شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"الغربة ما فِهاش صحاب"... حين يكون للوحدة ناب وللانخراط أنياب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمهاجرون العرب

الخميس 22 يونيو 202302:11 م

ستبقى اللحظة التي نزلت بها في مطار اسطنبول بحقيبة صغيرة، لحظة خالدة في تاريخ حياتي، فتحت عيني نحو عالم أوسع مما كنت أقرأ عنه في الكتب والقصص والروايات، عالم حقيقي يمثل أمامي، ولا يتطلب مني أن أغلق عيني لأتخيل كيف تكون مشاهد الازدحام المرسومة في سطور الروايات، أو عجائب الطبيعة غير الموجودة من حيث أتيت!

كان العالم يمتد، كأنه ألف رواية تحكيها وجوه العجائز التركيات، ألف قصة تتمثل في عيني صبية لا تجد لها مقعداً في المتروباص، فتبقى واقفة تنظر عبر الباب الزجاجي الشفاف بينما كل الهضاب تعدو إلى الخلف! وتعدو معها نفسي التي دخلت في صدمة حضارية لم أكن بعدها قادرة على التعامل مع وتيرة كل هذا التسارع دفعة واحدة، ومع هذا الكم الكبير من الناس.

ستبقى اللحظة التي نزلت بها في مطار اسطنبول بحقيبة صغيرة، لحظة خالدة في تاريخ حياتي

عندما وصلت اسطنبول، انعزلت لشهور، لم أكن أخرج إلا لجلب حاجياتي، ولم أكن قادرة على اختراق مدى أوسع في المدينة، أو أبعد من حي " أفجيلار" الذي أقطن فيه، عندما أصاب بالملل، أخرج إلى المنتزه الذي يتقوقع آخر الشارع، ومن خلفه بحيرة مترامية الأطراف تحدها من الجانب الأيمن هضبة ضخمة، ومن الجانب الآخر المدينة وأضواؤها التي تنعكس ليلاً على الماء، وقبالتها كنتُ أقف أنا، برأس مثقل بكثير من التفكير والتحليل.

أو أخرج على الشرفة الأرضية، أرى الطائرات الضخمة، تحمل مسافري السماء، وأراقب الطائرة تلو الأخرى، فتمر في ذاكرتي كل أصوات طائرات الحروب، ثم أنظر للمبنى المقابل أمام الشرفة، كان علم تركيا يرفرف في أعلاه، فأعود من ذكرياتي إلى الواقع، لأرى وجوه العجائز يخرجن من هذا المبنى المخصص لهن، فتمنحني رؤيتهن شعوراً بالسلام، سلام العمر الممتد إلى الشيب.

ثم، بعدما مضى بي الوقت الذي استطعت مع مروره أن أستوعب أنني في العالم الحقيقي الذي وجد على الكرة الأرضية، أنني في عالم غير محدود وغير مؤطر باتجاه ما، وأن خلف كل أفق آفاق عديدة، ربما الأفق الذي أتمسك لا ينتمي إليها بتاتاً.

وبدافع من غريزة الفضول والاكتشاف التي تجعلني دوماً أمضي إلى الأمام، خرجت إلى العالم الواسع، وقد بدأ هذا بانتقالي إلى حي "الفاتح".

بدأت الحياة تضعني أمام العلاقات والتي أصنفها إلى: إلزامية، كتلك التي يجب أن تحدث بفعل مشاركة السكن.

للغربة دوماً مآزق غير محسوبة ومواقف من الحدة التي تكشف بها أنت في الحقيقة مع من؟ من هو ذاك الذي تسميه صديقاً.

مجاملة، كعلاقات الجيرة.

انتقائية، وهي التي تكون أقرب للروح والقلب... وتنقلت علاقاتي من جارتي التركية "عديلة" و"عائشة" الكينية و"مي" السودانية، ولقد مررت بالعراق والهند وباكستان وأوزبكستان وبريطانيا، والجزائر وتونس، واليمن والأردن، وسوريا، ولبنان، وبنغلادش، ونيبال، وأثيوبيا، أميركا، إيران، والمصريين… الكثير من المصريين، وغيرهم!

استمعت للآخرين وتعلمت كثيراً مما كنت أجهله، وكنت أحرص في كل مرة ألا أجالس ذوي العقول الفارغة، فمتى اكتشفت ذلك من أحاديثهم، انسحبت! وكان هذا هو معياري الذي أقيس به جودة علاقاتي مع الغير، فكان بإمكاني أن أنتقي وأختار.

ولكن للغربة دوماً مآزق غير محسوبة ومواقف من الحدة التي تكشف بها أنت في الحقيقة مع من؟ من هو ذاك الذي تجاوره وتعايشه أو من تسميه صديقاً. أو أي مسمى يرسم علاقة بشرية تجري بين اثنين!

أتذكر عندما أصبت بكورونا، كانت أول ردة فعل ممن يشاركونني في السكن، هي أن أخرج من الشقة إلى الحجر الصحي، رغم أن جميع الفتيات حصلن على اللقاح قبلي! لكنها الأنانية البشرية التي تكشف عن نفسها عند مواقف السوء، وبعد نقاش عقيم بقيت في سريري، لم يساعدني أحد بشيء، حتى بنقلي إلى المستشفى، كنت غالباً أذهب وحيدة.

شعرت أنني تحولت إلى وباء بينهم، وأصبحت فجأة غير مرئية إلى أن شُفيت تماماً، وعاد لون وجهي لي.

من المواقف التي لا أنساها أيضاً في بداياتي، أني ذهبت إلى آلة لسحب المال ATM بعدما انتهى ما في جعبتي من نقود، وضعت البطاقة البنكية لأسحب النقود من الآلة، لكنها لخلل فيها ابتلعت البطاقة في قلبها، قبل أن تخرج لي أي فلس! وبقيت متسمرة أمامها وقد تجمدت تماماً، بينما طابور المنتظرين خلفي تلاشى! تواصلت بمن أعرف لأرى ما أفعل، ولكن دون فائدة، هذا يعني أنني سوف أمضي دون أي فلس، وقد مضيت كذلك لعدة أيام قبل أن أستلم بطاقة بديلة!

بعد ذلك، حدث ذات يوم معي، أني كنت أحمل جواز سفري داخل ملف، استقللت تاكسي، وشرعت أشرح للسائق الوجهة التي أتوجه إليها، ومضى الطريق هكذا وأنا أشرح له، ثم نزلت إلى الوجهة، وبعد عدة خطوات تذكرت أن ملف جواز سفري بقي داخل السيارة، وتلك بالنسبة لأي مغترب "طامة كبرى".

لن أستطيع أن أصف كيف شعرت، كأنني للحظات اختفيت من فوق الكرة الأرضية، وتحولت إلى ذرة غبار تستطيع أرق نسمة حملها، كانت أول ردة فعل لي هي أن أمسك هاتفي، اطلعت على قائمة جهات الاتصال، كان هناك الكثير من الأسماء تمر تحت عيني أكثر من ألف وخمسمائة اسم، تذكرت جميع الشدائد والمصائب التي مررت بها، وتذكرت خيبات الأمل المتتابعة، لكني تمسكت بحسن الظن، وتواصلت مع من استطعت، لكن الكل في شأنه مشغول.

من لا يسند في الضيق لا ندعوه صديقاً

أغلقت هاتفي، تيقنت أن لا نفع لي فيمن حولي، تلفت في المكان ونظرت إليه بدقة، لمحت كاميرا مراقبة فوق باب أحد المطاعم، دخلت وطلبت من الرجل خلف طاولة الاستقبال أن يفتح لي الكاميرات، أخبرته بالحدث، وتتبعنا السيارة لإيجاد رقمها، تقدمت ببلاغٍ إلى الشرطة، وانتظرت، كانت كل دقيقة انتظار بعد ذلك هادئة. انتظار استسلام عجيبٍ، كانت كل دقيقة تتحول إلى مليون سنة صامتة. إلى أن عاد جواز السفر بين يدي.

هذه ثلاثة مواقف من مئة موقف، لم أجد بها مع من شاركتهم الوقت والحال والطعام والشراب أي سند في الضيق، ومن لا يسند في الضيق لا ندعوه صديقاً، فانعزلت عن الناس مرة أخرى، ولكن هذه المرة بطريقة اختيارية، وتجنبت أن أفتح الحوارات، أو أن أبدأ بالسؤال عن الحال، وأصبحت أرى ولكن لا أرى، وأنا أردد في ذاتي: "لا عشم في أحد مهما بلغت منزلته، فالعشم في الذات لا غيرها، وإن أتى عزيز فهو عزيز الحال والمقام أتنعم من جميل رحيقه إلى أن يمضي، فالكل ماضون في مسارات حياتهم".

بعد قناعتي هذه التي تمسكت بها بالانعزال الاختياري عن الغير، كانت هناك فتاة مصرية تجاورني في السكن، لم أفتح معها أي حوار لثلاثة أشهر قبل أن تتعثر إحدانا بالأخرى، وبدأ الحوار وحده يجري، كانت "أسماء" من أسيوط مصر، جاءت من إندونيسيا بعد إنهاء دراستها للبحث عن عمل، تقول لي:"الغربة ما فهاش صحاب، الكل كلاب". وبدا لي أنها حاقدة، فقلت لها: "ليش؟"

قالت:" كنت أعيش في سكن آخر، فشعرت أنني شغالة، ضيعت فلوسي وأنا أطبخ لهم كل يوم طواجن لحمة وفراخ، وأنا لسة مش لاقية شغل". تكمل:" الأدهى أنهم أصبحوا يعاتبونني إذا لم أقم بغسل الأطباق جميعها، تخيلي أنني كنت أطهو وأغسل وأصرف على تسع بنات لثلاثة شهور حتى أفلست تماماً".

كانت طريقة وصفها لمعاناتها مع الغير وطبائعهم، وطريقة تصرفها البريئة تذكرني بفيلم : "صعيدي في الجامعة الأمريكية". أضحكتني بمآزقها... وخرجت وإياها من هذا الحوار صديقتين قررتا العزلة الاختيارية عن الغير، واختارتا صداقتهما فوق كل الآخرين.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بين دروب المنفى وذكريات الوطن

خلف كلّ مُهاجرٍ ولاجئ، حياة دُمِّرت وطموحاتٌ أصبحت ذكرياتٍ غابرةً، نُشرت في شتات الأرض قسراً. لكن لكلّ مهاجرٍ ولاجئ التمس السلامة في أرضٍ غريبة، الحقّ أيضاً في العيش بكرامةٍ بعد كلّ ما قاساه.

لذلك هنا، في رصيف22، نسعى إلى تسليط الضوء على نضالات المهاجرين/ ات واللاجئين/ ات والتنويه بحقوقهم/ نّ الإنسانية، فالتغاضي عن هذا الحق قد يؤدّي طرديّاً إلى مفاقمة أزمتهم والإمعان في نكبتهم. 

Website by WhiteBeard
Popup Image