شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
أفخاخ اللامبالاة: كيف أصبحت الـ

أفخاخ اللامبالاة: كيف أصبحت الـ "طز" موقفاً جدّياً من الحياة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الجمعة 3 مايو 202411:00 ص

لا تُفارق ذهني كلمة "طُز" الشهيرة لمحجوب عبد الدايم، البطل الشهير في رواية نجيب محفوظ "القاهرة 30" أو بمعنى أدق، "التيس" الذي عبّر به السيناريست صلاح أبو سيف، عن نموذج اجتماعي يلهث وراء فرصة ما، ويبحث عن نصيبه الضائع وسط العثرات الاجتماعية. حيث يصور قدرة "طُز" التي تلغي الحاجة للتساؤل والتفكير، ما يجعلها حالة أكبر من كونها تعبيراً عن اللامبالاة، أو كونها مقابلاً لمفهوم القيمة، بل تصبح قيمة في حد ذاتها. فعل وموقف لمن لا يسعفه الوقت والوعي، وتبرير سهل لمن يريد أن يتغاضى ويتجاوز. وفي أيامنا نجد أخواتها: "كبّر دماغك، فُكك"، وتعبيرات كثيرة تؤدي نفس الدور، ولكن هل محاولات تفريغ الحياة من معناها والتساؤلات حولها يسهم في راحة البال فعلاً؟

أصبح هناك وجاهة وراء عدم الاهتمام بما يدور من أحداث وأزمات وحروب وظواهر اجتماعية، بالابتعاد قدر الإمكان عن الحديث حولها، حتى أصبح من السهل أن يخبرك أحدهم: "ما هذا الكلام الكبير؟! لو سمحت كلمني بالهجايص"

فرصة مكلفة 

في أحد مشاهد الفيلم التي تجمع بين "علي طه"، الشاب المثالي الذي يؤمن بمُثل ومبادئ الاشتراكية، ويدعو إلى الثورة على الملكية وفساد الحكومة وارتباطها بالإنجليز والانحطاط الأخلاقي، "وأحمد بدير" الذي يرى أن الشهرة هي الحل الأمثل للهروب من دائرة الفقر، وبينما يتحدث كل منهما عن انهيار المجتمع وحالة الاختلال والميوعة التي طالت القيم والانتماءات، كل هذا الحديث يدور بينما يتملك الصمت من "محجوب" الذي يعقب بالنهاية كعادته بطُز كبيرة. ومع كل انهيار تكبر مساحة الطُز أكثر، وكأنه يخلّد حكمة بالغة الأثر، مفادها بأن كل صوت يتحدّث عن الانهيار سيتلاشى حتماً في دوامات "الطُز".

وجد محجوب الفرصة المثالية للحياة: وظيفة وزواج وارتقاء طبقي ومسار مهني مضمون، كل هذا كان مقابل طُز كبيرة. صفقة تبدو ناجحة، ولكن عليه فقط أن يتنازل عن كرامته لبعض الوقت يومياً، ويقبل بالصفقة ككل، والتي حولته في النهاية إلى موظف عمومي بدرجة "قوّاد"، وحولت زوجته "إحسان" إلى هيئة قطاع خاص، يستفيد منها "البيه الوزير"، كمتعة مُقننة من ناحية، و فرصة مثالية وحقيرة، في آنٍ واحدٍ، لمحجوب للوصول لمراده والنجاح على طريقته الخاصة.

ربما تكون صورة محجوب هي الأكثر فجاجةً وتطرّفاً في التعامل مع مُجريات الواقع، ولكن يتقاطع مضمونها مع أخلاقيات العصر الجديد، والذي لا يعترف إلا بأولئك الذين يجيدون السباحة مع التيار.

تيار لا يقبل أي تشكيك أو نقد، ولا يعترف بقيم أو مبادئ، طالما هناك ثمن لكل شيء، بجانب تفريغ مفهوم "المصلحة" من أية حمولات زائدة، اجتماعية كانت أو أخلاقية، وبالرغم من أن مثال محجوب لا يتعدى كونه استثناء في نيل فرصته، إلا أنه يظل حلماً يراود العديد ممن يتمنون على الزهر أن يلعب وتتبدّل الأحوال، ولكن ماذا عن الأحوال وما تخفيه؟!

يفتح الاحتفاء بالجهل باباً لسيادة الاستخفاف واللامبالاة، وانطلاق "لسان اجتماعي" يرجّح دوماً مبدأ "الاقتصاد في التفكير"، بالمعنى الذي يجعل التفكير مقتصراً على المصلحة الفردية والعائد الشخصي

مأساة

دوماً هناك تعمّد في عدم الربط بين الأحوال العامة والخاصة. التطرّق للأحوال العامة مرهق، فضلاً عن تعقيده وما يسببه من إحباط، يتم اللجوء بدلاً من ذلك لحال الفرد. أصبح، مع الوقت، هناك وجاهة وراء عدم الاهتمام بما يدور من أحداث وأزمات وحروب وظواهر اجتماعية، وسياسات تؤثر وأشياء يجري التعامل معها، بالابتعاد قدر الإمكان عن الحديث حولها، حتى أصبح من السهل أن يخبرك أحدهم: "ما هذا الكلام الكبير؟! لو سمحت كلمني بالهجايص"، وفي الوقت الذي أصبح "التهجيص" يحتل مساحة وينطق به العديد، يخفى علينا معناه الذي يأتي من كلمة "هقص" الفرعونية، والتي انتقلت إلى اليونانية ثم الإنجليزية تحت اسم "Hoax" أي "الجهل" ببساطة.

يفتح الاحتفاء بالجهل باباً لسيادة الاستخفاف واللامبالاة، وانطلاق "لسان اجتماعي" يرجّح دوماً مبدأ "الاقتصاد في التفكير"، بالمعنى الذي يجعل التفكير مقتصراً على المصلحة الفردية والعائد الشخصي، وبمجرّد التحدّث عن تهديدات أو أزمات يعيشها المجتمع، يتحوّل مبعث القلق إلى الأشخاص الذين يشيرون إليها، أولئك الذين يعكّرون راحة البال، ويحاولون دفع الأفراد للتفكير في أمور طالما يقوم بها مديرون ومسؤولون، هم دوماً الأجدر والأكثر دراية.

ومع تسارع الأحداث نجد فيها ما نعدّه مؤلماً، وما نراه تافهاً. آسف، بل ما أعدّه، وما أراه. إذ لم يعُد استخدام "حرف النون" بالشيء اللائق، وهذا ليس بقراري، ولا لحكمة مني. إنه ببساطة مجرّد أمر واقع، مثل أمور أخرى، حملت كل واحد على إسقاط "الآخر" من حساباته.

نعم أنت قرأتها ومررت عليها بشكل طبيعي، ولن تثير استغراباً أو أي شيء لا سمح الله، لأن العادي والطبيعي أن تتلخص علاقة الفرد بأحدهم، وفق حسابات، بدون تعقيدات واعتبارات. أعتقد أيضاً أننا الجيل الأبرع في ممارسة ثقافة الإلغاء وإبداء عدم الاهتمام، وفي نفس الوقت يميل العديد من أبناء هذا الجيل لاستخدام كلمة "مأساة"، بينما يتحدثون عن أتفه تفاصيل حياتهم وأعقدها، فما هي الأسباب وراء تلك المأساة؟!

لم تعُد الحركة -حركة المجتمع برمته- تسبق الوعي فحسب، بل تدهسه في مشاهد ومواقف يومية، لا تلزمها شعارات أو مبادئ ولا خوض نضالات. أو هكذا تصوّرها العديد ممن يبحثون عن راحة البال. أنها حياة تلزمها كلمة "طُز"

غرباء

أعلم جيداً أن صيغة "أننا من طينة واحدة" لم تعُد ملهمة بأي شكل، في وقت أصبحت مجموعة الأفكار والخصائص وأنماط السلوك التي يقتسمها الفرد مع الآخرين لتكوين جماعة شيئاً غير مُجدٍ، أو لا يناسب الوضع الاجتماعي والثقافي الذي يحفّز الفرد دوماً لأن يصبح مختلفاً عن الآخرين، بينما يخفى على الكثيرين أنه كلما زادت درجة رهافة خصائص الفرد وتطورها وسموها، قلّت حظوظها في أن تشبه خصائص الآخرين، بل بالأحرى تميل لأن تصبح غير قابلة للمقارنة، ومن ثَم صعوبة إيجاد ما هو مشترك أو ما تتلاقى عليه المصالح، وبالتالي ألا يرقى هذا الحال أن يوصف باعتباره مأساة حقيقية؟!

في أحد نصوص المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي والذي يعلن فيها صراحةً كراهيته للامُبالين، ويستنكر وجود أشخاص يتلخّص وجودهم في أن يكونوا "غرباء" عن شؤون الحياة وما يجري فيها، إلا أن هذا الاستنكار يتلاشى بنظرة إلى الثقة المهولة التي يتباهى بها أحدهم، واصفاً رغبته في أن يضع نفسه خارج قدر كبير من الأشياء الجارية في هذه الدنيا، فلا حاجة لمعنى أو هدف أو بحث ما هو مشترك، طالما أصبح الغرض هو "عيْش اللحظة"، بدون الانخراط في أي شيء يُكدّر حالة الارتخاء التي تحدثها اللامبالاة.

مات غرامشي، ولم يدرِ أن أجيالاً ستأتي ودعاية سوف تُمجّد في اللامبالاة، للدرجة التي تصبح فيها مقاطع الكتاب الشهير "فن اللامبالاة"، بمثابة حِكَم سحرية تعزّز حالة الانفصال عن هذا العالم، ويصبح تصوّر أن يفنى العالم ويُدمّر أقرب أكثر للأذهان من أن تحظى ذواتنا بقدر من المُبالاة.

لم تعُد الحركة -حركة المجتمع برمته- تسبق الوعي فحسب، بل تدهسه في مشاهد ومواقف يومية، لا تلزمها شعارات أو مبادئ ولا خوض نضالات. أو هكذا تصورها العديد ممن يبحثون عن راحة البال، أنها حياة تلزمها إما كلمة "طُز" أو ربما الصمت باعتباره من شيم العظماء!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image