لطالما ارتبط النجاح بالنسبة لي ولكثيرين من أبناء جيلي (على ما أعتقد) بمجموعة من الضوابط والمعايير التي تجعل الجهد الذي نبذله في سبيل تحقيقه قيمة مضافة، وليس العكس.
ولطالما كان السعي وراء النجاح، سعي مُقنّع، الهدف الرئيسي منه، غالباً، ليس النجاح بحد ذاته بقدر ما يجلب هذا النجاح من شعور بالكفاءة والرضا عن الذات، وبالتالي الشعور بالسعادة؛ فكلمة السعادة كلمة مبهمة ومطاطة وحسية أكثر من كونها مادية وملموسة، ولهذا ربما، استعضنا عنها بكلمة النجاح، الكلمة الأكثر وضوحاً ونضجاً، وحتى أكثر اتساقاً مع الواقعية، فقد كان من السهل نوعاً ما، بناء تصور عنها، تصور فطري، بديهي، مبني على أساس تحقيق مجموعة من الشروط البديهية أيضاً، فالنجاح لن يكون نجاحاً مستحقاً باعتقادي، واعتقاد كثيرين، إن كان مبنياً على ضربة حظ لوغاريتمية مثلاً كما يحدث اليوم، ولن يكون نجاحاً مستحقاً، أيضاً، إن لم تُحدّد هذا النجاح وتوجهه أهداف ذات قيمة وجدوى ومعنى، تجعل له طعماً حلواً، مستساغاً، يشبه كثيراً طعم السعادة.
اليوم لم تعد مفردة النجاح بريئة كما كانت في السابق، ربما، أقصد قبل هذا الانفتاح الهائل للبشر على بعضهم، وقبل ظهور وسائل التواصل والمنصات الإعلامية الجديدة، بل صارت مفردة معقدة، غريبة، حمالة أوجه، مقنعة، وخبيثة
العصر الحديث وإعادة صياغة لمعنى النجاح
اليوم لم تعد مفردة النجاح بريئة كما كانت في السابق، ربما، أقصد قبل هذا الانفتاح الهائل للبشر على بعضهم، وقبل ظهور وسائل التواصل والمنصات الإعلامية الجديدة، بل صارت مفردة معقدة، غريبة، حمالة أوجه، مقنعة، وخبيثة، يحاول الجميع تحصيلها لكن بعد قطع ذلك الخيط الوهمي والجميل الذي كان يربط يوماً ما بين النجاح والشعور بالكفاءة، واختراع خيط جديد يربط النجاح بتحقيق الثراء والشهرة فقط، دون أي معايير من أي نوع كانت.
صغار، كبار، مثقفون، معلمون، فنانون، أناس عاديون... الجميع قد مسّه اليوم هوس الظهور وتحصيل الشهرة بأي طريقة كانت، يلهثون في سبيل جمع جمهور يقدّم الإطراء أو الشتيمة، لا فرق، فالطريقتان تصبّان في خانة زيادة الظهور وزيادة المشاهدات، وهذه هي الشهرة المنشودة، الشهرة القائمة على أساس استغلال فاضح لقلّة الوعي وانعدام الثقافة وضحالة التفكير إن وجد. حتى تحول الأمر لتجارة على مواقع الفري لانسر، فيومياً وبدلاً من الجملة الشهيرة: "أي قطعة بـ 100"، صرنا نسمع إعلان من نوع "1000 متابع بـ 100 دولار"، مثلاً.
فوز سلحفاة مرّة لن يجعلها أرنباً
قد نتساءل: وماذا يعني هذا، وماذا يضرّ أن ينجح الجميع وينشهر الجميع؟ والإجابة بسيطة جداً وهي المساس بالجودة والقيمة، فليس الجميع مؤهلين للغناء مثلاً، أو للكتابة، أو للبناء، أو للطبخ... حتى أن البعض ليسوا مؤهلين للظهور من الأساس، كالأطفال، مثلاً، فأي محتوى يستطيع طفل أن يقدمه دون أن يعتدي هذا المحتوى على طفولته ويؤثر في صحته النفسية والجسدية وهذا الأهم.
