كنت دائماً أعتبر الكتابة منفذي الوحيد، وطريقتي في التأمل والصلاة والحب والغضب. لكن منذ وقوع كارثة الزلزال الأخيرة أشعر بعبثية الكلمات وعدم جدواها.
لا أعلم لماذا أكتب وإن كان يمكن لكلماتي أن تضاهي مشهداً واحداً على أرض الواقع.
هذه المرة الكارثة تتجاوز قدرتي على التعبير.
هذه المرة الكارثة تتجاوز قدرتي على التعبير.
تكرار هذه القسوة يشعرني بعبثية كلّ ما أقوم به. لكن ربما بعد تفكير أعلم ما الذي يدفعني حتى في هذه الظروف للكتابة، أشعر بحاجة ملحّة لتوثيق هذه المشاعر من أجل ألّا ينساها العالم، ومن أجل أن يروا قدرتنا على المقاومة ويعذرونا على قباحتنا، وعلى خوفنا المستمر، وحزننا المتراكم.
أكتب كاعتذار لأصدقائي في سوريا، كصرخةٍ في وجه هذه المعاناة وهذا العجز، صرخة كلّما خرجت بصوتٍ سوري تتلاشى دون أن تجد صداها.
لسوء حظي، استيقظت الساعة الخامسة صباحاً بتوقيت ألمانيا يوم حدوث الزلزال، تلقيت الخبر الأول دون أن أفهم فحواه، أغلقت هاتفي وأنا لا أزال أستوعب الخبر، أعدت قراءته بعد دقائق.
انتقلت إلى صفحات أخرى وأخبار أخرى، وبدأ القلق ينهش رأسي وجسدي، أرسلت بضع رسائل لبضعة أشخاص مقربين في سوريا، مع ذلك لم أكن قد أدركت حجم الكارثة ولا مكان وقوعها بالضبط.
أكتب كاعتذار لأصدقائي في سوريا، كصرخةٍ في وجه هذه المعاناة وهذا العجز
حاولت العودة إلى النوم وكان أسوأ قرار اتخذه، إذ كانت نتيجته ساعات من الكوابيس المتتالية.
لم يفرّق عقلي خلال النوم بين الزلزال والقصف والانفجارات.
كانت كوابيسي على اختلاف أشكال الموت التي شهِدتها سوريا، مرةً تتكسّر الرفوف في غرفتي وتنهار جدرانها، مرةً تحوم الطائرات فوق رأسي وتهتز الأرض أسفل قدميّ، ومرةً أركض في الشوارع بحثاً عن عائلتي. بين كلّ كابوس وآخر كنت أرفع رأسي لأتفقّد الردود على رسائلي.
الخوف الذي يصيبنا ونحن في الغربة عند حدوث أيّ كارثة في الوطن لا يمكن مقارنته بأشكال الخوف الأخرى. انتظار رسالة تثبت وجود إنسان على قيد الحياة هو أمر غير محتمل، دقائق خانقة تتباطأ مع ازديادها. عقدة الناجي تعود بالظهور بسبب عدم قدرتنا على الوجود في مكان وقوع الكارثة. ولأننا رغم صعوبة انتظارنا ندرك أنه لا يمكن أن يوضع في الميزان ذاته مع انتظار طفل تحت الأنقاض ليدٍ تنتشله، أو انتظار أحد الأفراد إيجاد عائلته بعد تهدّم منزلهم.
انتظار رسالة تثبت وجود إنسان على قيد الحياة هو أمر غير محتمل، دقائق خانقة تتباطأ مع ازديادها
لسوء حظي مرة أخرى، كان لدي امتحان في الجامعة في يوم حدوث الزلزال.
خرجت من منزلي وتوجهت إلى الجامعة، وأنا بانتظار دخول القاعة تفاديت النظر في وجوه أصدقائي المنشغلين بمراجعتهم الأخيرة للامتحان. أوشكت أن أبكي والصور التي شاهدتها تتكرر في رأسي، وأمامي أصدقائي الألمان الذين لم يسمعوا حتى بخبر الزلزال، أو أنهم سمعوه ولم يكترثوا.
كنت أسأل نفسي كيف لهم ألّا يهتموا؟ كيف لهذا العالم أن يكون غير مبالٍ بأرواحنا لهذه الدرجة؟ كيف يمكن للحياة هنا أن تستمر بشكلها الطبيعي، طبيعية أكثر من اللازم في ظل ظروف كهذه. أنا أُعتبر غريبة هنا، أنا الفتاة السورية العاجزة عن أن أكون جزءاً من الكارثة وعن أن أكون خارجها تماماً.
في اليوم التالي، حين شاهدت صورةً شاركتها إحدى صديقاتي لمدرستي في حلب، تذكّرت منزلنا، وكأن عقلي قبل هذه اللحظة كان يتفادى التفكير به، وللمرة الأولى تساءلت إن كان ما زال في مكانه وحجارته متراصة تعانق ذكرياتنا. لم أستطع أن أطرح هذا السؤال بصوت مرتفع حتى الآن، ربما لأن مصيبة من هم في حلب تتجاوز أهمية السؤال وأنا خجلى من طرحه، وربما لأنني خائفة من سماع الإجابة.
حين غادرت منزلي بعد يومين من الفاجعة والتقيت أصدقائي العرب، بحثت في أعينهم عن تضامن في الألم، بحثت عن مهرب من شعور الوحدة الذي وصل إلى أقصاه خلال يومين. وجدتهم أكثر قدرة مني على التعامل مع الواقع، الاستمرار في حياتهم الطبيعية، عملهم، دراستهم، والأحاديث السطحية، والأهم قدرتهم على الضحك.
أنا لا أزايد بالإنسانية، جميعهم فعلوا ما بوسعهم للمساعدة، تفاعلوا بقدر استطاعتهم لكنهم مجبرون على التخطّي، وإن كان ظاهرياً، لئلا يخسروا فرصتهم في البقاء على أرض أكثر رحمة عليهم من وطنهم.
وكما تحوّل الوطن إلى غابة، غابة قائدها هو الأول في نهش أجساد فصيلته، تحوّلت وسائل التواصل الاجتماعي إلى غابة نهاجم بها عن بعد. وكالعادة في كلّ مصيبة تقع على هذا الشعب، يُكشف الستار عن قلّة الوعي بما يحدث وبطريقة التعامل الصحيحة مع المصائب.
انتشرت الأخبار والتنبؤات الكاذبة، بدأت الخلافات على التبرعات، وشُنّت الحرب ضد الجهات غير القادرة على توزيع التبرعات لجميع المناطق. وكأننا بعد كلّ هذه السنوات لم ندرك إلى اليوم حقيقة التقسيمات الحاصلة، وحقيقة السرقات والعرقلات التي يطبّقها النظام.
نحن الشعب الوحيد المنكوب دون تصريح، دموعنا هي الإعلان الوحيد عن نكبتنا. صور الأطفال تحت الأنقاض التي تخترق خصوصيتهم أصبحت وسيلتنا الوحيدة ليرى العالم أننا بحالة طوارئ لن يعلن عنها حكّامنا. وطننا يعيش بما تبقّى من أخلاق وقلوب طيبة لدى شعبه، ويقتله كلّ شيء آخر في هذا العالم.
صور الأطفال تحت الأنقاض أصبحت وسيلتنا الوحيدة ليرى العالم أننا بحالة طوارئ لن يعلن عنها حكّامنا.
لا شيء يعوّض السوريين خسارتهم، ولا أحد منهم يستحق كلّ هذا الألم والخذلان. نحن بحاجة لأن يتم إخراجنا من هذا الوطن المبتلى، إخراجنا بشكل كامل وانتزاع كلّ ما أصابنا فيه من رؤوسنا، بحاجة لأن تعاد لنا إنسانيتنا الطبيعية، فنحن إمّا أصبحنا مفرطين في الإنسانية وإمّا معدومين منها، لا شيء طبيعياً في حياة أيّ ممن ولدوا على تلك الأرض. الأرض التي رفضتهم هي الأخرى.
لو كنت مؤمنة لطلبت من الله أن يفتح للشعب السوري باب الجنّة على مصراعيه، جميعهم باستثناء القتَلة، جميعهم دون شرط الإيمان أو الصلوات أو الالتزام بأيّ فرائض. فلا بدّ له بالاعتراف باستحقاقنا لها بعد تحمّلنا كلّ ما حلّ بنا من مصائب. ولأني غير مؤمنة، فلا أمل لدي بمستقبل أفضل للبشرية بعد كلّ ما شاهدته من تخاذل من الدول والمنظمات التي تلقّب نفسها، دون أيّ دليل على ذلك، بالإنسانية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين