شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
هل نقول لأطفالنا إننا تخلّينا عنهم في زمن الحرب؟

هل نقول لأطفالنا إننا تخلّينا عنهم في زمن الحرب؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

يظهر الأطفال في حياتنا، بأحجامهم الضئيلة ووقتهم القصير على هذا الكوكب، من أجل تهذيبنا والإلحاح علينا، بطرق غير مباشرة، لمراجعة ما ندعيه عن أنفسنا. لدى الأطفال مشاعر كبيرة، هكذا نفهم من ردود أفعالهم/ن. تقول صديقتي سارة: أناس صغار ومشاعرهم كبيرة.

لكن هناك من يستغل هذه المشاعر، يصلنا محتوى كثير على مواقع التواصل الاجتماعي، يحتوي على تسجيلات مقتضبة تجعل من مشاعر الأطفال الكبيرة مادة للسخرية، يتجسد فيها هول ما يشعرون به من سعادة أو فزع.

في المقابل، وفي بلدان العالم المختلفة، هناك قوى رسمية وجهات من المجتمع المدني وشبكات أهلية للحماية الأسرية معنية بسلامة الأطفال تعمل ضد استغلالهم اقتصادياً واجتماعياً وصحياً ونفسياً. ولكن تظل الشعارات التي تصطف مع الطفولة في شتى المجتمعات نياشين لإنسانية خيرة تعي أن الحاضر هو دائماً حاضن للمستقبل.

نتناقش ونختلف في شرق العالم وغربه على تعريفات حقوق الأطفال في سياقات عدة. لكن يتفق الجميع على أننا، مهما اختلفنا، لا بد أن نحميهم من القتل، إلى أن عاصرنا لحظة السابع من أكتوبر بمشاهدها الحية على مواقع التواصل الاجتماعي.

لأول مرة نرى الأطفال، ببث حي، كأهداف لألة عسكرية متوحشة. ومع ذلك لم تبُذَل الجهود الموائمة لإنقاذ أضعف من فينا

قرأت، قبل فترة، مقولة للكاتب الأمريكي جايمز بالدوين، تقول: "الأطفال هم دائماً أطفالنا جميعاً، كل واحد منهم، في كل أنحاء العالم. ومن لا يعي هذا، أشك أن لديه القدرة على حمل أي مبادئ أخلاقية".

عند التاسعة مساءً، تقف ابنتي بجانبي على الشرفة، لنقرع الأواني المعدنية. لعدة دقائق، نسجل اعتراضنا في فراغ المدينة من حولنا على جوع غزة. وتضامننا مع حملة #ضجيج_لأجل_الجوع noise4hunger#. بكت من البرد واعتذرت لي ولغزة وقالت إنها سوف تطرق الأواني من داخل المنزل. فهي حقاً تريد التضامن لكنها لا تقوى على برد المساء.

وقفتْ على الناحية الأخرى من باب الشرفة تؤدي دورها في عالم لا يشاركها نفس المشاعر. لأول مرة نرى الأطفال، ببث حي، كأهداف لألة عسكرية متوحشة. ومع ذلك لم تبُذَل الجهود الموائمة لإنقاذ أضعف من فينا.

طالما أحاطت برؤوس الأطفال هالة القديسين، كرمز للحياة في نشأتها، وفي قلة خبرتها، وتشكلها كوجود يحمل وعداً. ولأن هذا الوعد هو وعد بعالم أفضل، فلا بد أن يحظى الأطفال بالرعاية القصوى وأن يُمنحوا العوامل الأساسية للمعيشة من أجل مؤازرتهم في عبورهم إلى مستقبل هذه الحياة.

في مشاهدتنا ومعاصرتنا لجبال من جثث الأطفال وأطرافهم المبتورة في غزة، بعد أن أدركنا أن كل من لديه سلطة ينعيهم دون أن يحاول إنقاذهم، نجد أنفسنا أمام سؤال محوري: هل يريد حكام العالم مستقبلاً أفضل للبشرية؟ هل يمكن لخيال مغاير أن يستمر؟ حتى لو كان في حيز الخيال، وحسب، وسط هذا الكم من الكوابيس؟

كثيراً ما تستخدم الإشارة للعمى كمجاز عن القسوة والتخبط والكذب. إلا أننا في هذه اللحظة، نشهد معناها الحرفي لدى من يحملون ولاية سياسية أو حكماً. تتاح أمامهم أدوات النظر والتحليل، لكن ليس ثمة من بصر أو بصيرة معنية بالخير. حتى نحن، القادرين والقادرات على الإبصار، موجودون في مواقعنا كأن أعيننا المتصلة بضمائرنا في مكان وأجسادنا وإرادتنا في مكان أخر.

نحن في مواجهة مراهنة على مستقبل يحث عليه ساسة العالم "المتحضر" والرجعي على السواء. مستقبل مشؤوم لا بد أن توضع أساساته في حاضر كارثي يتبختر على جثث الأطفال، حتى يثبت لنا أنه ليس هناك مجال للحوار، أو للسياسة أو حتى للرحمة التي يتوسل إليها الضعفاء كملاذ أخير.

هذه العصبة الدولية الحاكمة تعيد تدوير الشعارات من أجل احتكار الحياة على كوكب الأرض بعقلية السوق، فيتمثل لنا ما نعيشه في تبرير "وصفة لعالم قديم ورجعي لا لعالم جديد وتقدمي". وفي هذا السوق، كما يشير الكاتب ياسين الحاج صالح في مقال له بعنوان "في نقد التضامن"، "يجري فصل أصحاب القضايا عن قضاياهم (هنا أيضاً كما تفصل سوق العمل الرأسمالية المنتجين عن وسائل الإنتاج)، ويتولى المتضامنون خوض حروب التضامن، أو الدفاع عن التوزيع العادل للتضامن دون نقد السوق ودون مساءلة ما تتيحه من معلومات عن السلع المعروضة، ودون تفكير في شروط إنتاج التضامن كسياسة".

على الرغم من خبرة هذا السوق والقائمين عليه، حتى وإن كان ثوبه معاصراً وله نجاحه في الغرب ووقوده في الشرق، وفي لحظات جسام، قد يشوبه قدر من الارتباك في مواجهة احتمال تعثر هذا المبدأ المشوه: مبدأ السوق والسعي لاحتكاره في النظر للإنسانية وكل ما يخصها من قضايا.

إن مأزق هذه اللحظة يتمثّل في أن كل من يعادي إسرائيل يصبح، بشكل ضمني، منافساً لها، كما هو الحال في مفهوم السوق. إذا كان لا بد أن يكون هناك ضحايا فسوف يكونون إسرائيليين. وإن كان لا بد من ألم أو فقد، فهو من نصيب الإسرائيليين/ات، حتى عند الحديث الأطفال.

نحن في مواجهة مراهنة على مستقبل يحث عليه ساسة العالم "المتحضر" والرجعي على السواء. مستقبل مشؤوم لا بد أن توضع أساساته في حاضر كارثي يتبختر على جثث الأطفال

جزء من احتكار "الفقد" هو أن يتظاهر العالم بأنه خال من أطفالنا. فإن الطفل هو الطفل الإسرائيلي وحسب. ولعل أوضح مثال ضربه ياسين الحاج صالح في مقاله عن عقلية السوق هو أن: "الأساس في ذلك أن التضامن يدخل السوق اليوم كسلعة، ومع السوق ثمة التنافس والميل إلى الاحتكار: أخذ أكثر ما يمكن من ريوع التضامن للنفس وعدم ترك شيء للغير، وربما الهجوم على من يحاولون أخذ حصة من السوق".

هذه العجلة المجرمة تنكر مأساة أطفالنا في ثوب البلطجي الشبعان المتسلط القاتل الذي يتمثل أمامنا في هيئة المستعمر، خارجياً كان أم داخلياً. هذا الافتراض لشكل المستقبل يعتبر أن الغرب لا يحتاج للشرق كشريك. ففي حسابات الغرب، نحن نحتاج لتضامنه بقوانينه ومنهج السوق المسيطر على مفاهيم القوة واحتكار الألم والمظلومية لديه.

أما عن تضامنا معه، فيطرح ياسين الحاج صالح الفكرة بوضوح: "هل حقاً لا يحتاج الألماني أو الألمانية إلى وقوفنا إلى جانبه وصداقتنا له؟ أفترض أن التضامن بالذات يُظهر هذا الاحتياج، وإن في صورة علاقة قوة غير متكافئة لا تسمح له بالذهاب أبعد. نقد التضامن يتطلع إلى علاقات معافاة، مجردة من القوة، علاقات شراكة قائمة على المساواة والندية والعالمية".

كانوا الأطفال صمام الأمان الوحيد المتفق عليه خارج مفهوم سوق الحرب والألآم العالمي. لكننا نشهد يومياً على مواقع التواصل الاجتماعي أطفال غزة وهم يذبحون دون أي انزعاج موائم لحجم المأساة من ساسة العالم.

تساءلت نورا عريقات، المحامية في مجال حقوق الإنسان، في حديثها مع الصحافي والكاتب الأمريكي كريس هدجيز، ماذا يفترض بنا أن نقوله للأطفال بعد كل ما شهدوه بعد اجتياح إسرائيل العسكري المجرم لغزة. فكلما نتحدث معهم، نحن في حقيقة الأمر نحدثهم عن المستقبل. وهذا ليس مجازاً. هم يحلمون، حرفياً، بالمستقبل، وينمون استعداداً له ليلاً ونهاراً.

قال الدكتور الغزي مصطفى النجار، قبل استشهاده: "لقد هُزِمنا أمام الأطفال". إن معالجة هذا المأزق وحده تستحق أن نبنى أسساً جديدة لعالم جديد، كما أسماها الفيلسوف الكاميروني أشيل إمبمبي، على أسس "سياسة كوكبية" (planetary politics) في كتابه "سياسات الموت" (Necropolitics).

أصبح لا بد لنا من بناء عالم جديد لا يقسم البشرية فريقين، حيث القوي يستغل ويستنزف ويقتل الضعيف. علينا أن نتصور العالم سياسياً وحقوقياً وبنيوياً ككوكب واحد، يتمتع كل من يسكنه بنفس الحقوق في العيش الحر والكريم. وتوزع المسؤولية فيه تجاه صحة الكوكب على الجميع بالتساوي. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

نفكر بالأطفال من أجل اليوم والغد

"هيك متعودين. هيك كانوا يعاملونا أهلنا"، وغيرها من الإجابات الجاهزة، تؤدي إلى تفادي التغيير.

المستقبل المشرق، هو أن يعيشوا في أيامنا هذه حياةً سليمةً.

كيف؟

عبر تسليط الضوء على قصصهم، وما يؤثر في حيواتهم، والمطالبة بحقوقهم وحسن تربيتهم.

من خلال التقارير والمقالات والحوارات، يمكن للإعلام أن يدفع نحو تغييرات في السياسات التربوية، وأن يعزز الحوار الاجتماعي حول قضايا الأطفال.

معاً نطرح القضايا الحساسة المتعلقة بسلامتهم النفسية والجسدية والبيئية والمجتمعية.

حين نرفع أطفالنا على أكتافنا، نرى الغد بعيونهم كما لو يكون الآن.

Website by WhiteBeard
Popup Image