تعرضت الدولة العباسية في عهد الخليفة المقتدر بالله (295-320هـ)، لأزمة اقتصادية عنيفة، طالت آثارها مناحي الحياة كلها، ولم تفلح جهود وزيرَين تعاقبا على المنصب في إيجاد حلول لها، إلى أن تولّى الوزارة علي بن عيسى الذي استطاع إنقاذ الدولة من الإفلاس، لكن إجراءاته الإصلاحية لم ترُق لحاشية السلطان، فأُجهضت أفكاره.
أزمة مالية خانقة
في عهد الخليفة المقتدر، ضعفت الدولة وانحطّ مركزها المالي والسياسي، نتيجةً لصغر سنّه، وطول فترة حكمه، وكثرة وزرائه، فضلاً عن بذخ الخليفة نفسه الذي أنفق في سنين قليلة ما جمعه سلفاه المعتضد بالله والمكتفي بالله، فبدد كنوز الدولة، حسب ما يذكر الدكتور ضيف الله يحيى الزهراني، في كتابه "النفقات وإدارتها في الدولة العباسية".
وأضرّ بخزينة الدولة أيضاً سوء طرائق الجباية، وزيادة النفقات الباهظة، وكثرة الثورات المتتابعة، وحروب القرامطة المستمرة، وانفصال بعض الولايات عن مركز الخلافة، وبذلك تعذّر في كثير من الأحيان "الاحتفاظ بالتوازن بين الدخل والمصروف".
تعرضت الدولة العباسية في عهد الخليفة المقتدر بالله، لأزمة اقتصادية عنيفة، طالت آثارها مناحي الحياة كلها، ولم تفلح جهود وزيرَين تعاقبا على المنصب في إيجاد حلول لها، إلى أن تولّى الوزارة علي بن عيسى
والظاهر أن خزينة الدولة لم تتحمل بذخ الخليفة وإسرافه، وجشع الوزراء وكبار موظفي الدولة الذين كثيراً ما استغلوا مراكزهم لجمع المال لأنفسهم على حساب الدولة والمصلحة العامة، لذا كان من المنطقي أن تفلس مالية الدولة، ولم يتوفر المال الكافي لدفع أرزاق الجند.
وبحسب الزهراني، حاول كثير من وزراء تلك الفترة إصلاح الوضع المالي، ففي عهد وزارة علي بن الحسن بن الفرات الأولى والثانية، حاول قدر المستطاع أن يعالج خلل الدولة ويسدّ عجزها المالي، إلا أنه اتُّهم بابتزاز الأموال، فعُزل وصودرت أمواله.
ولم يختلف الأمر كثيراً مع الوزير أبي علي الخاقاني، الذي أنفق الأموال باندفاع شديد، حتى ازدادت أعباء بيت المال، إلى أن وُزّر علي بن عيسى، فبذل جهوداً مضنيةً في سبيل توفير الأموال وسد عجز الدولة، كما ذكر الزهراني.
جهود إصلاحية
يذكر الدكتور حسام الدين السامرائي، في كتابه "المؤسسات الإدارية في الدوية العباسية"، أن علياً بن عيسى استلم الوزارة بعد وصوله في 10 محرم سنة 301هـ، فوجد الأمور مرتبكةً والخزينة خاويةً، فأخذ يشتغل بجد من الفجر حتى صلاة العشاء يومياً، وبرغم أنه سار على الطريقة المألوفة في تعيين أصحابه، إلا أنه اختار الكفوئين منهم.
وتمكن ابن عيسى من تسيير دفة الحكم وإصلاح الوضع بشكل واضح، ولكنه لم يستبد في تصريف أمور الدولة برأيه دون استشارة الخليفة وموافقته، خاصةً في ما يتعلق بمسؤوليته في تعيين العمال، أو الأمور المهمة الأخرى، فعندما تظلم أهل البصرة مثلاً من عاملهم محمد بن إسحاق بن كنداج، وشكوه إلى الوزير، عزله عنهم بعد أن استأمر فيه المقتدر.
ولحل الأزمة المالية العنيفة، اتجه ابن عيسى إلى إسقاط الزيادات التي أُحدثت قبله على رواتب الحاشية والخاصة والعامة، وكانت كبيرةً، كما ألغى النفقات التي تؤدي إلى الإسراف والتبذير في بيت المال، ما جعله شخصاً مكروهاً من قبل الحاشية التي أضرّتها تدابيره المالية، كما ذكر السامرائي.
إصلاح زراعي وحل مشكلات الفلاحين
ويذكر زبن خلف نواف، في دراسته "الفكر الاقتصادي عند الوزير علي بن عيسى بن داود بن الجراح"، أن علياً بن عيسى كان يتمتع بفكر اقتصادي واسع، فركز اهتمامه على الزراعة والمزارعين، لأنه كان يدرك تماماً أن نشاط الزراعة يعني تنامي الواردات المالية، لذا اتّبع سياسةً مستنيرةً ترتكز على مساعدة الفلاحين، فاتجه إلى تسليفهم النقود من أجل زراعة أراضيهم، كما سلّف فقراءهم كميات من البذور، على أن يسددوا قيمتها للدولة في موسم الحصاد.
وسمح ابن عيسى للمزاعين بزراعة حرم الأنهار بالمحاصيل الشتوية والصيفية وبالفواكه، وذلك من أجل زيادة موارد بيت المال وتحسين مداخيل الفلاحين.
وكان ابن عيسى يشكل اللجان من الأشخاص الذين تتوافر فيهم الثقة والصدق لبحث شكاوى الفلاحين، فعندما تظلم أهل فارس من ضريبة "التكملة"، أمر بتشكيل لجنة من القضاة والفقهاء ومشايخ الكتاب والعمال وبعض كبار القادة، وقررت اللجنة إلغاء خراج "التكملة" وإقرار خراج "الشجر"، كما روى نواف.
كما اعتنى الوزير بمجاري الأنهار من أجل انسياب المياه فيها بسهولة، واتجه إلى سد البثوق الخارجة من الأنهار، لأن استمرارها يؤدي إلى زيادة ملوحة الأراضي الزراعية وفسادها.
إنشاء مصرف ومواجهة الأطماع الشخصية
ولمواجهة الظروف المالية الصعبة، أنشأ علي بن عيسى مصرفاً رسمياً للدولة، فكلّف اثنين من الجهابذة (خبراء مال وصيرفة) اليهود بإنشائه، لمساعدة الدولة في حل مشكلاتها المالية، عبر إقراضه الأموال في بداية كل شهر، لسداد أجور الموظفين في الدواوين المختلفة.
تعرّض الخليفة المقتدر بالله لضغط شديد من قبل الحُرُم والحاشية والقوّاد لإقالة ابن عيسى عن الوزارة، لكنه عارض ذلك بعدما لمس نتائج إصلاحاته التي حققت توفيراً كبيراً في النفقات لصالح خزينة الدولة.
وبحسب نواف، كان ابن عيسى لا يتهاون في مواجهة أي تقصير يحدث من جانب موظفي الدولة، فكان شديداً وقاسياً ضد كل من يعمل على تحقيق أطماعه الشخصية، لذا كانت مطالبته بالأموال وتشديد رقابته عليها تصل أحياناً إلى درجة الحرب، وهذا ما حدث في سنة 303هـ، عندما طالب من الحسن بن حمدان بمال عليه عندما كان والياً على ديار ربيعة، فامتنع، ثم أمره بتسليم البلاد إلى عمال السلطان، فامتنع ابن حمدان وخرج عن طاعة الخليفة، فقامت الحرب بينهما وتغلب جيش الخليفة على ابن حمدان وهزمه.
وفي عام 307هـ، أمر ابن عيسى بالقبض على عامل مصر أبي القاسم بن بسطام لأنه احتجز الأموال لنفسه، وعندما وصل إلى بغداد للمحاسبة قدّم هديةً ثمينةً للسيدة "شغب" والدة الخليفة، وهديةً أخرى للخليفة نفسه، مما أدى إلى إعفائه من العقوبة.
ولم تتوقف جهود ابن عيسى الإصلاحية عند هذا الحد، إذ استرجع الضياع السلطانية التي استولى عليها ابن الفرات والخاقاني خلال وزارتيهما قبله، كما أسقط الكثير من الزيادات والأرزاق التي كان يأخذها الكُتّاب والحاشية، وكذلك أرزاق أولاد المرتزقة الذين هم في المهود، وتلك التي يحصل عليها الخدم والندماء والمغنون وأصحاب الشفاعات، وكان يتابع هذه الأمور بنفسه ليلاً ونهاراً، حتى تمكن من موازنة الصادرات والواردات، بحسب نواف.
وفي إطار جهوده لإصلاح اقتصاد الدولة، لم يتجاهل ابن عيسى أعمال البر والإحسان، فقد رأى أن هناك ضياعاً من الأملاك الخاصة بالخليفة تدرّ دخلاً جيداً، فاستشار الخليفة في وقف تلك الأموال على الحرمين الشريفين، وكذلك وقف ما يُعرف بـ"أملاك المستغلات" في بغداد، و"الأملاك الموروثة" بالسواد، فوافق الخليفة على رأيه وأشهد الشهود والقضاة على ذلك، فأنشأ ديوان البرّ وكانت مهمته الإشراف على توزيع واردات تلك الأملاك والصرف على الأماكن المقدسة في مكة والمدينة، وكذلك على ثغور الدولة البيزنطية، وأوكل المهمة إلى أبي الشجاع الكاتب.
اصطدام مع الحاشية
لكن جهود علي بن عيسى لم تسر على النهج الذي رسمه، فقد اصطدم بالحاشية والحُرُم (والدة السلطان وزوجاته وجواريه)، بسبب إصلاحاته الاقتصادية القائمة على أساس التوفير في النفقات العامة، والقضاء على الإسراف والتبذير في الدولة، وهي أمور تعارضت أيضاً مع مصالح بعض الفئات المتنفذة، التي رأت أنه لا بد من عزله عن الوزارة حفاظاً على مكتسباتها، لذلك قاموا بحملة دعائية ضده بقصد التشنيع عليه، حتى ضج من سوء قلة أدب الحاشية، حسب ما ذكر محمد سلمان في دراسته "الوزير العباسي علي بن عيسى... دراسة في حياته وعصره (245-334هـ/ 859-945م".
كذلك تعرّض الخليفة المقتدر بالله لضغط شديد من قبل الحُرُم والحاشية والقوّاد لإقالة ابن عيسى عن الوزارة، لكنه عارض ذلك بعدما لمس نتائج إصلاحاته التي حققت توفيراً كبيراً في النفقات لصالح خزينة الدولة.
وإزاء هذه الضغوط الشديدة، طلب ابن عيسى إعفاءه من منصب الوزارة، وبعد إلحاح شديد منه على الخليفة تم إعفاؤه والقبض عليه سنة 304هـ، دون أن تصادَر أمواله كما هي العادة المتبعة، بل اكتفى الخليفة بسجنه، فكان بذلك أول وزير للمقتدر لم تتم مصادرة أمواله وتعذيبه بعد عزله عن منصب الوزارة، ولعل ذلك عائد إلى منهج ابن عيسى في استشارته الخليفة في الأمور كلها، وفي أمانته على ما تحت يده من أموال، وعدم التعرض لها كغيره من الوزراء، بحسب سلمان.
بينما ذكر مسكويه أحمد بن محمد في كتابه "تجارب الأمم وتعاقب الهمم"، أن سبب عزل ابن عيسى عن الوزارة أنه مع اقتراب عيد الأضحى احتيج إلى إطلاق ما يُخصص للحرم في مثل هذه المناسبات من أموال، فجاءته القهرمانة "أم موسى" في آخر ذي القعدة مخاطبةً في ذلك، وكان ابن عيسى محتجباً، فلم يأذن لها حاجبه بالدخول، واعتذر لها عذراً لطيفاً، وصرفها صرفاً جميلاً.
ولما علم ابن عيسى بخبر حضور أم موسى وانصرافها، أنفذ إليها واستعذرها فلم تعذره، وصارت إلى المقتدر بالله ووالدته شغب وأغرتهما به، وتكذبت عندها على ابن عيسى، فأدى ذلك إلى القبض عليه، فكانت مدة وزارته ثلاث سنين وعشرة أشهر وثمانية وعشرين يوماً. وبحسب سلمان، تُمثّل هذه الواقعة دلالةً واضحةً على سيطرة النساء على شؤون الحكم، وتدخلهن في عزل الوزراء وتعيينهم.
ولما تولى ابن الفرات الوزارة للمرة الثانية (304-306هـ)، بعد عزل علي بن عيسى، قال بعض العامة: "قاتلهم الله، أخذوا المصحف، ووضعوا بدله الطنبور"، في إشارة إلى استبدال الوزير المُصلح بآخر دون ذلك.
الوزارة الثانية
وازدادت الأزمة المالية سوءاً في وزارة أحمد بن عبيد الله الخصيبي (313-314هـ)، بسبب سوء إدارته، إذ كان "يواصل شرب النبيذ ليلاً، والنوم نهاراً في أيام وزارته كلها، وإذا انتبه يكون مخموراً لا فضل فيه لعمل"، حسب ما نقل سلمان عن علي بن محمد التوحيدي في كتابه "الإمتاع والمؤانسة".
وبناءً على ذلك، أشار مؤنس المظفر قائد الجيش العباسي في ذلك الوقت على الخليفة بعزل الخصيبي واستيزار علي بن عيسى مرةً أخرى، والذي كان يتولى في تلك الفترة الإشراف على أعمال مصر والشام، وهو ما لاقى قبولاً من المقتدر، فأنفذ مؤنساً رسولاً إلى دمشق ليحضر ابن عيسى إلى بغداد.
ولما اقترب موكب الوزير الجديد من بغداد، ضجت العامة وخرجت لاستقباله بمظاهر الحفاوة، بعد أن كان منفياً ومغضوباً عليه، لقناعتهم بأن ما سيقوم به من إجراءات هو لمصلحتهم.
ازدادت ثقة الخليفة المقتدر في علي بن عيسى، ووجه إليه كتاب شكر تقديراً لخدماته ونزاهته في عمله، ثم أمر بإرجاع أموال ابن عيسى التي أُخذت منه في أثناء وزارته الأولى، وقال المقتدر: "استحيت من الله في مال علي بن عيسى فإني أخذته ظلماً"
واستطاع الوزير ابن عيسى بما اتخذه من تدابير مالية، أن يعيد التوازن بين الدخل والخراج، فاستقرت الأحوال، وازدادت الواردات. وبحسب سلمان، امتنع الوزير عن أخذ راتب ووارد ضياع الوزارة، واكتفى بما يرده من ضيعته الخاصة، والتي كانت تُقدَّر بمئة وسبعين ألف دينار، وذلك بهدف الاقتصاد في النفقات، وتوفير الأموال لبيت المال، ضارباً في ذلك أفضل الأمثلة في نكران الذات، وهو بذلك قدوة حسنة لأولئك الموظفين الجشعين علهم يخففون من غلو جشعهم وطمعهم في نهب أموال الدولة والمواطنين.
وازدادت ثقة الخليفة المقتدر في علي بن عيسى، ووجه إليه كتاب شكر تقديراً لخدماته ونزاهته في عمله، ثم أمر بإرجاع أموال ابن عيسى التي أُخذت منه في أثناء وزارته الأولى، وقال المقتدر: "استحيت من الله في مال علي بن عيسى فإني أخذته ظلماً".
ومثلما حدث في الوزارة الأولى، أغضبت التدابير المالية التي اتخذها الوزيرُ الحاشيةَ مرةً أخرى، لأنه كان يرى أن الإصلاح لا يكون إلا مع الاقتصاد في النفقة ونفقة الخدم والحرم، فشرعوا يشون به، وحاربوه بالضغط على الخليفة المقتدر لعزله عن الوزارة، فطلب مرةً أخرى إعفاءه من الوزارة، لكن الخليفة رفض ذلك وطلب منه أن يصبر ويتحمل.
غير أن ابن عيسى كان يرى تهاون الخليفة في دعم برامجه الإصلاحية، بل عدّه من العقبات التي أمامها لكثرة نفقاته، والتي كانت دائماً مكلفةً ومرهقةً لخزينة الدولة، بالإضافة إلى قيامه بإرباك تدابيره المالية، ومن ذلك ما قام به الخليفة من توزيع أرزاق إضافية للجند بلغت 240 ألف دينار، مع زيادة نفقات وأرزاق الخدم، في وقت كانت الخزينة فيه بحاجة إلى كل توفير ممكن لتغطية نفقات الدولة المتزايدة، كما ذكر سلمان.
وبناءً على ذلك، طلب ابن عيسى إعفاءه عن منصبه، لكن الخليفة رفض، وأمام إصرار الوزير على طلبه وافق المقتدر على إعفائه سنة 316هـ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومعن أي نظام تتكلم عن السيدة الكاتبة ، النظام الجديد موجود منذ سنوات ،وهذه الحروب هدفها تمكين هذا...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ 3 اسابيعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...