الجزائر في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي كانت تختلف كلياً عن جزائر الثمانينيات والتسعينيات واليوم، وهذا من ناحية المرجعية والثقافة واللباس وأسلوب العيش وهامش الحرية في الفنون والآداب، إذ كان من حق المرأة في المرحلة الأولى مثلاً أن تلبس ما يعكس شخصيتها وما تؤمن به، لهذا ملأت الشوارع بشعرها المنسدل على كتفيها، ولباسها الذي يمثله "الميني جيب" أو الفستان القصير ذو الألوان المختلفة.
كان الأمر عادياً وقتها أن نرى هذه المظاهر في المقاهي وعلى الأرصفة وعلى الشواطئ وفي المؤسسات الرسمية والإدارات والمدارس والجامعات وغيرها من الفضاءات العامة والخاصة، وكان هو المعطى الأساسي الذي يعكس الحياة العادية وروح المدينة وتفاصيل المناطق الحضرية.
أما مظاهر التدين فكانت محدودة جداً، إذ من النادر جداً أن نجد في الجامعة من يطلق لحية دينية أو من تضع برقعاً، وهو من المظاهر الحديثة المستوردة، لأن لباس الجزائري الأصيل والمتدين ينعكس في الملاءة السوداء أو "الحايك" الأبيض الذي ترديه النسوة، أو العمامة والبرنوس الأبيض بالنسبة للرجال. لهذا كانت تلك المظاهر عادية جداً وسط المجتمع، ولا تلفت النظر ولا تجلب أي احاديث جانبية تنتقدها وتقمعها أو تحاصرها بالنظرات، وهو الأمر الذي ألقى بظلاله على هامش الحرية في ما ينتج من آداب وفنون، وما يُعرض بشكل ما على التلفزيون وفي قاعات السينما.
لم تعد جزائر الأمس موجودة اليوم، ما كان "هامشاً" في المرحلة الأولى أصبح اليوم "متناً"، والعكس صحيح، وقد نتج هذا بعد أن تغلغلت الحركات الإسلامية والإخوان المسلمون في الجامعات والمراكز والساحات
وهناك أدلة عملية على هذه الفترة، انطلاقاً من الصور الفوتوغرافية والأفلام السمعية البصرية والكتابات التاريخية، ولقد وقفنا مثلاً على أحد الاحتفالات الكبرى التي مرت على الجزائر، حيث كانت تقام الاستعراضات في شوارع الجزائر العاصمة، بحضور الرئيس الأسبق هواري بومدين خلال فترة توليه الحكم (1965-1978)، وقد ظهرت مواكب من الآلاف من الفتيات بلباس قصير جداً، يرتدين ألبسة بألوان مختلفة، وهذا تحت تصفيقات الحضور على جوانب الطرق.
تغلغل الخطاب الديني وتمدده
لم تعد جزائر الأمس موجودة اليوم، ما كان "هامشاً" في المرحلة الأولى أصبح اليوم "متناً"، والعكس صحيح، وقد نتج هذا بعد أن تغلغلت الحركات الإسلامية والإخوان المسلمون في الجامعات والمراكز والساحات، بتواطئ وتساهل مفضوح من بعض السياسيين الذين أرادوا تكسير الأيديولوجيا البومدينية، ليخرج بعده الأمر عن السيطرة تماماً، وتدخل الجزائر في مواجهة مسلحة دامية وقاسية أخذت الاخضر واليابس، مع المتطرفين المسلحين أصحاب الفكر العنيف، دامت أكثر من عشر سنوات، وقد أطلق عليها "العشرية الحمراء"، راح ضحيتها أكثر من مئتي ألف جزائري، ناهيك عن الخسائر النفسية والاقتصادية وما اتصل بهما.
انعكس هذا الوضع بشكل عام على الجيل الجديد الذي أصبح ذا نظرة أحادية، معظمهم لا يؤمنون بحرية المرأة وهامش الحرية الذي يجب أن يتوفر، ويكفر بشكل علني بالفنون والآداب، يعتقد بأنها مفسدة للأخلاق والمجتمع.