مئات من العبارات التافهة والخالية من أي قيمة يتم تداولها اليوم على أنها لأحد كبار العلماء والفلاسفة، فهل هذا عن عبث، أم فيه الكثير من الاعتداء على منظومة فكرية كاملة يتم العمل على إعادة تدويرها لتصبح مناسبة أكثر لما يتم الترويج له من رداءة؟
العالم اليوم أشبه بسفينة لا نعرف من قادها لعرض البحر، وأحدث ثقباً فيها، لكن نعرف تماماً أننا غارقون لا محالة بالتفاهة والسخف
هذه الفوضى الحاصلة، تخفّض معايير الحكم على قيمة شيء ما، وتحوّل الهراء إلى روائز يُقاس عليها، فعندما نقدّم جائزة، سواء أدبية أو فنية أو في أي مجال كان، لعمل رديء، وعندما يأخذ مسلسل درامي شعبية كبيرة رغم خلوّه من العناصر الأساسية للعمل الدرامي الجاد، فقط من خلال التسويق الناجح، واللعب على العواطف، وركوب الترند، وعندما تقام مهرجانات وحفلات تضخّ بها أموال طائلة لمشاهير التيكتوك وصناع المحتوى والأنفلونسرز، الذين حوّلوا حياتهم الشخصية ومشاكلهم إلى المحتوى الذي يقدمونه، وعندما تكرّم معلمة ويسلط الضوء عليها محلياً وعربياً فقط لأنها فهمت متطلبات العرض اليوم، دون أي كفاءة تعليمية أو تربوية حقيقية، وعندما وعندما... ستتحول هذه الرداءة إلى أساس يُبنى عليه، وهنا الكارثة. الكارثة في تصدير السيئ والرديء على أنه نتاج جيد، لا بل نتاج مهم، سيتحوّل صنّاعه مع الوقت إلى مرجعيات وأيقونات فكرية.
وهنا من الطبيعي أن يكون المسؤول الأول عن كل ما يحصل، الحكومات العاجزة عن ضبط مؤسساتها سواء الثقافية أو التربوية وحتى العلمية، والعاجزة عن وضع أشخاص مؤهلين للتقييم الحقيقي القائم على الجدية والفهم العميق والتفكير النقدي، فتجدهم هؤلاء الأشخاص ينخدعون أكثر من غيرهم بالصورة، وينساقون أكثر من غيرهم مع التريند، وهذا كله يصبّ في خدمة بناء نظام فكري جديد، نظام يكرّم فيه التافه، ويتوّج فيه المبتذل، ويتم تجاهل الجيد وتقليل قيمته لينسحب من المشهد.
عندما نجحت أم كلثوم يوماً، كمغنية، تلقائياً شكل العقل رؤيا للأشخاص الذين يمكنهم الغناء وتحصيل الشهرة من الغناء، فحدّد العقل شرطاً بديهياً للغناء وهو الصوت الجميل، ثم اللحن والكلمات، أما عندما يكرّم مطرب ما وينال جائزة مرموقة وهو صاحب صوت متواضع وأغانيه لا لحن ولا كلمة، سيبدأ العقل بتكوين رؤيا أخرى للنجاح، رؤيا تجعل الجميع يعتقدون أن بإمكانهم الغناء، وهذا هدر حقيقي للطاقات.
يشبه هذا تماماً ما حدث مع السلحفاة والأرنب، فأن تفوز السلحفاة مرّة في سباق مع الأرنب لن يجعل من السلاحف أسرع من الأرانب، لكن سيؤثر على أهداف السلاحف ويجعلها تتجه لمكان لا يتناسب مع إمكانيتها، فبدلاً من العمل على تطوير ما تمتلكه، ستحاول كلّ الوقت أن تصبح أرانب. وهذا بالطبع مجحف وغير عادل. ليس على السلاحف أن تصير أرانب أبداً، إلا في عصرنا اليوم.
صغار، كبار، مثقفون، معلمون، فنانون، أناس عاديون... الجميع قد مسّه اليوم هوس الظهور وتحصيل الشهرة بأي طريقة كانت، يلهثون في سبيل جمع جمهور يقدّم الإطراء أو الشتيمة، لا فرق
ربما نحن "دقة قديمة"
من الطبيعي جداً، أن يرى البعض أن الرائحة الوحيدة التي تفوح من كل ما سبق هي رائحة التزمّت، وأننا لسنا نحن، المستنكرين لما يجري، أكثر من أناس "دقة قديمة"، عجزوا عن مجاراة شروط العصر الحديث، فاختاروا الهجوم.
في الحقيقة لسنا أعداء للنجاح، ولا للثروة، بطبيعة الحال. مشكلتنا فقط مع التفاهة التي تتحكم اليوم في أي نتاج كان، مشكلتنا مع الفوضى والعبثية التي نتجت عن كل هذا، فالإنسان دائماً جاهز ليصبح جمهوراً، وليغير معايير حكمه على قيمة أي شيء، ولا لشيء إلا لأن وعي الإنسان وإدراكه من السهل جداً التلاعب به من خلال الصورة. في السابق كانت فرصة الظهور متاحة فقط للنخب وللأشخاص الأكفأ، وهذا ما رفع من سوية ووعي الجمهور الذي كان من الصعب إرضاؤه، على عكس اليوم الذي تتاح فيه فرصة الظهور للجميع.
وفي هذا السياق أتذكر دراسة كندية تم إجراؤها على عينة من البشر بعد التحقق من سلامة هذه العينة عقلياً وكفاءتها أيضاً، ثم عرض عليها مجموعة من الجمل تم توليدها من خلال آلة تولد جملاً غير منطقية وليس بها أي معنى، باستخدام كلمات رنانة وعميقة، والمذهل أن حوالي 30% من العينة أعطوا هذه الجمل تقييم فوق 3 من خمسة أي أن 30% قيّموا الهراء بتقدير جيد.
وهنا يخطر في بالي التساؤل عن الأعمال الدرامية التي تنفق في سبيل نجاحها وتصدّرها المشهد العربي أموال يعرف الجميع مصدرها، هل نجحت في السباق الرمضاني، وهل فعلاً هي أعمال ناجحة ومهمة وعظيمة، تحمل رؤيا معينة، وتسعى لهدف حقيقي وجاد، غير جمع الأموال؟
هل نجح "الحشاشين"؟ هل نجح "أولاد بديعة"؟ هل الأعمال المعربة اليوم ناجحة؟ ربما، هي ناجحة من باب واحد فقط وهو المشاهدات، ولكن الباب الأهم للنجاح، هل يتساءل صناع هذه الأعمال إن نجحوا حتى بطرقه؟ هل التلاعب بالجمهور والاستخفاف بفكره، واستغلال التشويق والابتذال لجذبه وإرضائه، ينتج أعمالاً ذات قيمة؟
هي موجة الشهرة من أجل الشهرة، وموجة النجاح هو الشهرة، موجة يركبها الجميع، فالشعبوية هي الحكم اليوم.
في النهاية لا نستطيع حتماً إنكار أن الكثيرين تمكنوا من تطويع هذه الرفاهية التكنولوجية، لخدمة مصالحهم وأعمالهم، وهذا ليس عيباً بالطبع، ولكن علينا أن نفهم أن هؤلاء ليسوا موضوعنا، وإن كنا نسلّط الضوء هنا على أحد، فليس إلا على مروّجي التفاهة، واللا شيء، والسخف، الذين تصدّروا المشهد واحتكروا المنصات وتربعوا على عرش المشاهدات.
العالم اليوم أشبه بسفينة لا نعرف من قادها لعرض البحر، وأحدث ثقباً فيها، لكن نعرف تماماً أننا غارقون لا محالة بالتفاهة والسخف.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.