شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
تزمّت وكرمٌ ومودّة… مشاهدات مختلفة لمصريّ في أمريكا

تزمّت وكرمٌ ومودّة… مشاهدات مختلفة لمصريّ في أمريكا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب نحن والتنوّع

الأحد 5 مايو 202401:38 م

كانت سنوات خمسينيات القرن الماضي الأولى، حقبةً شديدة الحراك في مصر. فالمحتل الإنكليزي يلفظ أنفاسه الأخيرة، والجيش المصري في داخله حركة طامحة إلى إطاحة الملك من فوق العرش، والمثقفون يُعيدون اكتشاف علاقتهم بالغرب والقوى الفاعلة فيه. وفي زمنٍ مثل هذا كانت أمريكا -الوجه الإمبراطوري الجديد آنذاك- محور النقاش.

وكعادة العرب، طغت الأيديولوجيا والوازع الديني على نظرة المثقفين إلى أمريكا، فرأينا ما كتبه سيد قطب، في سلسلة مقالاته المنشورة في مجلة "الرسالة" عام 1951، بعد عودته من أمريكا بعام واحد، وفيها صبّ جام غضبه على أبنائها الذين لم يرَ حياتهم سوى شذوذ فكري وانحلال أخلاقي، وكنا قد سردنا في رصيف22، تفاصيل تلك الرحلة.

بعد مرور ثلاثة أعوام على عودة قطب من أمريكا، زارها مفكر مصري آخر، لا يقل شهرةً عن قطب، لكنه في الاتجاه المقابل تماماً؛ إنه الفيلسوف والكاتب الأكاديمي الدكتور زكي نجيب محمود.

زكي نجيب محمود وأيامه في أمريكا

في الفترة من كانون الأول/ديسمبر عام 1953 حتى منتصف سنة 1954، زار المفكر زكي نجيب محمود أمريكا كأستاذ زائر، بهدف التدريس في جامعة كارولاينا الجنوبية في كولومبيا، وجامعة واشنطن أيضاً، وخلال تلك الأشهر، سجّل يومياته التي دوّن فيها ما شاهده بعينه، وما عاشه بنفسه، ثم صدرت تلك اليوميات في كتاب لأول مرة عام 1957، عنوانه "أيام في أمريكا".

في الفترة من كانون الأول/ديسمبر عام 1953 حتى منتصف سنة 1954، زار المفكر زكي نجيب محمود أمريكا وخلال تلك الأشهر، سجّل يومياته في كتاب لأول مرة عام 1957، عنوانه "أيام في أمريكا"

يقول زكي في مقدمة الكتاب: "قد حرصتُ جهدي عندما كتبتُ هذه اليوميات أن أكون أميناً في وصف خبراتي، ولست أدَّعي أنها الخبرات الوحيدة التي لا بد أن يُصادفها كلّ كاتب آخَر، وحسْبُ قارئي أن يعلم أني صدقته الخبر في حدود خبرتي الخاصة، فأتحتُ له فرصة العيش معي أياماً عِشتها هناك".

يبدو أن مشاهدات زكي نجيب محمود في أمريكا لم ترُق لنقاد عصره، الذين خرج أحدهم -لم يُسمّه- منتقداً بشدة التجني على المصريين والعرب والمسلمين في اليوميات، فردّ صاحب الرحلة بقوله: "ناقد فاضل كان قد لامني على ما وجَّهته إلى الحياة المصرية من نقدٍ هنا وهناك بمناسبة ما كنت أراه أو أسمعه في أثناء زيارتي للولايات المتحدة؛ ولو أَنْصَفَ في نقده لأوضَحَ لي موضع الخطأ في رأيي".

واستطرد يقول: "إن لكل كاتب طابعاً خاصاً، ولعل طابعي الخاص يتميز بالنقد الذي قد يشتد أحياناً معتمداً على صدق نيتي وإخلاصي؛ ولا أظن أن قارئاً يُخطئ هذا الجانب مني إذا قرأ لي 'جنة العبيط' و'شروق من الغرب'، و'الثورة على الأبواب' و'قشور ولباب'، وكلها مجموعات من مقالات تنحو هذا المنحى على تباعُدِ فتراتِ نشرها؛ فإذا وجدني القارئ في هذه اليوميات التي أقدِّمها له الآن كثيراً ما أميلُ عند مقارنة الأشياء بعضها ببعض إلى ذكر أوجه النقص عندنا، فليحمل هذا النقد بصدر رحب".

هُم ونحن

انبهر زكي نجيب محمود بالرحلة منذ بدايتها، بل ربما في الطائرة قبل أن تطأ قدماه أرض أمريكا، فيقول منذ اللحظة الأولى: "لقد تحدثت حتى الآن مع ثلاثة: القسيس في الطائرة، والسيدة المتطوعة في المطار، وهذا الشرطي، ولو كان هؤلاء عيّنةً للشعب الذي جئتُ لزيارته، فهو إذاً شعب ودود كريم طيّب مُعين".

ذلك الحكم السريع بكرم الأمريكان وطيبتهم، سببه البشاشة التي تحدث بها القسيس والشرطي معه، أما السيدة، فكانت واحدةً من المتطوعات الأمريكيات اللواتي كانت مهمتهن "استقبال الغرباء من أساتذة وطلاب، ليمهدوا لهم طريق الاستقرار في بلادهن حتى لا يضلّوا السبيل كما يضل كلُّ غريب ليس له هادٍ يهديه"، حسب ما ذكر نجيب.

يرى زكي نجيب محمود أن "الأخلاق في أمريكا أقرب إلى التزمُّت منها إلى التحلُّل، والسبب الأول في ذلك هو استمساكهم بالدين لدرجةٍ لا يحلُم بها إنسان من الشعوب الأخرى".

وما أن بدأ نجيب رحلته الجامعية، حتى تداخل سريعاً مع زملائه من الأساتذة الأمريكيين في الكثير من التفاصيل التي بالضرورة تمخّضت عنها العديد من المقارنات، بدأها بشكل التعامل، حين سرد واقعة استقبالهم له، فقال: "فما كان أشد دهشتي، بل حيرتي، حين رأيتُ هذين الأستاذين الجليلين يسبقانني إلى حملِ حقائبي ووضعها في سيارة الأول، ثم صَحَبَاني إلى الفندق الذي نزلتُ فيه، والحقُّ أنني ساعتئذٍ تخيَّلتُ أستاذاً أمريكيّاً يزور مصر كما أزور أنا اليوم أمريكا، ثم سألتُ نفسي: مَنْ مِن رجال الجامعة عندنا يفكر في استقباله في المطار كما استقبلني هذان السيدان، ويظلّ يرعاه حتى يطمئن على استقراره؟!".

وانتهى زكي إلى نتيجة، قال فيها إننا في مصر "نُغمض الأعين عن هذه الأمثلة الإنسانية، ونصرُّ على أن نمضي في صياحنا -لأن الأمر لا يعدو الصياح- بأن هؤلاء الناس يعيشون في مدنية مادية ليس فيها شيء من القيم الإنسانية، أما نحن فنترع وننعم بمدنية روحية!".

الأمريكان شعب مؤمن وليسوا عبيداً للجنس

ما من صفحة في الكتاب، إلا بدد فيها زكي نجيب محمود النظريات الشهيرة في مصر عن انحلال الأخلاق في أمريكا، ففي إحدى الفقرات كوّن حكماً قاطعاً -ربما كان يلمح من خلاله إلى نقد الكتاب المصريين آنذاك- حين قال: "إن مَن يأتي إلى أمريكا ثم يعود حاملاً معه رأياً غير أن الأمريكيين من أشدّ الناس تحفظاً في أخلاقهم وتزمتاً في العلاقة بين الرجل والمرأة، فهو كذّاب يصرّ على أن يقول ما لم ترَ عيناه. جاء إلى أمريكا ومِلء رأسه إشاعة، وعاد دون أن يأذن لملاحظته الشخصية أن تصحح إشاعةً خاطئةً".

دافع زكي عن نساء أمريكا بملاحظة لم يرَها كثيرون، حين قال إن المشكلة الجنسية في أمريكا محلولة بالزواج المبكر، "فالطالبات اللواتي يحضُرن لي محاضراتي كلُّهن متزوجات، وكثيرون جدّاً من الطلبة متزوجون؛ وملاحظاتي في هذا الباب تزداد اتساعاً، فأزداد بذلك وثوقاً بأن الزواج هنا إنما يكون في سنٍّ مبكرة جدّاً، في العشرين أو نحوها، وأنك تكاد لا تعثر فوق هذه السنّ على رجل واحد أو امرأة واحدة غير متزوجة".

ذلك الزواج المبكر سببه -من وجهة نظر زكي نجيب محمود- "استقامة الأخلاق استقامةً لا تطرأ ببال أحد خارج البلاد الأمريكية"، إلى الدرجة التي جعلته يقول: "ألا ما أظلمَ الناس في أنحاء العالم حين يحكمون على الأمريكيين بتحلُّل الأخلاق! لكنها السينما هي التي أوحت إلى الناس أن الحياة في أمريكا كلها مصوَّرة في حياة الممثلين والممثلات على الشاشة البيضاء!".

يرى زكي نجيب محمود أن "الأخلاق في أمريكا أقرب إلى التزمُّت منها إلى التحلُّل، والسبب الأول في ذلك هو استمساكهم بالدين لدرجةٍ لا يحلُم بها إنسان من الشعوب الأخرى".

علّل نجيب وجهة نظره القائلة بأن الأمريكان متدينون بما رآه في فنادقهم، كما قال: "الظاهر أن الفنادق هنا متشابهة التأثيث والإعداد، فغرفتي في هذا الفندق الذي نزلتُ فيه شديدة الشبه بالغرفة التي نزلتُ فيها في نيويورك، وحسبي الآن من أوجه الشبه وضع الإنجيل على المكتب في كلتا الغرفتين، إنني لأرجو ألا تفلت مني أمثال هذه الأشياء الصغيرة الدالة على مغزى كبير؛ فهأنذا أرى الأدلة تتراكم على أنني إزاء شعب متديِّن، وقد كنت أظنه غير ذلك".

الحبّ عندنا مكبوت وعندهم حرّ طليق!

خلال رحلته، أراد زكي نجيب محمود قضاء عطلة عيد الميلاد في واشنطن، فاستقلّ الطائرة إليها، وفي داخلها رأى مشهداً لطيفاً، إذ كان يجلس أمامه في الطائرة "زوجان صغيران في السن؛ فالزوج لا يزيد أبداً عن العشرين، ولا يمكن أن تزيد الزوجة عن الثامنة عشرة، ولم يكونا يستطيعان الصبر على عدم التقبيل فترةً طويلةً؛ وإني لأرجِّح أنهما عروسان في طريقهما إلى مكانٍ يقضيان فيه شهر العسل".

انبهر زكي نجيب محمود بالرحلة منذ بدايتها، فيقول منذ اللحظة الأولى: "لقد تحدثت حتى الآن مع ثلاثة: القسيس في الطائرة، والسيدة المتطوعة في المطار، وهذا الشرطي، ولو كان هؤلاء عيّنةً للشعب الذي جئتُ لزيارته، فهو إذاً شعب ودود كريم طيّب مُعين"

يبدو أن زكي أطال النظر في مراقبتهما، فوصف ما رآه قائلاً: "كانا يميلان أحدهما على الآخر، فيتلاصق الخدّان أو يتساند الرأسان، ثم يهوي الشاب على زوجته الطفلة تقبيلاً في عنقها وذراعها وخدّها وشفتها؛ وتنتظر هي قليلاً ثم تردّ له التقبيل تقبيلاً مثله. هكذا قَطَعَا الطريق إلى واشنطن".

عندها توقف نجيب -كعادته- لعقد مقارنة، فقال: "فأخذتني والله حسرة شديدة على مصر؛ فهذه علامات لا أستهين بها في التدليل على ما في المجتمع من صحة نفسية؛ لماذا يا ربي لا يجوز هذا في مصر؟ أنا لا أريد أن يكون هذا بين العاشقين، بل أريده بين الزوجين. مَنْ ذا الذي ابتلانا بهذه الصرامة الظاهرية التي حَطَّمت أعصابنا وخرَّبت عقولنا وأتلفت تفكيرنا، وجعلت عيشنا كلّه سلسلةً من تحريمات؛ تحريم إثر تحريم؟".

لكنّ أظرَف ما رواه عن ذلك المشهد العاطفي، هو أن الزوجين يرتديان نظارتين طبيتين، مما أعاق التقبيل، فقال: "إنهما من ذوي المناظير، وكنت آسف لهما حين يدنوان بوجهيهما للتقبيل فيصطك منظار بمنظار؛ إن لبس المنظار يهدم جزءاً كبيراً من حلاوة الغزل بالعين، ويُنقِص من لذة التقبيل؛ وإني لأحسدكم يا مَن سلمت عيونكم فلا تلبسون المناظير، أحسدكم على أن أعينكم تتلاقى كما أراد لها الله أن تتلاقى بغير حواجز من زجاج!".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard