ليس بتاريخ الميلاد يتحدّد عمر الإنسان، إنما بساعات الخوف التي قوّضت جدار الطمأنينة وأحالته إلى روح ينهشها فكّا القلق والريبة، وتقتحمها نوبات الهلع. لكل منا أرشيفه الخاص من الخوف، يدوّن فيه هواجسه الغريبة ويقلّب بين مخاوفه الدفينة، محاولاً ترويضها بتطبيق نصائح التنمية البشرية بعبارتها التعيسة الخالدة: "كيف تتغلب على خوفك بسبعة أيام"، تدعوك فيه إلى مواجهة خوفك بتمرينات متواصلة من المواجهة والتأمل وتجنّب المواقف ذات المنشأ، لكن كيف يمكن لخوف معشعش في صدر صاحبه لسنوات عجاف أن يختفي بأيام؟
خرافة أنصار التنمية تلك لا تراعي الخوف المتأصّل، الذي ينمو بالتزامن مع الغضاريف والعظام، ولا يتوقف عن النمو أبداً، فالخوف الذي يتحدثون عنه لا يتناسب طرداً مع مراتب الخوف التي استحققناها بجدارة، لا يتطابق مع تلميذ يرتجف خوفاً من أن يخطأ بجدول الضرب أو يتلعثم بكلمات النشيد الوطني، لا يتلاءم مع ازدياد خفقان قلبه في حصّة التربية العسكرية، وتعرّق جسمه في محاولته للحفاظ على وضعية الاستقامة والرأس المرفوع التي تتنافى مع حالة الانحناء التي تشهدها الشعوب العربية منذ الأزل.
كما تتوسّع خريطة الموت كلما توغلنا في البلاد التي طحنتها الحرب، يرتفع هرمون الخوف بارتفاع إيقاع القذائف، بمزاج قناص قرّر زيادة أهدافه البشرية في لحظة حماس. الخوف من رصاصة طائشة أو عملية نشل بطلها سائق دراجة نارية يلبس بزة عسكرية يتوارى عن الأنظار بسرعة غياب القوانين وسطوة النفوذ.
للفقراء طريقتهم الخاصة بمكافحة الخوف، يستنجدون بـ "طاسة الرعبة" في كل موقف مرعب، إذ تتحوّل مع التقادم إلى معادل دوائي لمضادات الخوف، بدءاً من الكوابيس وتلعثم الكلام والتأتأة، مروراً بفوبيا الامتحانات والقطط السوداء والأماكن المغلقة، وصولاً إلى أصوات الانفجارات المباغتة. لكن ماذا عن لحظة ارتعاشك خوفاً أمام جملة "أعطني هويتك" لمعرفة دينك؟ هنا ينتهي مفعول الطاسة في تزويدك بجرعات الشجاعة.
للفقراء طريقتهم الخاصة بمكافحة الخوف، بدءاً من الكوابيس وتلعثم الكلام والتأتأة، مروراً بفوبيا الامتحانات والقطط السوداء والأماكن المغلقة، وصولاً إلى أصوات الانفجارات المباغتة
المدرسة، الناطق الرسمي بالخوف
يتشكل جنين الخوف منذ الطفولة، ثم سرعان ما يكبر ليفوق حجمنا بعشرة أضعاف. يعتبر البيت اللبنة الأولى للخوف بالرغم من كونه المكان الأكثر أمانا لنا، فحين نشتبك بأسئلتنا الوجودية المحرمة عن الوجود وعملية الخلق، تنهانا الألسنة عن التفكير بـ "حرام... بكرا الله بيحرقكم بالنار".
تتنقل عدوى الخوف إلى المدرسة بوصفها الناطق الرسمي باسم الخوف وإمبراطورية الرعب، تقدّم لنا معلمة الديانة الله في صور المعاقب والجلاد والحارق تجاه كل فعل رافض لارتداء الحجاب أو الصوم، إزاء كل منظور مختلف عن "الله"، مازالت صورة ترعيب الأطفال راسخة في المدارس العصرية، بعد تقديم لائحة مطولة عما سيفعله الله بنا عندما نرفض تنفيذ أوامره.
على صعيد شخصي، ابتكرت معلمات المرحلة الابتدائية طريقة جديدة باستخدام المسطرة كأداة تعذيب بدائية، كنت أنفجر من البكاء حين يحين موعد العقاب بعد أعمال شغب بريئة، إذ توصلت المعلمات إلى نتيجة تطبيقية مفادها، أن ظاهر الكف أكثر حساسية من باطنها، وبالتالي ستكون عملية الضرب بمرات متتالية وسريعة أكثر إيلاماً وتورماً من باطن الكفّ الذي يكون أكثر تحملاً لسماكة الجلد فيه. هذا القصاص كان يدفع توأمتي للتبرع وتناول حصتي من الألم، وفي أحيان كثيرة كان صبية الصف يشمرون عن أذرعهم في استعراض طفولي لتلقي الضربات عني.
في حصص التربية الدينية كنت دوماً على موعد مع نصف ساعة متنوعة من القصص المرعبة وقائمة من العقوبات الإلهية وعذاب القبر، لتكمل المهمة محطات التلفزة، فكانت مريم نور، بجلستها المتربعة ضمن أمتار قليلة وشعرها الأبيض، تثير فزعي، استطاعت هذه المرأة بنبرتها الصراخية التي ترتفع فجأة وهي تشير بإبهامها وإيماءة رأسها أن تحرمني من النوم لساعات وأنا أفكر بنبوءتها المنتظرة واقتراب يوم الحساب.
لمريم نسخ مكرورة من مثيلاتها في العمر، جدتي واحدة منهن، فكانت عبارتها الشهيرة "نار جهنم بدا حطب"، كافية لغرقي في بركة دموع ودخولي في حالة هلع، وفق منظورها الشخصي، هناك قسم مخصص للنساء غير المحتشمات، فكلما تعرت المرأة وبان لحمها زادت نسبة الشواء والطهي على درجات عالية من النيران، طبعا هذا القسم لا يقدم خدماته للرجال.
الأمهات يعشن خوفاً مزدوجاً
نحن النساء أقل إصابة بالخوف، ليس لأننا نساء، بل لأننا أكثر مرونة بالتعبير عن مخاوفنا والإفصاح عن قلقنا الجاثم، غير آبهات بالصورة القوية التي يتوجّب تصديرها للخارج، دائمات الشكوى ، ألسنتنا لا تتوقف عن الكلام، نركز على ذواتنا، لا نخجل من طلب المساعدة أو استجداء عناق طويل مع كل وجبة خذلان، أكثر احتراماً للأدوية النفسية وليس لدينا مشاكل بالتعامل مع الطبيب النفسي، على خلاف الرجال الذين يتخذون موقف الخصومة والعداء مع مضادات القلق، ويقيسون رجولتهم بمقدار الكبت والرفض العنيد للتعبير عن مكنوناتهم وهواجسهم، بوصفها رجولة أصيلة غير مشوبة.
كلما بدوا متماسكين، جبارين، غير منكسرين، زاد فيض رجولتهم حتى ولو كانوا من دواخلهم هشين، يتوقون ليد تربّت على أكتافهم، لذلك تراهم يختلقون حيلة الاستعطاف على النساء وإيجاد الفرصة لعناقهن بحجة التخفيف عنهن من وزر الحياة، لكنهم في الحقيقة يقشطون عن أنفسهم طبقة الجليد التي أصابتهم من فرط الصلابة التي فرضها عليهم المجتمع.
بالرغم من كوننا أقل عرضة للإصابة بمرض الخوف المزمن، لكن هذا لا يبعد شبحه عنا. أنا مثلاً أشعر بالقلق من إفلات إيقاع هذا النص مني، وتنتابني هذه الفترة مخاوف غير مرئية حول الموت، تحرمني من النوم لساعات الفجر الأولى إلى أن ينتشلني النعاس من بحيرة القلق.
وحدهن الأمهات من يعشن خوفاً مزدوجاً، يمضين نصف أعمارهن قلقات من عدم إنجابهن لطفل، ثم يكملن النصف الآخر في خوف مستمر على هذا الطفل، لا استراحة بين الخوفين، تبقى عيونهن متيقظة حين تصيبهم نوبة حمى أو تسد شهيتهن عن الطعام، يمتد إلى المدرسة خوفاً عليهم من العراك، وحين يكبرون يخشين عليهم من الفراق والابتعاد.
خوف بمذاق الموت
ثمة مسافة زمنية بين البحث والإيجاد، الظن واليقين، يصعب ردمها بالانتظار. هنا بين البرزخين ستعيش خوفاً لساعات طويلة تبدو وكأنها دهراً، ستختبر رعباً حقيقياً خالصاً بأن تعثر على جثة أبيك تحت الأنقاض، أو أن تنتشل جسد طفل لم يكمل رضعته من ثدي والدته، جرّاء قذيفة سقطت سهواً، سيرافقك في كوابيسك مشهد تكور الأخت على شقيقها كي تحميه من زلزال سقط على رؤوس الأبرياء، وفي أفضل الأحوال، ستصيبك نوبات هلع كلما تجاوزت أذنيك عتبة رقم 85 ديسيبل على مقياس شدة الصوت، ذاك الصوت الذي تخترقه التفجيرات المدبرة، وزعيق المغيثين، وصراخ سيارات الإسعاف، وعويل الأمهات.
تقدّم لنا معلمةُ الديانة اللهَ في صور المعاقب والجلاد والحارق تجاه كل فعل رافض لارتداء الحجاب أو الصوم، إزاء كل منظور مختلف عن "الله"، مازالت صورة ترعيب الأطفال راسخة في المدارس العصرية، بعد تقديم لائحة مطولة عما سيفعله الله بنا عندما نرفض تنفيذ أوامره
تعوّل الأنظمة المستبدة على مفردة الخوف، تخترع أسلوبها في الترهيب وتزكّي عيون الجواسيس من كل حدب وصوب، تراقب لغو الشعوب عند الغضب وتدوّن كل كلمة يتفوهون بها في نوبة سخط لمحاسبتهم في يوم العقاب، وعلى غرار عملية تسمين الخراف بالعلف، تعمل الأنظمة على تسمين كائن الخوف المتناهي في الصغر الذي يكون بداخلنا، ترعاه بعناية شديدة لتضمن أن يغدو أكبر وينمو على الدوام، تحرص على أن يظل حجمه كبيراً بما يتناسب مع قوتها وسطوتها، فالخوف الصغير قد يدفع صاحبه لأن يتجرّأ على قتل خوفه، بينما كلما تعاظم حجمه وفاقه قوة زرع فيه العجز عن تقويضه، ويظل خاضعاً لخوفه لا يتجاسر عليه.
لم تتمكن أي رواية عالمية من تجسيد الخوف بصوره المرعبة كما فعلت رواية "1984" لجورج أورويل، إذ يظل الخوف يطارد الناس كوحش مفترس، حين ينامون، يأكلون، على الأريكة، في المطبخ وغرف النوم، صممت الرواية على مقاس بطش السلطة وكيف تلاحق مواطنيها، حيث تراقبك شاشات التلفاز في كل مكان، والجميع يتجسّس على الجميع، فالأمر طبيعي جداً حين يشي الابن بأبيه مستنجداً بـ"شرطة الفكر"، عندما تغدر الأم بابنتها، كل ذلك في سبيل إرضاء الديكتاتور، الأخ الأكبر كما صوره أورويل.
وكأن الرواية استشراف لليوم، حيث تجمع وسائل التواصل الاجتماعي كل رد فعل وتعليق وحركة شراء أو احتجاج نباشرها على الإنترنت، إذن، نحن نولد ونعيش في خوف، نأكل، نشرب، نمارس الجنس، ونكبر ونفرح بخوف، نتكلم في أحوال السياسة والدين بخوف. الخوف ليس حصتنا العادلة الموزعة من القدر فحسب، بل هو الفائض الاحتياطي الذي ندخره لأبنائنا وأحفادنا اللاحقين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه