "في فرنسا يتم التعامل مع اللاجئ القادم إلى البلد كأنه جاء عن طريق التهريب إلى بلد أوروبية أخرى - بمعنى أنه يُعاد النظر في قصتك ووضعك - وعند وصولي تم وضعي في مركز لاستقبال اللاجئين بغرفة لخمسة أشخاص لمدة 47 يوماً".
ويضيف: "بعد ذلك تم نقلنا إلى قرية صغيرة في شرق فرنسا لا يتجاوز عدد سكانها 4 آلاف شخص ولا يوجد بها وسيلة مواصلات سوى 3 باصات، تخرج من القرية إلى مدينة قريبة بها ماركت ثم تعود. وإذا ذهبت لشراء بعض السلع الغذائية وفاتك الباص لن تستطيع العودة إلا في اليوم التالي".
ويشدد الصحفي الشاب الذي يشغل منصب مدير تحرير لموقع، سيريا دايركت، على أن الحياة خلال هذه الفترة كانت صعبة وقاسية عليه وهو ما جعله يتذكر حياته قبل الخروج من سوريا أولاً والأردن ثانياً...
"كنت معروفاً في الوسط الإعلامي السوري، وكنت معروفاً في الأردن، وحياتي مستقرة، وعلاقاتي الاجتماعية جيدة. لكن كل ذلك تبدل فجأة".
يواصل عمار: "شعرت بأنني عدت لبناء حياتي من الصفر من جديد. الروتين الحكومي الفرنسي مزعج، الحظ هو ما يتحكم بسير لمعاملات وفي مكان السكن، كما أن البيئة جديدة كلياً لي ولعائلتي".
وبعد 9 أشهر جرى نقل عمار وأسرته الصغيرة مرة أخرى ولكن هذه المرة إلى مدينة تسمى ميتز، التي تقع شمال شرق فرنسا: "في ميتز كانت الأمور جيدة وعدت لعملي الذي كنت أزاوله كصحفي في الأردن".
شتات وأمل بلم الشمل
يشير عمار إلى التحديات التي واجهها كسوري في التنقل وزيارة أفراد عائلته، حيث يجد صعوبة في الحصول على تأشيرات سفر، ويعاني من قيود السفر والتكاليف المادية المرتفعة. ورغم كل هذه العقبات، يرى عمار أن وضع عائلته يعد أفضل بكثير من آلاف السوريين الذين يواجهون ظروفاً قاسية في مناطق النزاع ضمن سوريا.
منذ عام 2014 لم تجتمع عائلة عمار الكبيرة، الأب والأم والإخوة، على سفرة واحدة.
يقول عمار: "بسبب وضعنا كسوريين، من الصعب جداً التخطيط لزيارة عائلية تجمعنا، لأن السوري يجد معاملة خاصة وتضييقاً في كل دولة، مثلاً قبل وصولي إلى فرنسا تقدمت بطلب فيزا سياحية لتركيا ورُفضت، كما لم ألتق بأخي عبدالرحمن منذ تسعة سنوات تقريباً، فهو لم يتمكن من زيارتي في الأردن، وبالنسبة لي زيارة البرازيل صعبة بسبب المسافة والتكاليف، عدا عن إجراءات تأشيرة السفر المعقدة، لكن وضع عائلتي لا زال يعد أفضل بعشرات المرات من الكثير من السوريين، خاصة العالقين في مناطق المعارضة أو النظام ولا يملكون وثائق سفر".
ويضيف: "آخر لقاء مع أبي وأمي كان في أكتوبر/تشرين الأول 2021 عندما ودعتهم في الأردن مسافراً إلى فرنسا".
صورة من لقاء الأخوين عمار ومنيب حمو في رومانيا، الصورة لعمار حمو
في مارس 2024، التقى عمار بشقيقه منيب أخيراً في رومانيا، وحينها كتب عبر حسابه على موقع فيسبوك: "كنا نحلم بحريتنا في بلادنا وأن نتخلص من الظلم، وبالذكرى الـ13 للثورة صرنا نتمنى لقاء أب أو أخ أو عم أو حتى صديق. الله يجمعني بأبي وأمي ويجمعكم بأحبابكم".
"كنا نحلم بحريتنا في بلادنا وأن نتخلص من الظلم... في الذكرى الـ13 للثورة صرنا نتمنى لقاء أب أو أخ أو عم أو حتى صديق. الله يجمعني بأبي وأمي ويجمعكم بأحبابكم". الصحفي السوري، عمار حمو
عن هذا اللقاء، يقول عمار: "التقيت بمنيب في رومانيا، جاء هو من تركيا وأنا جئت من فرنسا!"، ويضيف موضحاً كيف تم اللقاء بعد أن تقدم بطلب تأشيرة إلى تركيا ولم يحصل عليها، "حصلت قبل ثلاثة أشهر على وثيقة سفر لاجئ فرنسية تخولني زيارة دول الاتحاد الأوروبي من دون فيزا، وفي المقابل حصل منيب على فرصة تبادل ثقافي في رومانيا، ولم نكن نتوقع ذلك".
ويرى عمار أن عائلته، المشتتة بين ثلاث قارات، تختصر صورة الواقع الأليم الذي يعيشه السوريون.
عمار وشقيقه منيب، يلتقيان في رومانيا. صورة شخصية من عمار حمو
الأبناء في الغربة
وُلد أبناء عمار الثلاثة أروى، ياسر، ويامن، في الأردن وهم لا يعرفون سوريا، ولا يدركون حسبما يقول الأب: "معنى الوطن"، ولا يتعلقون به لأنهم يربطون سوريا بإجرام بشار الأسد، خاصة أن عمار يحدثهم عن أصلهم ومدينتهم التي قصفت وحوصرت، وعن أصدقائه الذين استشهدوا أو اعتقلوا هناك.
في فرنسا عندما تُسأل أروى وياسر من أين أنتما فيقولان أنهما سوريان. لكنهما كما يوقل عمار: "في حصة الرسم عندما طلب منهما رسم علم بلادهما، أكثر من مرة، قاما برسم علم الأردن، فبالنسبة لهما الأردن حياتهما وأصدقائهما وذكرياتهما، لكن بالنسبة للأردن الرسمي أو الحكومي، أبنائي وأنا لاجئون، لا حقوق لنا إلا تلك التي تحددها حق اللاجئ، بعكس أوروبا التي منحتنا حق اللجوء ومن ثم حق المواطنة (التجنيس)".
يرى عمار أن عائلته، المشتتة بين ثلاث قارات، تختصر صورة الواقع الأليم الذي يعيشه السوريون.
وعن المواقف المؤلمة التي واجهها في فرنسا، يقول عمار: "ابنتي أروى ذات العشرة سنوات، بدأت تدرك معنى الصحافة ومدى خطورة هذه المهنة في كل دول الشرق الأوسط، وتعلم أنني خرجت من تلك البلاد لأنني صحفي، فقالت لي أكث من مرة: بابا لماذا لا تترك الصحافة وتفتح مطعم؟ الله يوفقك اتركها".
الانخراط في المجتمعات العربية
بحكم عمله كصحفي ينخرط عمار بشكل دائم مع السوريين وقضاياهم وهمومهم حتى وهو في فرنسا، لكنه يعترف بأنه بدأ مؤخراً يميل للعزلة والهدوء وأصبح أقل تفاعلاً من ذي قبل. ويقول: "السوريون في المنفى يعيشون صراعات من نوع آخر، من قبيل اللغة الجديدة والاندماج والعمل، وتأمين بيئة آمنة للأطفال والموازنة بين موروثهم الثقافي والقيمي وبين اندماجهم في أوروبا".
ويؤكد عمار أن حلم الحرية لا يخبو في داخله من مبدأ "الظلم لا يدوم"، ولكن يتساءل: "ما طعم الحرية على أنقاض بلد مدمر، ومع وجود أكثر من نصف مليون شهيد وعشرات آلاف المعتقلين؟".
أما عن حلم العودة، فيرى أنه يتضاءل: "ما دُمر في 13 عاماً، من حجر وبنى تحتية، ومن قيم، وما زرع من كراهية بين السوريين بحسب انتماءاتهم السياسية والطائفية والعرقية لا يمكن ترميمه بسنوات قليلة".
"ما طعم الحرية على أنقاض بلد مدمر، ومع وجود أكثر من نصف مليون شهيد وعشرات آلاف المعتقلين؟". الصحفي السوري، عمار حمو.
وعن الفارق بين عمار الذي شارك في الثورة السورية وعمار الذي يعيش في منفى بعيد عن وطنه حالياً، يقول إنه بدأ كناشط صحفي في سوريا، لكنه الآن صحفي دارس، وبالتالي صار يتعامل مع الأحداث بواقعية أكبر: "في البداية كنت أتابع وأمارس نشاطي بحماس وعنفوان وأتوقع أن حريتنا على الأبواب وأن أزمتنا ستستمر لبعض الوقت، ولكن بعد أنهار الدماء من جهة، ومتابعة التجاذبات السياسية الإقليمية والدولية بشأن سوريا، صرت متيقناً أن الحل ليس قريباً وليس بيدنا. ومع مساعي التطبيع الإقليمية مع بشار الأسد صرت أشعر أن المطبعين من الدول يدوسون على أحلامنا بالحرية على حساب تمكين الأسد".
ويضيف: "صرت أشعر أن تعاطف الدول مع ثورتنا كان مصلحة، وأن تطبيعهم مع الأسد وقتل ثورتنا مصلحة، أي أن المصالح تحرك الدول لا الإنسانية، وهنا لا أقصد الشعوب وإنما الحكومات".
يرى عمار نفسه محظوظاً وبنعمة كبيرة مقارنة بآلاف المعتقلين، وملايين السوريين الذين يعيشون تحت خط الفقر، بما في ذلك: "الذين يعيشون في المخيمات وكأنهم مسجونون في أوطانهم لا قدرة لديهم على التحرك ولا السفر".
يذكر أن أكثر من أربعة ملايين سوري فروا من ويلات الحرب في بلادهم إلى الدول المجاورة وأوروبا، وأن عدد طالبي اللجوء السوريين لدى دول الاتحاد الأوروبي في 2022 بلغ نحو 131 ألفا و700 طلب، وهو الرقم الأكبر عربياً وحتى دولياً بالنظر إلى الأوضاع السياسية والأمنية التي تعيشها البلاد منذ 2011.
وقد تضاعف عدد طالبي اللجوء السوريين في 2022 مقارنة بعام 2020 الذي سجل 64 ألفاً و540 طلباً، وهو الرقم الأدنى منذ بداية الدراسة في 2014، علماً بأن ذروة طلبات اللجوء كانت في 2015 عندما تم تسجيل أكثر من 371 ألف طلباً.
ويقول فرانسوا هيران، الباحث الديمغرافي والأستاذ في، كوليج دو فرانس، إنه: "من عام 2014 حتى يومنا هذا، استقبلت فرنسا 44 ألف لاجئ سوري فقط، وفقا لبيانات يوروستات، أما ألمانيا فاستقبلت 18 ضعف هذا الرقم وتركيا ما يقرب من 100 ضعف، نحو 3.8 مليون لاجئ سوري وفقاً لإحصاءات مفوضية اللاجئين".
وذكر الخبير الديموغرافي أن: "السوريين والعراقيين والأفغان الذين تمكنوا من تقديم طلبات لجوئهم في أوروبا الغربية هم أفضل من الناحية المالية والمهنية من نظرائهم الذين لجؤوا إلى دول الجوار ، علماُ أن 80% من اللاجئين السوريين متواجدون في البلدان المجاورة لسوريا، لبنان والأردن وتركيا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...