هناك في قرية قميناس، على بعد 5 كم إلى الجنوب الشرقي من مدينة إدلب، توجه محمد مع فريقه إلى مكب نفايات، حيث أفادت معلومات بأن رضيعةً مرميةً هناك، يُسمع بكاؤها.
"لم أتوقع أن أرى هكذا مشهد في حياتي، ولم أكن مصدقاً أن أحداً يمكن أن يتخلى عن فلذة كبده، لكني رأيت ذلك بأم عيني. رضيعة لُفّت بشرشف أبيض تبكي وهي ترتجف برداً. كانت مرميةً إلى جانب مكب النفايات وقد أخفت الجروح والخدوش وجهها الصغير. نقلناها إلى مشفى شام في سرمدا شمال إدلب لإسعافها، ثم أعدناها بعد أربعة أيام إلى قسم المأوى في المركز"؛ بهذه الكلمات، يختصر محمد سويدان، حديثه إلى رصيف22، وهو مدير إدارة حالة في منظمة "بيت الطفل" شمال سوريا، المختصة بالأطفال مجهولي النسب، الحالة التي وصلت إليها سوريا.
وعادت معضلة مجهولي النسب ومكتومي القيد، لتطفو فوق السطح كواحدة من أعقد المشكلات التي تواجه المجتمع السوري، بعد المرسوم التشريعي رقم 2 لعام 2023، الذي أصدرته حكومة دمشق منتصف كانون الثاني/ يناير الماضي، والذي يتضمن إحداث هيئة مستقلة إدارياً ومالياً باسم "بيوت لحن الحياة"، بداعي تنظيم شؤون الأطفال مجهولي النسب ورعايتهم، وهو ما دفعنا إلى مناقشة موضوع مجهولي النسب، وكيفية تعامل المجتمع معهم ومدى حصولهم على رعاية بديلة بشكل خاص شمال غرب سوريا، البقعة الأكثر خطورةً.
وتغيب الإحصائيات الدقيقة لأعداد الأطفال مجهولي النسب في المناطق التابعة لأطراف النزاع السوري (مناطق النظام والمعارضة وقسد)، إلا أن بيانات المرصد السوري لحقوق الإنسان، تشير إلى أنه منذ مطلع العام 2020 إلى أوائل العام 2022، بلغ عدد الأطفال الذين عُثر عليهم في مناطق النظام 70 طفلاً، تم التخلي عنهم على قارعة الطريق أو على أبواب المساجد والمنازل والمباني والمنظمات الإنسانية، بينما تفيد إحصائيات منظمة "بيت الطفل"، وهي المنظمة الوحيدة شمال غرب سوريا التي تُعنى بالأطفال مجهولي النسب، أن عدد الأطفال المسجلين لديها في العامين الفائتين وصل إلى 18 حالةً، تم لم شملهم مع عائلات بديلة باستثناء حالة واحدة لا تزال في المأوى.
تغيب الإحصائيات الدقيقة لأعداد الأطفال مجهولي النسب في سوريا، إلا أن التقديرات تشير إلى أن أعدادهم ترتفع في السنوات الأخيرة بشكل كبير
نظرة مختلفة
اختلفت نظرة المجتمع إلى الأطفال مجهولي النسب بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011، عما كانت عليه قبلها، إذ كانت النظرة السابقة إليهم سلبيةً ولم يكن يُسمح للطفل بالاختلاط ببقية أفراد المجتمع، كونه/ ا نتاج علاقة خارج إطار الزواج، أمّا الآن ونتيجة ارتدادات الثورة، فصارت هناك إفرازات جديدة في هذا الملف، ولم يعد الأطفال مجهولو النسب هم الأطفال الذين وُلدوا نتيجة علاقة غير شرعية فقط، بل صار هناك أطفال فُصلوا عن مقدّمي الرعاية لهم، أي الأبوين البيولوجيين لأسباب أخرى، كالفقر والعوز والأوضاع المعيشية المتردية، وعجز الكثيرين عن تأمين احتياجات أطفالهم، والتفكك الأسري، وزواج سوريات من مقاتلين أجانب مجهولي الهوية، قُتلوا أو اختفوا.
يقول فيصل الحمود، مدير منظمة "بيت الطفل"، لرصيف22، إن "مجهولي النسب ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: من فقدوا أهلهم في الحرب، ومن تم التخلي عنهم وتُركوا داخل المشافي بعد الولادة مباشرةً، وهناك من عُثر عليهم في الأماكن العامة"، مضيفاً أن "الحماية لا تبحث عن كيفية وجود هذا الطفل ولا تناقش الأسباب التي أوصلته إلينا، بل تتعامل معه كطفل له متطلبات وحقوق وليست له علاقة بالظروف التي أدت إلى تخلي أبويه عنه، بالإضافة إلى حمايته من الاضطهاد والاستغلال والتمييز المجتمعي".
محرّم شرعاً
يُعدّ التبنّي في المجتمع السوري أمراً غير مرغوب فيه، كونه محرماً شرعاً في الإسلام، وحتى لا تختلط الأنساب وتضيع، ويستند رجال الدين المسلمون في تحريمه إلى الآية 5 من سورة الأحزاب التي تقول: "ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمّدت قلوبكم وكان الله غفوراً رحيماً".
وتتناول الآية التي سبقتها من سورة الأحزاب: "ما جعل أدعياءكم أبناءكم"، عن قصة الصحابي زيد بن حارثة، مولى السيدة خديجة، الذي منحته للرسول بعد زواجها منه، وصار يُدعى زيد بن محمد، وهو في الثلاثين من عمره، ومن هنا أتت كلمة أدعياء، أي الذين يُدعون باسم شخص آخر وينسبون أنفسهم إليه.
في ظل هذا الواقع، كان البديل المناسب للتبنّي هو نظام الاحتضان أو الكفالة أو الرعاية البديلة، أي أن يعيش الطفل مع أسرة بديلة تتمتع بشروط معينة ريثما يتم العثور على أبويه الحقيقيين.
يؤكد الحمود، أن "المنظمة تشجّع حالات الاحتضان والرعاية البديلة، لذلك تمّ لمّ شمل 18 حالةً خلال السنتين الفائتتين مع أسر بديلة لا تنجب أولاداً"، مشيراً إلى أنه "عند تسليم كفالة الطفل لأسرة كرعاية بديلة، نقوم بكل الترتيبات القانونية اللازمة التي تشير إلى أن هذا الطفل لا ينتسب إلى الرعاية البديلة وأنه عند العثور على أهله لا بد أن يعود إليهم، كما نقوم بتسجيل الطفل في النفوس في خانة مستقلة عن خانة الرعاية البديلة باسم مختلف تماماً عن اسم الرعاية البديلة".
لم أتوقع أن أرى هكذا مشهد في حياتي. وجدنا رضيعة لُفّت بشرشف أبيض تبكي وهي ترتجف برداً. كانت مرميةً إلى جانب مكب النفايات وقد أخفت الجروح والخدوش وجهها الصغير
من جهته، يلفت نقيب المحامين الأحرار في الشمال السوري، محمود هادي، في حديث لرصيف22، إلى أن القانون في الشمال ينظر إلى مجهول النسب على أنه إنسان ضعيف يستحق الرعاية والعناية الخاصة التي تساعده على الخروج من الظروف النفسية والموضوعية التي وُضع فيها من دون إرادته"، ويقول إن "مسألة كفالته وحضانته وتقديم الرعاية بأشكالها كافة هي حق له، وواجب المجتمع وهيئاته الرسمية والاجتماعية ومنظماته المدنية حماية هذا الحق".