وقد أثّر هذا الوضع على بعض الجهات التي باتت هي الأخرى تستجيب لهذه الفئة، تحاول أن تراضيها بممارسة رقابية غير مؤسسة، وليس أدل من ذلك الحملاتُ التي تحدث بين الفينة والأخرى على المنتجات الفنية والثقافية، حيث يتم تكفير أصحابها بمجرد إدراج فكرة أو مشهد يُعاكس مرجعيتهم الهشة والفارغة، لينطلقوا بعدها في حملة جماعية كأنها منظمة، تهاجم وتضغط حتى تستجيب لهم السلطة الرسمية، وهذا ما حدث مثلاً مع المسلسل الجزائري التونسي "حب الملوك" الذي بدأ عرضه في الجزائر على قناة "النهار" شهر رمضان 2022، وهو من إخراج التونسي نصر الدين السهيلي، للمؤلفة فاتن الشادلي.
قد تم إيقاف العمل بعد أن رصدت "الرقابة الشعبية" ممثلة في الجمهور في أحد المشاهد، رجلاً ينظر بإعجاب الى مؤخرة امرأة، والمشهد من الناحية الفنية مبرر درامياً، لكن "الرقابة الشعبية" رأت بأنه خادش للحياء ويمس بـ"قدسية الشهر الفضيل". كما بدأت بعض الجهات في تحويل الأمر على أنه مؤامرة تمس "بمرجعية الجزائر" وهويتها الإسلامية. وبعد هذا الضغط استجابت سلطة ضبط السمعي البصري، وهي هيئة حكومية تقوم بمراقبة محتوى القنوات، وأمرت بوقف عرض المسلسل، بعد أن استدعت مديرة القناة، وقد أصدرت بياناً ذكرت فيه بأن هذا الإجراء جاء "على خلفية بثها لمشاهد تتنافى مع قداسة الشهر الفضيل وتمس بالقيم الأخلاقية للمجتمع الجزائري".
كما استدعت مدير قناة الشروق، من أجل مسلسل "بابور اللوح"، انطلاقاً من مشاهد رأت بأنها تمس بـ"قدسية الشهر الفضيل" والغريب في الأمر بأن تلك المشاهد غير مدرجة في العمل، فقط رواد التواصل الاجتماعي تداولوا فيديوهات على أنه من العمل.
وقد مارست أيضاً العديد من المراجعات الرقابية في حق الكثير من القنوات، انطلاقاً من ضغط الجمهور، لكنها في المقابل تغض الطرف على الوضعية غير القانونية التي تسير تلك القنوات وطرق بثها، او المشاكل الكثير التي يمر بها قطاع السمعي البصري على العموم، لكنها انشغلت بمشهد "خادش للحياء".
في نفس هذا السياق، قمتُ بمراسلة هذه الهيئة، سألتها حول دورها في القنوات التي تقوم بقرصنة عشرات من الأعمال السينمائية والسمعية البصرية، والأدهى بأن المواد المقرصنة جديدة لا تزال تعرض في دور السينما العالمية، خاصة وأن هذا الأمر يمكن أن يتسبب بخسائر كبيرة لتلك الشركات، لكن تلك المؤسسة تجاهلت رسالتي ولم ترد عليها، وأكثر من هذا استثمرت بعض الجهات السياسية هذا الأمر، بعد أن وصل الأمر إلى البرلمان، حيث وجّه أحد النواب سؤالاً لوزير الاتصال بخصوص هذا الموضوع.
التطور بأثر رجعي
العودة إلى المرحلة الأولى تجعلنا نقف على العديد من الأمثلة العملية بين جزائر الأمس واليوم، إذ كان التلفزيون الرسمي منفتحاً بشكل كبير على المشاهد والأعمال التي تعد اليوم في نظر بعض الفئات "خادشة للحياء"، وليس أدل من ذلك بث فيلم "رياح رملية" لمحمد لخضر حمينة، تحت عنوان آخر وهو "العاصفة"، وهذا في فترة بداية الثمانينيات، رغم أنها مرحلة بداية التشدد وتقييد مكتسبات الماضي، ومن بين المشاهد المهمة في الفيلم والتي عرضت، هي قيام الزوج بتعنيف زوجته ليلة الدخلة، وقد أظهرها الفيلم وكأنه يقوم باغتصابها، وأكثر من هذا ظهرت عارية، من أجل الإشارة إلى وضعية المرأة وما تمر به من اضطهاد من قبل الرجل.
كما أن هناك أمثلة أخرى لأفلام تناولت "الثورة الجزائرية" بالنقد، ولقد تم عرضها في التلفزيون وقاعات السينما وفتحت نقاشات حول الثورة، مثل أفلام "سنوات التويست المجنونة" لمحمود زموري سنة 1986، وفيلم "الفحام" لمحمد بوعماري سنة 1975، وفيلم "يوسف أو اسطورة النائم السابع" لمحمد شويخ سنة 1993, وهذا في أوج مراحل الجزائر تطرفاً، وغيرها من الأفلام الاخرى، لكن اليوم من المستحيل عرض فيلم يتناول "الثورة" بالنقد، وهذا ما حدث مثلاً في فيلم "الوهراني" للياس سالم سنة 2014، الذي أراد أن يقول في فيلمه بأن من صنعوا الثورة الجزائرية ليسوا ملائكة، يخطؤون ويصوبون مثلهم مثل الكثير من البشر، وهو السلوك الطبيعي، لكن الإعلام قام بشيطنته، وهاجموه من كل جهة، حتى أن هناك من شرح الأمر على أنه مؤامرة تُحاك ضد الجزائر.
كل هذه المعطيات السلبية ستساهم في تردي المشهد الفني، وتكرس صوراً سلبية عن الجزائر، لتظهر في صورة بأنها بلد لا تراعى فيها هوامش الحرية، يستجيب بسرعة إلى الحملات الشعبية الغير مؤسسة
وهذا ما يحدث منذ أكثر من 5 سنوات مع فيلم "العربي بن مهيدي" للمخرج بشير درايس الذي لم توافق المؤسسة الرسمية على عرضه، بسبب مشاهد وأحداث وردت في الفيلم لا تتقاطع مع الرواية التاريخية الرسمية، ورغم الأموال الكبيرة التي صرفت عليه غير أنه لا يزال حبيس الأدراج، وقد جاءت هذه الحروب انطلاقاً من القطيعة مع الماضي، لأنهم لو وقفوا على ما تم إنتاجه في الماضي، او أحاطوا بالمكتسبات الحضارية والفنية وهامش الحرية ومساحة النقاشات التي عاشتها الجزائر في مرحلة ما، لما اطلقوا تلك الأحكام غير المسنودة بأي مرجعية تبريرية، وكأن الجزائر لا تتبع مؤشر التطور الطبيعي، تبدأ من الصفر ثم تتوجه صعوداً، لكن للأسف الجزائر بدأت كبيرة وعادت القهقرى، لتصبح في شكلها الحالي السلبي.
الرقابة القبلية وشرطي الرقيب
أنتجت "الرقابة الشعبية" ممثلة في الجمهور، وتواطؤها غير المعلن مع الجهات الرقابية، موادّ فنية في السينما والتلفزيون وحتى المسرح جوفاء لا روح فيها ولا حركة، لا تنتج أي نقاش ولا تطرح أي أسئلة، وأكثر من هذا ساهم هذا الدور في تكريس رقابة قبلية، وزرع شرطي رقيب في ذهن كل مخرج أو كاتب سيناريو أو حتى مسيري القنوات التلفزيونية، خوفاً من الخسائر التي ستنتج عن توقيف أي عمل.
وكل هذه المعطيات السلبية ستساهم في تردي المشهد الفني، وتكرس صوراً سلبية عن الجزائر، لتظهر في صورة بأنها بلد لا تراعى فيها هوامش الحرية، يستجيب بسرعة إلى الحملات الشعبية الغير مؤسسة، وأكثر من هذا كله ستتحول السينما والتلفزيون من مصدر من مصادر التثقيف والتهذيب وزرع اللذة والرفع من ذائقة المتلقين، إلى مواد خاضعة لهم ولا تعرض سوى ما كان في أذهانهم بشكل مسبق، وفي هذه الحالة سيغيب تأثير الفن بشكل عام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...