شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
كمعظم البشر، أمتلك نسختين من نفسي

كمعظم البشر، أمتلك نسختين من نفسي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الثلاثاء 7 مايو 202412:06 م

كما معظم الذين عرفتهم في تلك الحقبة الزمنية الفارقة، دخلت العوالم الافتراضية مبكراً، فقد جرفتني حالة الهيجان التي اعترت سكان تلك العوالم، وسارعتُ للاستحواذ على نافذة خاصة بي، أطلّ منها على شعوب متعددة الأطياف والاهتمامات.

وبما أنني أنتمي إلى جيل الـ "زينيالز"؛ فهذا يعني أنني أرحّب بتجربة كل ما هو جديد، لذلك انتسبت إلى مجتمع فيسبوك عام 2010 أول مرة، من دون التوقف للتساؤل عن جدوى ذلك، ولم أجد صعوبة في تشكيل صداقات افتراضية بسرعة كبيرة، كوني كائناً اجتماعياً بطبعي؛ فطرقت بوابة الـ f، ودخلت من غير انتظار الإذن بالدخول، فربطتني به على الفور تعويذة سحرية، وكأنني دوروثي التي دخلت عالم أوز، فانبهرتْ بتركيبته الغرائبية.

في البداية لم أستوعب قواعد اللعبة، وتعاملت مع المجتمع الافتراضي كما أتعامل مع المجتمع الواقعي، فظهرت على حقيقتي، وتصرّفت بتواضع وعفوية، وعلّقت معظم تفاصيل حياتي اليومية على الجدران الزرقاء: ماذا أكلت وماذا شربت، إلى أين ذهبت، وماذا اشتريت، متى صحوت، ومتى نمت، وأين وماذا أعمل، وغيرها من التفاصيل، إلى جانب مشاركة الأصدقاء الذين لا أعرف أكثرهم على أرض الواقع، أفعوانية مشاعري؛ فتارة أحدّثهم عن حزني، وتارة عن سعادتي، ومرة عن غضبي، وأخرى عن قناعتي، كما حاولت أن أُرضي جميع الأذواق، فرُحت أنشر نكات مضحكة، ونصوصاً أدبية، وأغاني، وكتباً، وأفلاماً، وما إلى هنالك؛ ما جعل "حائطي" ملوناً وبهيجاً.

طرقت بوابة الـ f، ودخلت من غير انتظار الإذن بالدخول، فربطتني به على الفور تعويذة سحرية، وكأنني دوروثي التي دخلت عالم أوز، فانبهرتْ بتركيبته الغرائبية

ثم ما لبث أن اشتعل فتيل الحرب في سوريا، فتلطخت أرواحنا، وانعكست على جدران العالم الافتراضي، لتتحول إلى معرضِ لوحاتٍ سريالية، ومَن لم يستطع الانخراط في الحرب الدائرة رحاها في الخارج، انخرط في حرب من وراء الشاشات، عندها سقطت الكثير من الأقنعة، ودُهشتُ من حقيقة بعض الذين كنت أدعوهم "أصدقاء"، فالعديد منهم أدباء ومثقفون وفنانون، عند التقليب في حساب كل واحد منهم، تظن أنه قد وصل إلى مستوى يخوّله التمييز بين الحق والباطل على الأقل، إلا أن هذا لم يحدث، فقد اكتشفت أن القلة القليلة هم من أمثالي، أي أن ظاهرنا كباطننا، ولا نتحرّج من إبداء رأينا بصراحة، أما الغالبية العظمى من سكان العالم الفيسبوكي فهُمْ بعدّة أوجه؛ فالذي تظن أنه ودود ومتواضع، تأتي اللحظة التي يكشف فيها عن غروره ويطلقه ليتبختر بين التعليقات، والذي تتوقع أنه خجول هادئ، يبدو في بعض المناسبات فظاً؛ يحشر لسانه بين كل مفردة ومفردة، والذي يظهر مفكراً لا يُشقّ له غبار، ينتظر منه الناس أن ينتصر للعدل، تجده يطبّل ويزمّر بلا خجل للظالم وحاشيته.

وعندما وجدتني بعد سنوات؛ مختلفةً تماماً وضائعة وسط الزحام، ألاحق موجة من المفردات والصور والفيديوهات بإيمان صافٍ، وأطبّق الوصفة الموحّدة التي وضعها أحدهم، بلا مراعاة لاحتياجات البشر المتنوعة، من أجل اكتساب معارف جدد أو جمهور أو أصدقاء، والمكوّنة من "عدة مرات أضحكني"، "عدة مرات أحزنني"، تقابلها في لحظات متوالية؛ "أغضبني"، و"يهمني"، و"أحببته". كل ذلك الخلط ولّد حصاة في حنجرتي منعتني من ابتلاع البشر والفكرة، وبعد مناوشات بيني وبين نفسي، خرجت من عالم فيسبوك، وأغلقت بوابته.

لكنني وبعد مرور عام واحد فقط، شعرت بوحدة قاتلة، ولم أعد أعرف أخبار الأهل والأصدقاء، فأنا لا أملك وسيلة للتواصل مع معظمهم سوى فيسبوك، وهكذا، وبحجّة التواصل، وبحجّة الحَجْر الذي فُرض علينا نتيجة وباء كوفيد – 19، إذ لم يعد لدينا متنفّس سوى منصات التواصل الاجتماعي، أنشأت حساباً جديداً عام 2020.

وطبعاً، على الرغم من فهمي جانباً خاطفاً من نفسياتنا عندما يشتعل بجانب اسمنا ضوء أخضر، والذي بيّن لي بأن جميعنا نحاول الظهور هناك بالمظهر المفضّل لنا، والذي لم نقدر على إظهاره في العالم الحقيقي، فقد ألحّ عليّ هذا السؤال: ماذا لو أصبحنا كائنات افتراضية فقط؟ من المؤكد حينها أن جمهورية أفلاطون ستكون أمراً واقعاً لا مجرّد حبر على ورق.

في البدء سنمتلك الخلود بمجرد أن نضع صورة بروفايل ملتقطة بحِرَفية ونحن في سن الشباب، نمجّ سيجارة، وعلى الطاولة أمامنا؛ فنجان قهوة تعلو وجهه رغوة شقراء؛ حينها سنجمّد أعمارنا مهما سحلتنا السنين حقيقةً.

وسندخل نقاشات ذات أهمية، تُظهرنا على الدوام عارفين بكل شيء، وندخل حباً افتراضياً يضاهي جميع قصص الحب الحقيقية. سنمارس الجنس الرقمي، ونحصل منه على النشوة الحقيقية. سنسافر ونستكشف ونقرأ ونستمتع. سنمتلك الحرية التي سيوفرها لنا أرباب تلك التطبيقات وسنحمدهم على ذلك، وحين يقتصدون قليلاً في إعطائنا إياها، سنثور عليهم ونبحث عن تطبيقات نقدم لجوءنا إليها. إلا أنهم سيفهمون متأخرين أنهم طغوا علينا، ما سيدفعهم لإجراء إصلاحات في نظام حكمهم، لنعود بعد ذلك راضين وابتسامة المكر تلوح على وجوهنا.

كما أننا سنعيش أعماراً ممتعة نحصل فيها على: شهادات دكتوراه فخرية صُمّمت ببدائية، ومراتب افتراضية عالية، وأصحاب من علية القوم الافتراضي... وكل ما يخطر على البال.

للأسف أن كل ما ذكرته سابقاً هو حقيقة، نعيشها اليوم بكامل تفاصيلها، إذ بفهلوية اندفعنا لترويض العالم الرقمي بما يتناسب مع متطلباتنا، لكنه أجمح من أن يروَّض بسهولة، بل راح يسحبنا إلى مضماره، يجري بنا إلى أن نلهث، ثم يكرّر جولاته المرّة تلو المرّة. لن يكون ذلك العالم الـ "يوتوبيا" المتوقَّعة، بل هو الـ "ديستوبيا" المنتظرة. خاصة وأن الحديث في الأوساط الافتراضية يدور اليوم حول إمكانية وصول الـ "ميتا فيرس" إلى كل بيت ومؤسسة؛ سواء أكانت تعليمية أو مهنية، في المستقبل القريب.

سنمارس الجنس الرقمي، ونحصل منه على النشوة الحقيقية. سنسافر ونستكشف ونقرأ ونستمتع. سنمتلك الحرية التي سيوفرها لنا أرباب تلك التطبيقات وسنحمدهم على ذلك، وحين يقتصدون قليلاً في إعطائنا إياها، سنثور عليهم ونبحث عن تطبيقات نقدم لجوءنا إليها

وهو عالم افتراضي يجمع بين العوالم المادية والرقمية في مكان يتداخل فيه الواقع والخيال، حيث يمكن للأشخاص التفاعل مع بيئات ثلاثية الأبعاد والأفتارات، باستخدام تقنيات مثل الواقع المعزّز والواقع الافتراضي لتوفير تجارب مبتكرة، الهدف منها إنشاء محاكاة مشابهة للعالم الحقيقي و"إغراق" المشاهد باستخدام أجهزة الكمبيوتر والأجهزة الحسية مثل سماعات الرأس والقفازات، ما يؤدي إلى عزل مستخدم الواقع الافتراضي عن العالم الحقيقي، ودفعه للانغماس في عالم خيالي تماماً.

وإذا كنت ترغب في دخول عالم الـ "ميتا فيرس"، ينبغي عليك أن تنشئ نسخة افتراضية منك تمثلك في المساحات الرقمية، ستكون هذه النسخة عبارة عن نموذج ثلاثي الأبعاد لك، ولكن ليس من الضروري أن تشبهك تماماً حيث يمكنك التعديل عليها وفقاً لرغبتك، والتي قد تمثل بشراً أو حيواناً، أو مخلوقاً أسطورياً.

لا أخفيكم القول بأنني بتّ -في الواقع- مخلوقاً خائفاً جداً من تمادي العالم الرقمي وطغيانه على كل ما هو حقيقي وواقعي، خائفة من نسختي التي راحت وسائل التواصل تصقلها وتقولبها وفقاً لرغباتها، فأنا الآن كمعظم البشر، صرت بنسختين "واقعية وافتراضية"، وأفكر غالباً بمغادرة جمهورية أفلاطون الافتراضية إلى غير رجعة، وقتل نسختي الأخرى بدم بارد... ربما سأُتّهم حينها بالردة والرجعية وإثارة النعرات الرقمية والوهن من عزيمة الأمة الأفلاطونية، لكنني أُفضّل ديستوبيا الواقع على يوتوبيا الافتراض. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image