أسر راغبة في الكفالة
تتجه أسرٌ كثيرة إلى احتضان الطفل مجهول النسب، وفي الغالب تكون هذه الأسر غير قادرة على الإنجاب، وتتمتع بكفاية مادية معقولة لتربية الطفل/ ة والعناية به/ ا. يقول سويدان: "لدينا أعداد كبيرة من العائلات الراغبة في احتضان طفل، ومن هذه الأعداد نقوم بانتقاء العائلة التي تحقق المصلحة الفضلى له، كالعائلات الميسورة مادياً والتي تتميز بسمعة جيدة".
ويضيف: "فريق المركز يتابع الطفل مدة سنة كاملة بعد كفالته من مقدّم الرعاية البديلة، منها ثماني متابعات في الشهر الأول، وأربعة في الشهر الثاني، واثنتان في الشهر الثالث، ثم بشكل متقطع، بهدف الاطلاع على نمو الطفل ورعايته صحياً وغذائياً، وتعامل الأسرة الجديدة معه".
ويختم سويدان حديثه بالقول: "أي شخص يرى الطفلة التي عثرنا عليها بالقرب من مكب النفايات وطريقة تعامل الأسرة البديلة معها، لا يمكن إلا أن يشعر بأنها ابنتهم ومن صلبهم، حتى أن الأسرة التي احتضنت الطفلة تغيرت حياتها إلى الأفضل".
من جهته، يعلق نقيب المحامين، بالقول، إن "المجتمع السوري مجتمع خيّر ورحيم وطيب ومحب للخير بطبيعته، ولا أظن أن تقوم أسرة بديلة سعت إلى احتضان طفل ورعايته بالإساءة إليه وتعريضه للمخاطر، لأنها في الأساس تهدف إلى كسب الأجر والثواب من وراء ذلك وسد حاجتها النفسية لوجود طفل لديها وإشباع رغبتها في منحه الدفء وتعويضه عن حنان والديه".
قوانين دمشق، والمعارضة
تصنّف الأمم المتحدة الأطفال المنفصلين عن ذويهم وغير المصحوبين والمقيمين مع مقدّمي الرعاية من كبار السن أو ذوي الإعاقة، بين الفئات الأشد ضعفاً
تصنّف الأمم المتحدة الأطفال المنفصلين عن ذويهم وغير المصحوبين والمقيمين مع مقدّمي الرعاية من كبار السن أو ذوي الإعاقة، بين الفئات الأشد ضعفاً، والتي تحتاج إلى مساعدة ماسة، لما تواجهه من مخاطر محددة بسبب العمر والنوع الاجتماعي والإعاقة والتصورات الاجتماعية للطفولة، فيما يعدّ القانون السوري أن مجهول النسب، هو كل وليد أو طفل لم يُتمّ السابعة من عمره ويُعثر عليه ولم يثبت نسبه، أو لم يُعرف والداه، أو ضل الطريق ولا يملك القدرة على الإرشاد عن ذويه لصغر سنّه أو لضعف عقله أو لأنه أصم أبكم.
لدى سؤالنا فيصل الحمود، عن إمكانية تطوير منهجية عمل الجهات في ما يخص موضوع مجهولي النسب، خاصةً بعد القانون الذي أصدره نظام الأسد، يلفت إلى "كثرة حالات مجهولي النسب في مناطق النظام الناتجة عن أسباب عديدة، تحديداً بعد استقدام الميليشيات الشيعية الموالية له، والتي تشرّع نكاح المتعة، أي النكاح المؤقت المحدد بزمن معيّن فقط، وهو ما دعا نظام الأسد إلى إصدار قانون ينظّم هذا الزواج"، مشيراً إلى أنه عندما يكون لدينا مثل هذا القانون فهذا يعني فتح باب تزايد الأطفال مجهولي النسب وشرعنته وستكون له مضاعفات سلبية.
وحظرت المادة 24 من المرسوم الذي أصدرته حكومة دمشق، على "بيوت لحن الحياة" التي تُعدّ المرجعية الاجتماعية في كل ما يتعلق بالأطفال مجهولي النسب على كافة أراضي سوريا، وعلى السجل المدني أو أيّ جهة أخرى قانونية، الإشارة أو الدلالة إلى أن الشخص مجهول النسب في أيّ من الوثائق الرسمية المُتعلّقة به وتحت طائلة المساءلة، حيث يتم التسجيل في سجل الواقعات بشكلٍ سرّي، وغير مسموح الاطلاع على هذا السجل إلا بعد طلب من المحكمة المختصة الناظرة في دعوى النسب أو إثبات البنوة وهو ما أثار تساؤلات عديدةً.
كما أنه وبحسب المواد 20 و21 و22، من المرسوم، فإن الطفل يُعدّ عربياً سورياً مسلماً ما لم يثبت خلاف ذلك بحكم قضائي قطعي، ومكان العثور عليه هو مكان ولادته، ما لم يثبت خلاف ذلك، وهو ما يفتح الباب أمام الأطفال الذين ينتمون إلى آباء أجانب للحصول على الجنسية السورية والتمتع بكامل الحقوق المدنية كسوريين وحصولهم على أوراق ثبوتية.
أطفال الأجانب في إدلب
تُعدّ بيانات الأجانب عقدةً كبيرةً أمام تسجيل أطفالهم في إدلب، إذ إن كثيرين منهم يخفون هويتهم ويفضلون عدم تسجيل أولادهم في دائرة النفوس، ما يدخلهم في خانة مجهولي النسب، في حال قُتل الأب أو اختفى، أو هاجر إلى خارج سوريا.
بدورها، أحدثت "حكومة الإنقاذ" الجناح المدني لهيئة تحرير الشام، منتصف العام الفائت، "دائرة المهاجرين الأجانب"، لتسجيل المهاجرين وعائلاتهم، لكن السؤال المطروح: ما مدى تفاعل الأجانب مع هذا الأمر؟
كون المجتمع السوريّ لا يُحبذ التبنّي لأسباب دينية، كان البديل المناسب هو نظام الاحتضان أو الكفالة، أي أن يعيش الطفل مع أسرة بديلة تتمتع بشروط معينة ريثما يتم العثور على أبويه الحقيقيين، فماذا حقق؟
تواصل رصيف22، مع عبد الله عبد الله، المدير العام لمديرية الشؤون المدنية في وزارة الداخلية التابعة لحكومة الإنقاذ، للسؤال عن كيفية التعامل مع أطفال الأجانب بشكل خاص في ظل رفض كثيرين منهم الإفصاح عن هويتهم، لكنه رفض التعليق على هذه النقطة، مكتفياً بالقول إن الوثائق المطلوبة لتسجيل مجهولي النسب، هي ضبط شرطة من المخفر المختص الموجود في مكان العثور على الطفل، وبيان عائلي للعائلة الكفيلة يُذكر فيه أفراد العائلة جميعاً، وإخراج قيد للكفيل في حال كان التسليم للكفيل من قبل المخفر، ويشار إلى ذلك في ضبط الشرطة، وبيان من دار الأيتام أو المكان الذي تم فيه استلامه، وشهادة ولادة لا يُذكر فيها إلا اسم الطفل وشاهدان واسم الكفيل من دون ذكر اسم الأب والأم.
ويلفت إلى أنه "عند الموافقة على التسجيل من قبل إدارة السجل المدني، وبعد أن يتخذ أمين السجل المدني قيداً جديداً له، يذكر له اسم أب وأم ونسباً بعيداً عن قيد الأب واسمه ونسبه".
أمام معضلة هذه الفئة من الأطفال الذين يدفعون الضريبة الأكبر، يبدو أن احتضانهم بواسطة أسر مستطيعة وعلى قدر كبير من المسؤولية هو الحل الأمثل لهم، والمكان الأفضل لهم من الدار التي يقيمون فيها عموماً، في ظل ظروف تسبب ازدياد هذه الفئة، فهناك حالات عديدة غير مسجلة ولم يستطع أحد الوصول إليها، لأسباب عدة ومختلفة، أهمها: حساسية المسألة وعدم رغبة الناس في الحديث عنها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 6 ساعاتوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 7 ساعاترائع
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت