شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
كل القرف الذي نحيا به… ألا يحتاج لـ

كل القرف الذي نحيا به… ألا يحتاج لـ "تفو" كبيرة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 12 أكتوبر 201905:39 م

بالتأكيد، ثمة من سينزعج لقراءة مقال عن البصاق، سيظن أنه موضوع مقرف ويبحث في المواضيع الأخرى الأكثر "أهمية" من هذا الموضوع: الاجتياح التركي لشمال سوريا، وكم الجيوش غير الوطنية الموجودة على الأراضي السورية، الاحتجاجات المستمرّة في العراق والقنص الذي يطول المتظاهرين والدعوات الطائفية المتفاوتة هناك، الثورة المسروقة ببسطار العسكر في مصر، جرائم الشرف المستمرة ضد النساء في بلدان لا شرف فيها ولا كرامة، لكن مهلاً...كل هذا ألا يدعو للبصاق، كل القرف الذي نحيا به ألا يحتاج لـ"تفو" كبيرة تغطي هذا الشرق المنكوب بحكّامه ومثقفيه، مشايخه وإعلامييه... يبدو البصاق الفعل الوحيد المجدي كفعل مقاومة لليائسين.

وهو كموضوع جدير بالامتداح، كما أظن، لكن الكثيرين سيعتبرونه موضوعاً مقرفاً، رغم أنهم يستخدمونه بكثرة، وإذا حسبنا الكمية التي يصنعها الإنسان في حياته من البصاق فسنخرج بالتأكيد بأرقام هائلة، خصوصاً في حالات القرف المتوارثة في الأوطان العربية، بل إني أظن أن الإنسان العربي مصنوع بكليّته من مادتين هما البصاق والدموع.

البصاق عبر شاشات التلفزيون

البصاق لغةً هو الأخلاط التي يفرزها الفم، وقد تكون سوائلاً وقد تكون على هيئة خطب سياسيّة، أو ضحكات بلهاء كتلك التي يلقيها رؤساؤنا كلما رغبوا بتذكيرنا بأنهم موجودون ويستطيعون البصاق على وجوهنا ومن خلال بثّ مباشر، فمثلاً أعرف رئيساً يبصق ضحكاته في المقابلات التلفزيونية في وجه محاوره، ويشهق أحياناً، ويستخدم طرائف غير مضحكة، لكنه رئيس ضاحك وهذا أفضل قليلاً من ملك متجهّم مثلاً.

 يبدو البصاق الفعل الوحيد المجدي كفعل مقاومة لليائسين

يمتشق المحلل السياسي/ الألعوبة قلمه الحاد كسكين مطبخ ويعلن: هذا الخطاب صرخة في وجه الظلم والاستعباد...وحين تستبدّ به العدمية مخلوطة بالإثارة النضالية يقول: هذا الموقف صرخة في وجه الهباء الوجودي لقوى الاستعمار، ثم يذوب رقة في نهاية الخطاب الجمهوري ويبحث في اللغة العربية ليجد تعابير تناسب الفتح العظيم في الخطب الرئاسية فيقول: بصقة في وجه التاريخ الخانع، أو على المواقف الانتهازية للملوك العرب، رغم إن صراخه الذي يكاد يفجّر شاشة التلفزيون غالباً ما يتضمّن بصاقاً، لكن للكلمة نفسها (بصاق) وقع صوتي أكثر ثورية واحتقاراً للسلطات الأخرى، أو الموضوع المبصوق عليه هنا، من الذي يتاح له أن يبصق في وجه "الإمبريالية العالمية" وهو مختبئ بين أحضان زوجته ولا يفعل؟ بالتأكيد ليس رئيساً عربياً.

البصاق التاريخي للرب

البصاق، كتعبير عن الاحتقار، قديم، فقد ورد عدة مرّات على لسان الرب في وجه موسى كدليل على الاحتقار والإهانة، كما ورد في العهد الجديد عندما بدأ الناس يبصقون على يسوع المسيح لتبجّحه وادعائه بأنه ابن الرب، أما في الدين الإسلامي فهو فعل مكروه وحكمه أن يهال عليه من التراب ليختفي إذا جرى ذلك في المسجد، وله آداب في الإسلام منها يكون على اليمين وبغير جهة القبلة، أي تستطيع أن تبصق في ثلاث جهات إلا جهة القبلة، وإلا فإن الباصق يأتي يوم القيامة وبصقته بين عينيه!! ويجب ألا نتعجّب من ورود هكذا تفصيل في السنة النبويّة، أما البحث في قضية بلّ الأصابع بالبصاق وتقليب صفحات القرآن، فهذا شيء قد يدعو للإعجاب حين نعرف أنها قضية شغلت الفقهاء المسلمين واحتاجت علماء شهيرين لحسمها، لكن ليس أكثر من قضية بلّ رأس القضيب بالبصاق لتسهيل عملية الإيلاج، بل نستطيع القول إن القضيتين لهما نفس الأهمية عند السادة الفقهاء.

أسلحة المستضعفين

استخدم البصاق كتعبير عن الاحتقار والترفع، بالرغم من أنه قادم من مكان مقدّس كالفم، يُسبّح ويصلّى به، وبقي هو السلاح الوحيد الذي لا تستطيع أي أجهزة الكترونية اكتشافه، ولا تجرؤ أي قوة عسكرية على تجريد حامله منه، فاستخدمت السلطات أسلوباً جديداً عبر تجفيفه بالركض الحثيث خلف رغيف الخبز والحد الأدنى للعيش، ورغم كل ذلك الجفاف يستجمع المواطن بعضاً من السائل الدافئ ليشكل بصقة مكورة يستخدمها عندما يريد، وقد يكتفي باستخدام "مجاز البصاق" وهو كلمة "تفو" دون أن يصحبها ذلك الرشاش اللزج، ورغم فاعلية "المجاز" النفسية إلا أنها لا تضاهي مشهد السائل ينزلق على وجه صفيق، ولو من خلف الشاشة: "تفو ع البطن اللي حملك"، "تفو ع اللي قال لأبوك مبروك ع ولادتك"، "تفو عليك من بين أولياء العهد": وهذه جميعها توضع في خانة المواقف السياسية.

بصاق مترجم إلى العربية

في حياتنا العادية نستطيع أن نجد البصاق في حوارات متعدّدة، ففي اللغات الأجنبية العديد من الأقوال التي تضع البصاق كـ"جوكر" مكان الكثير من الكلمات ونستطيع فهم المراد من السياق:

"لقد تمّ تجميع الموضوع بالبُصاق والأختام الشمعية": أظن أن هذا الجملة بالذات تتحدّث عن اللجنة الدستورية السورية، فما أجمل أن تبصق على صورة ثم تلصقها على الحائط.

"الحكومة لا تساوي دلواً من البصاق" و"لقد عَلِق على كرسي الرئاسة كبصقة": تتشابه الحكومات العربية كما تشبه البصقة أختها.

"أتمنى ألا يزعجكم البصاق في الأكل" و"قليل من البصاق لن يقتلك" و"إذا وجدت بصاقاً في الأكل...ابصقه": ذلك أنّك تعلم كمية الكذب والإهانة التي يتضمّنها مجرّد وجودك في ذلك المكان وتحت رحمة تلك العائلة، لكن لا مفر لك.

"ما رأيك بهذا البصاق" و"البصاق الذي يتطاير من فمه البائس كان أكثر شيء مُثير للاشمئزاز والإهانة سمعته أذني من قبل": يقولها الصديق عندما تقرّران معاً الاستغناء عن حضور مباراة لفريق برشلونة والاستماع لجلسة نقاش في الأمم المتحدة بدلاً من ذلك.

"أيضاً زيت الزيتون، المرطّب بطعمة الفراولة، العسل، الزبدة، الشامبو، الفازيلين والبُصاق، كلّها من الممكن أن تساعدكِ على تحمّل الأمر": لا داعي للشرح هنا ولا للخجل، الكثيرون منا قد فعلوا ذلك.

"إذا كنتَ متأخّراً، لن تحصل حتى على بصاق" و"لطخات البصاق على ملابسي تثبت ذلك، آسف لتأخري": تفيد في الاعتذار.. وقد لا تفعل، لكن من الضروري المحاولة.

"البصاق على الناس ليس من حرية التعبير": قد تفيد في ممارسات الربيع العربي وبعض الأدب الحديث.

البصاق موضوع جدير بالامتداح، لكن الكثيرين سيعتبرونه موضوعاً مقرفاً، رغم أنهم يستخدمونه بكثرة، خصوصاً في حالات القرف المتوارثة في الأوطان العربية
البصاق لغةً هو الأخلاط التي يفرزها الفم، وقد تكون سوائلاً وقد تكون على هيئة خطب سياسيّة، أو ضحكات بلهاء كتلك التي يلقيها رؤساؤنا كلما رغبوا بتذكيرنا بأنهم موجودون ويستطيعون البصاق على وجوهنا

البصاق على أصحاب القداسة

البصاق سلاح خفيف وفعّال، ويأتي بعد المظاهرات والإضرابات وبالتأكيد قبل الصواريخ الخفيفة والرشاشات الأتوماتيكية، وربما لو انتبهت ثورات الربيع العربي لهذا السلاح وأعطته الأهمية لكان أجدى من استجداء الناتو وطائرات التحالف، لكنه سائل واحد في الحالتين، في البصاق وفي "تلحيس" قفا الدول العظمى، لكن تخيل معي قصور الحكام العرب تغرق في فيض من البصاق اللزج المستمرّ من 400 مليون عربي.

فلنبصق ألمنا وقهرنا، قرفنا ويأسنا، ماضينا وحاضرنا، فلنبصق شهداءنا وموتانا، قبورنا وأشجار زيتوننا، فلنبصق بكل ما أوتينا من غضب وبغض، على فتاوى إطاعة الحاكم وأولي الأمر، على الجيوش التي تحولت لقمع الناس وتدمير البيوت، على قصور الشعب الممنوعة عن الشعب، على دراما التسطيح وأدب الولاء، على الصحافة المستنسخة وإعلام التصفيق، على أصحاب السمو والفخامة والسيادة، الذات الملكية والذات الجمهورية، لنغرق "ذواتهم الضئيلة" بفيض من احتقارنا اليائس.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image