منتصف عام 1953، التحق الكاتب والناقد الأدبي آنذاك، سيد قطب، بجماعة الإخوان المسلمين، وقبل هذا التاريخ كان شخصاً، وبعده بات شخصاً آخر!
المهتمون بشؤون السياسة والتأريخ للجماعات الإسلامية، وتحديداً الإخوان المسلمين، يؤكدون أنّ تحوّل قطب من أديبٍ بارعٍ إلى مُنَظّر جهادي، سببه زيارته لأمريكا التي بدّلته وحوّلت مساره. وهناك قصة بات مُسلّماً بها في أدبيات الإخوان، تُفيد بأن سبب انضمام قطب إلى الجماعة، كان رؤيته فرحةَ الأوساط الأمريكية التي احتكّ بها، بنبأ مقتل حسن البنّا، بحسب ما أورد المؤرخ شريف يونس في كتابه "سيّد قطب والأصولية الإسلامية"؛ لكن ماذا عن الرحلة ذاتها؟ وما هي انطباعاته عن أمريكا؟
سيد قطب في طريقه إلى بلاد العمّ سام!
يخبرنا الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي، في كتابه "أمريكا من الداخل بمنظار سيد قطب"، بأن وزارة المعارف المصرية عام 1948، أوفدت سيد قطب لدراسة المناهج التعليمية في الولايات المتحدة الأمريكية، "ولم يكن مقيّداً في بعثته أو مهمته بجامعة معينة (...) كما لم تكن هذه البعثة مقيدةً بزمن معين، وتركت له الحرية في مجال الدراسة وميدانها وتخصصها وزمانها".
كل انطباعات سيد قطب عن أمريكا خلال زيارته جاءت من منظور الرجل المسلم الإصلاحي -برغم أنه لم يكن قد انضم إلى الإخوان وقتها- حتى أنه في كثير من مشاهداته غلب عليه الطابع التنظيري المعروف عنه
نهاية شهر آب/أغسطس من العام نفسه، غادر سيد قطب من الإسكندرية على ظهر باخرة عبرت به البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، وعبَّر عن تلك اللحظة تعبيراً أدبياً، بقوله: "أحسست بموسيقى الوجود، مرةً وأنا في عرض المحيط، والباخرة تمرّ مرّ الريح على وجه الخضم، والنسيم رخاء، والليل ساكن والقمر مفضفض اللألاء. لست أدري كيف أحسست، ولست أدري كيف أقول. إلا أنّ قولاً واحداً انساب على لساني في تلك اللحظة التي أومضت في روحي كما تومض الشعلة فتكشف لي الطريق إلى بعيد ثم تغيب"، حسب ما أود في مقاله "موسيقى الوجود" المنشور في "مجلة الكتاب عام 1950، أي فور عودته إلى مصر.
على ظهر المركب، راح قطب يخاطب نفسه، كما أورد لاحقاً في كتابه "في ظلال القرآن": "أأذهب إلى أمريكا وأسير فيها سير المبتعثين العاديين الذين يكتفون بالأكل والنوم؟ أم لا بد من التميز بسمات معينة؟ وهل غير الإسلام والتمسك بآدابه والالتزام بمناهجه في الحياة وسط اللمعان المُترف المزود بكل وسائل الشهوة واللذة والحرام؟ وأردت أن أكون الرجل الثاني".
بالفعل اختار سيد قطب أن يكون الرجل الثاني، فكل انطباعاته عن أمريكا خلال زيارته جاءت من منظور الرجل المسلم الإصلاحي -برغم أنه لم يكن قد انضم إلى الإخوان وقتها- حتى أنه في كثير من مشاهداته غلب عليه الطابع التنظيري المعروف عنه. بل ربما تكون تلك الزيارة هي البذرة التي بنى عليها مفهومه عن "جاهلية العالم" في كتابه الذي أصدره لاحقاً "معالم في الطريق".
قطب يكتب: "أمريكا التي رأيت"
بعد عودته من أمريكا، خصّ سيد قطب مجلة "الرسالة" بمجموعة مقالات تحت عنوان "أمريكا التي رأيت"، وتم نشرها في تشرين الثاني/نوفمبر عام 1951.
لم يَدَعْ قطب سطراً في مقاله إلا وأهالَ التراب فيه على كل مُنتَج أمريكي، فتساءل مُتعجباً في صدر أول مقالة: "أمريكا هذه كلها... ما الذي تساويه في ميزان القيم الإنسانية؟ وما الذي أضافته إلى رصيد البشرية من هذه القيم؟".
لم يَدَعْ قطب سطراً في مقاله إلا وأهالَ التراب فيه على كل مُنتَج أمريكي، فتساءل مُتعجباً في صدر أول مقالة: "أمريكا هذه كلها... ما الذي تساويه في ميزان القيم الإنسانية؟ وما الذي أضافته إلى رصيد البشرية من هذه القيم؟".
الإنسان الأمريكي -من وجهة نظر سيد قطب- "أطلق للحيوان الكامن بداخله العنان"، والشعب الأمريكي عنده "يبلغ في عالم العلم والعمل قمة النمو والارتقاء، بينما هو في علم الشعور والسلوك بدائي، لم يفارق مدارج البشرية الأولى، بل أقلّ من بدائي في بعض نواحي الشعور والسلوك".
يرى قطب أن "الحيوية المادية عند الأمريكي مقدسة، والضعف أيّاً كانت أسبابه جريمة. جريمة لا يغتفرها شيء، ولا تستحق عطفاً ولا عوناً"، ثم ضرب مثالاً على ذلك، بقوله: "قال لي زميل: إنه كان حاضراً مأتماً، وحينما عُرِضَت جثة رب البيت مُحنّطةً في صندوق زجاجي -وفق العادة الأمريكية- كي ما يمر أصدقاء الفقيد بجثمانه ليودعوه الوداع الأخير (...) وما راعه -يقصد صديقه- أن القوم أخذوا في الدعابات والفكاهات، حول الفقيد، واشتركت فيها زوجته وأهله، وأعقبتها الضحكات المجلجلة في سكون الموت البارد وحول الجسد المسجّى في الأكفان"!
الدين الأمريكي بعيون سيد قطب
في مصر أسطورة شعبية متداولة بأن الكنائس تحدث في داخلها محرمات بين الرجال والنساء. ربما تذكرتُ هذه الأسطورة وأنا أتصفح ما ذكره سيد قطب عن الكنائس في أمريكا.
في واحدة من هذه المقالات، قال: "إذا كانت الكنيسة مكاناً للعبادة في العالم المسيحي كله، فإنها في أمريكا لكل شيء إلا العبادة، وإنه ليصعب عليك أن تفرّق بينها وبين أي مكان آخر مُعدّ للهو والتسلية، أو ما يسمونه بلغتهم الـ'fun'"!
وفي هذا السياق، سردَ قطب قصّتَين أعجب من بعضهما، فقال في واحدة إن أحد الآباء الكنسيين تحدث إلى صديق له، وسأله: "لِمَ لا تحضر زميلتك ماري إلى الكنيسة؟ (...) إنها جذابة، ومعظم الشبان إنما يحضرون وراءها"، موحياً بتلك القصة بأن آباء الكنائس يصطادون الجميلات لاجتذب الشباب!
وفي القصة الثانية، كاد سيد قطب أن يقول إنه رأى "ليلةً حمراء" في إحدى كنائس أمريكا، حين ذكر أنه شاهدهم حين انتهوا من الخدمة الدينية و"أخذ كل فتى بيد فتاة، وكانت ساحة الرقص مُضاءةً بالأنوار الحمراء والصفراء والزرقاء، وبقليل من المصابيح البيضاء، ورقصوا على أنغام الغراموفون، وسالت الساحة بالأقدام والسيقان الفاتنة، والتفّت الأذرع بالخصور، والتقت الشفاه والصدور، وكان الجوّ كله غراماً"!
ماذا عن المرأة والجنس في أمريكا؟
يقول قطب إن "كل ما تعبت الحياة البشرية الطويلة في خلقه وصيانته من آداب الجنس، وكل ما صاغته حول هذه العلاقات من عواطف ومشاعر، وكل ما جاهدت من غلاظة الحس وجهامة الغريزة (....) فإن هذا كله قد تجرّدت منه الحياة في أمريكا مرةً واحدةً، وتجلّت عاريةً من كل تجمّل، ذكراً وأنثى كما خلقهم أول مرة. جسد لجسد، وأنثى لذكر". ويُضيف: "بفتنة الجسد وحدها، عاريةً من كل ستار، مجردةً من كل حياء، تلقى الفتاة الفتى".
الشعب الأمريكي عند سيد قطب "يبلغ في عالم العلم والعمل قمة النمو والارتقاء، بينما هو في علم الشعور والسلوك بدائي، لم يفارق مدارج البشرية الأولى، بل أقلّ من بدائي في بعض نواحي الشعور والسلوك"
وبشكل مُعمم ليس فيه استثناء، يقول قطب: "الفتاة الأمريكية تعرف جيداً مواضع فتنتها الجسدية، تعرفها في الوجه، في العين الهاتفة، والشفة الظامئة، وتعرفها في الجسد: في الصدر الناهد، الردف المليء، وفي الفخذ اللفاء والساق الملساء -وهي تبدي كل هذا ولا تخفيه- وتعرفه في اللباس؛ في اللون الزاهي توقظ به الحس البدائي، وفي التفصيل الكاشف عن مفاتن الجسد (...) ثم تُضيف إلى هذا كله الضحكة المثيرة، والنظرة الجاهرة، والحركة الجريئة، ولا تغفل عن ذلك لحظةً أو تنساه"!
ثلاثة أسطرٍ في فضائل أمريكا!
لم ينسَ سيد قطب في نهاية المقالات الثلاثة التي نشرها في مجلة "الرسالة" عن زيارته لأمريكا أن يسلّط الضوء على فضائل الولايات المتحدة؛ لكنه لم يجد في كل تلك المساحة سوى ثلاثة أسطر فقط، قال فيها: "إن ذلك لا يعني أن الأمريكان شعب بلا فضائل، وإلا لما أمكنه أن يعيش، ولكنه يعني أن فضائله هي فضائل الإنتاج والنظام، لا فضائل القيادة الإنسانية والاجتماعية، فضائل الذهن واليد لا فضائل الذوق والشعور"!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 5 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.
mohamed amr -
منذ اسبوعينمقالة جميلة أوي