كان هناك دفتر صغير لا يفارق جيب أبي، يسميه "الزمام"، وكان يقيّد فيه كل ما تعلّق بحياتنا والأرض وبقطيع العنز الذي يملكه: من مواعيد ضراب وولادة، ومواعيد الحصاد وتواريخ الزراعة، وفيه كان يحدد أضحية العيد وأسعار العلف وعدد أحزمة التبن ومواعيد تقليع شجر السدر وتنقية الأرض من الأشواك وزبر الزيتون، وفيه كان يعيد مراجعة ديونه، مداخيله ومصاريف دخولنا للمدارس واشتراكات الحافلة المدرسية، ميزانية اللباس الجديد وأثمان الكتب والكراسات والأقلام، تواريخ الأعياد والعطل ومواعيد جزّ الخرفان وتلقيح الكلب.
كان أبي يحكم إخفاء ذلك الدفتر في جيب سترته الداخلي مشدوداً بخيط، مثله مثل ساعة الجيب، حتى لا يقع في يد أحد غيره، فلا نكاد نراه إلا متى استلّه ليكتب فيه، ولذلك لم يشدني الفضول لشيء غيره إثر وفاته، في جلسات توزيع ميراثه القليل بيننا نحن أولاده وبناته.
ظللت أقلّبه وأتحسّس خط أبي وأحاول فك رموزه، ومن حرصي عليه صرت بدوري أخفيه كل مرة حتى أضعته.
وظل ذلك الدفتر الضائع في ذهني إلى اليوم وأنا أتذكر تلك الرموز والصور والخربشات والجداول التي لم أنجح في فكها وقتها، حتى قرأت دراسة منذ سنوات قليلة تتحدث عن ارتباط فن اليوميات في نشأته بالحساب، فقد ظهر عند التجار الذين يجردون آخر اليوم مبيعاتهم وأرباحهم، ويحصون مداخيلهم في دفاتر سرية يحكمون اخفاءها في درج من أدراج خزائنهم أو مكاتبهم، فتذكرت أن أبي بدوره قد مارس التجارة قبل أن يعتزل، بعد فشل ما يسمى بتجربة "التعاضد" سنة 1969 التي قادها الوزير أحمد بن صالح.
ويبدو أن عادة استخدام ذلك الدفتر هو كل ما جناه من تلك التجربة، بعد أن عاد للعمل بالفلاحة وتربية الماشية بدل إدارة محلات البقالة المشتركة مع تاجر من جزيرة جربة.
دفتر والدي والأرقام والكفن
كان دفتر والدي مليئاً بالأرقام وقليل من الكلمات، مثل كلمات مفاتيح، مرة بالعربية القرآنية ومرة بالفرنسية. ذلك الكم الكبير من الأرقام نفّرني في البداية، ثم تحوّل إلى مبعث متعة كبيرة، بعد أن تمكّنت من حل أولى شفراته فيما يتعلق بتاريخ لقاح العنز، وتاريخ آخر وضعه أبي كتوقع لموعد ولادتها. كان شيئاً ممتعاً وأنا أتتبع ذلك التاريخ وأثبت صحته بعد ذلك عندما ولدت العنز.
هذه الأرقام إذن ليست مجرد أرقام جوفاء، بل فيها شحنة من التخمين والتوقع ومن الحياة اليومية، من الممكن ومن المستقبل ومن عصارة التجربة الحياتية، كانت تتخللها خربشات ورسوم تعكس حيرة والدي وربما مشاعره.
كان كتاب أبي كأنه كتاب مقدس، فيه أيضاً تنبؤاته وحساباته المحزنة، ففي آخر الدفتر كتب، فيما يشبه الوصية، جملاً قليلة، يخبرنا فيها أنه وضع مبلغاً من المال في جيب سري بحافظة الأوراق، استبعده احتياطاً لكي نشتري به كفنه إذا ما مات ووجدنا حقيبة نقوده فارغة.
هكذا بدا لي أن أبي بذلك الدفتر قد ترك لنا كتاباً مهنياً مشفّراً نسير عليه، ودرساً روحياً في آخر الدفتر، يقول إن كل الحسابات الدنيوية لا يجب أن تنسينا أن الموت حق، وأن علينا أن نتدبر أمر رحيلنا من هذا العالم بكرامة وكبرياء.
وأكد لي ذلك الدفتر أن دفتر اليوميات يجمع بين التأريخ للحياة، في ظل وعي تام بحتمية الموت كواقعة ثابتة.
تحولات دفاتر الحسابات
يقول الناقد الفرنسي فيليب لوجون متحدثاً عن نشأة اليوميات: "اليوميات ولدت، كالكتابة نفسها، من الحاجة للتجارة والإدارة، فعندما نمارس التجارة، من الضروري ترك أثر للتبادلات، ولمعرفة وضعية المخزون، لذلك نسجلها بالتاريخ".
ثم انتقلت عادة "مسك" الدفاتر الخاصة، إلى التجار الرحالة فخطوا فيها ملاحظاتهم واكتشافاتهم وأحوال الأرض وأحوالهم الخاصة، فصارت كتب الرحلات والجغرافيين، ومنها ظهر أدب الرحلة و كورديلو المسافر، بينما تطورت الظاهرة في المدن عند العامة، لتصبح دفاتر خاصة انتشرت عند المراهقين، وخاصة النساء، حيث فضاء التحريم شاسع، سيّجته الأخلاق والدين والعادات، فكان ما يعرف بـ "دفاتر الوسائد"، وصار الدفتر الصديق الحميم، المخلص، الذي يؤتمن على أسرار الفتيات، وتحولت الأسرار، من أسرار المال إلى أسرار العواطف والأجساد.
عندما خرج الرجل ليقاتل، حمل معه دفتره الحميم ليسجل فيه أهوال الحرب والنفس وما عانت، فكانت يوميات الحروب، وكذلك فعلت النساء اللواتي التحقن كمقاتلات أو كممرضات ومسعفات للجرحى، وحتى اللواتي بقين في الملاجئ استللن دفاترهن ليدوّن حياتهن هناك، في المخابئ وفي معسكرات الحشود.
وعندما سقط بعضهم في الأسر والاعتقال، كانت دفاتر اليوميات رفيقة السجناء والمعتقلين والأسرى، فقدت من الأوراق المتفرقة ومن جوانب صفحات الصحف ومن أغلفة علب السجائر.
كان كتاب يوميات أبي كأنه كتاب مقدس، فيه تنبؤاته وحساباته المحزنة. في آخره كتب، فيما يشبه الوصية، جملاً قليلة، يخبرنا فيها أنه وضع مبلغاً من المال في جيب سري بحافظة الأوراق، استبعده احتياطاً لكي نشتري به كفنه
وظل هذا الطابع الاحصائي والرياضي قائماً في كل اليوميات، القديمة منها والمعاصرة، وظل ذلك النفس الحسابي ثابتاً في كل جلوس إلى الدفتر لمحاسبة اليوم؛ محاسبة الزمن.
اليوميات ومطاردة الزمن
تعتبر الكتابة الأوتوبيوغرافية، واليوميات تحديداً، جنساً كتابياً زمنياً من الطراز الأول، فهو متجذر في الزمن، ولا يمكن التدليل عليه من خارجه، بل عليه في الغالب أن يعلن عن زمنيته من بدايته، لذلك يحرص بعض كتاب اليوميات على تحديد الفترة الزمنية التي تعتني بها اليوميات تحت العنوان.
فاليوميات هي فن إدارة الزمن بامتياز، بل إن هوية الشخص الذي يمارسها مستمدة من هذه الزمنية: فنطلق عليه في الإنجليزية لقب Diarist، وعنها أخذت لغات أخرى، والعبارة مشتقة من اليوم والطابع اليومياتي للممارسة، لذلك احتفظت به الفرنسية من اللغة الإنجليزية، لأن الصحافة استولت مبكراً على عبارة "جورناليست"، كما يقول فيليب لوجون، ولا يمكن تمييز عبارة "جورنال" بمعنى اليوميات، من "جورنال" بمعنى الصحيفة، إلا بزيادة عبارة "خاصة"، لأن الفرنسية "ليس فيها أي كلمة يمكن أن تشير للشخص الذي يسجّل يومياته".
أما في العربية لندرة هذا النشاط لم ينحت له مصطلح، وظل النقاد يستعملون في الغالب عبارة مركبة "كاتب اليوميات"، مع أن الكتابة ليست شرطاً أساسيا لممارسة هذا الفن، ولم يجرؤ ناقد إلى حد هذا اليوم على اجتراح مصطلح يفي بهوية هذا الفاعل كـ "اليومياتي" مثلاً.
ارتبط فن اليوميات في نشأته بالحساب، فقد ظهر عند التجار الذين يجردون آخر اليوم مبيعاتهم وأرباحهم، ويحصون مداخيلهم في دفاتر سرية يحكمون اخفاءها في درج من أدراج خزائنهم أو مكاتبهم
اليوميات: أرقام وتواريخ
لا يمكن الحديث عن اليوميات إلا متى توفرت سلسلة من الأرقام تعكس تواريخ الأيام التي تجري تحتها الأحداث والأفكار، وهي في النهاية كما يقول صاحب "شاشتي العزيزة": "قائمة بالأيام"، فاليومية تدخل جنسها بداية من شكلها، وغياب التاريخ العددي يسقط عنها هويتها الخاصة باعتبارها يومية، تقول بياتريس ديدياي: "كاتب اليوميات يحرص على تعيين الوقت الذي يمارس فيه الكتابة: بل إن هذا التعيين للتاريخ هو الذي يمكّن، في النهاية، من الحديث عن )يوميات)، وهو ما من شأنه أن يميزها من دفتر الأفكار".
وتذكر القواميس والموسوعات أن اليوميات انحدرت من عالم الرزنامة أو التقويم و"الرُزْنامَة أو الرُوزْنامَة أو المُفَكّرَة، هي جهاز أو أداة مادية (كُتيَّبٌ ورقى، دفتر أو يومية حائط ورقية في كثير من الأحيان) تستخدم لتحديد التواريخ أو التذكير بها، والتاريخ هو يوم واحد معين ومحدد، ضمن هذا النظام للعد الزمنى، ويعرفها المعجم الوسيط بـ "كُتَيِّب يتضمن معرفة الأيّام والشهور وأوقات طلوع الشمس والقمر على مدار السنة، وهي دفتر يستعمل في إدارة صرف مرتبات أرباب المعاشات العاملين في إدارة أو مؤسسة".
وقادني البحث في كلمة "الزمام"، ذلك الاسم الذي أطلقه أبي على دفتره، اكتشفت صلته بالقيادة والحكم والضبط وبالسير والرحلة.
إن اليوميات، إذن، لا يمكن أن تنجو من الأرقام والحسابات، لذلك يستعيض أحياناً بعض كتّاب اليوميات عن الكتابة والسرد بوضع إحصائيات أو أرقام لا غير.
والأرقام لها دائماً دور كبير في الدفع باليوميات نحو التقدم، في بعدها الواقعي والتسجيلي، فذكر عدد الجنود القتلى أو الأسرى في يوميات عسكري في ساحة المعركة أو مراسل حربي حدث مهم مختصراً بأرقام، كما تسجيل مبلغ مالي في يوميات شخص مفلس بلا عمل وشريد.
في افتتاحية يومياتها "هروب، يوميات طفل شارع"، تؤكد الكاتبة الكندية إيفيلين لو، على مبلغ العشر دولارات التي تحملها معها في رحلة هروبها من المنزل العائلي، في أول يومية لها من يومياتها "هروب، يوميات طفل شارع"، لأن المال سيكون سبب شقائها بعد ذلك، والحاجة إليه للاستمرار في العيش ستدفعها إلى بيع جسدها على الأرصفة، فتسجل يوم "22 آذار/مارس 1986":
تلعب الأرقام والحسابات دورا مهما في نقل حال كاتب اليوميات المادية والنفسية وتؤصّل التدوين في فن اليوميات، القائم أساساً على التكثيف من ناحية، وعلى التشظي وعدم الحاجة للسرد طوال الوقت من ناحية ثانية، لينصب الكاتب قيامة كل ليلة لنفسه وما ارتكبت
"الوقت صباحاً، وأنا في مكتب إحدى الصحف الشبابية. هربت من المنزل أمس واتصلت بالأشخاص في صحيفة مكتبة المدرسة لأتوسل إليهم كي يستقبلوني لبعض الوقت. أفرغت خزانتي من دفاتري، اليوميات التي كنت قد خبأتها هناك، وسحبتها أسفل الممر وألقيتها في سلة المهملات، استمعت إليها وهي تسقط إلى أسفل. المؤكد أنها لم تكن لترافقني، لأن حقيبتي المدرسية كانت مليئة بالقصائد والقصص، وكتاب عن أسواق الكتّاب، وغيار ملابس، وعشرة دولارات".
تبدو عبارة "عشرة دولارات" أكثر العبارات وقعاً بعد كلمة "هربت"، فالهروب من البيت الآمن والخروج من مسؤولية العائلية يصحبه ضآلة المبلغ، يجعلنا نتوقع كم المصاعب التي ستواجهها الطفلة الهاربة في شوارع "بريتش كولومبيا" الباردة.
في مثال آخر، يحصي الكاتب الإنجليزي جورج أورويل، بتاريخ 1 حزيران/يونيو 1940، الإشهارات زمن الحرب، أنواعها في الجريدة ونسبها من الأعمدة بدقة: الأكل، أدوات صحية، الدخان، الملابس، الرهان... لتعطينا فكرة عن أوضاع الاقتصاد والاعلام بلندن زمن الحرب.
بينما كتب أرنستو تشي غيفارا في يوميات بوليفيا يحصي غنائمه يوم 23 آذار/مارس: "الغنائم النهائية هي التالية: 16 بندقية موزر، 3 مدافع مورتو مع 64 قذيفة ب ز ، 3000 رصاصة موزر، 3 ي، س، ا، س، مع مخزونين لكل واحد، رشاش عيار 30 مع حزامين من الرصاص، هناك 7 قتلى و14 أسيراً، من بينهم 4 جرحى...".
وأذكر أنه في يومياتي بالجزائر سنتي 2009 و2010، اكتفيت في يومية 25 تموز/يوليو، بنسخ نتائج الانتخابات الرئاسية المزورة في تونس، والتي فاز فيها زين العابدين بن علي بنسبة 89،62%، وكان توزيع النتائج على بقية المترشحين كافياً ليعكس طبيعة نظام الحكم في تونس، وحال الديمقراطية وعدم شفافية الانتخابات، ولم تكن تلك الأرقام تحتاج إلى مزيد من التفسير والتحليل.
إن اليوميات في كثير منها إحصاء للخسائر، لأن دورها "تقديم محصلة"، ويمكن أن تكون الحسابات غير مالية، كما تقول بياتريس ديدياي، متعلقة بالخلقة والأخلاق، وهي تعطي مثالاً من يوميات أميال: "كم ألحقت بي الأشهر القليلة الماضية من بشاعة وشيخوخة! كم هو انهيار سريع ومتواصل! غزو الشيب، استطالة الأسنان، بداية تجاعيد، بياض اللحية، فقدان البشرة لنضارتها، اكتمل كل شيء"، ويمكن أن نعثر على هذا الجرد للخسائر في العديد من اليوميات، منها يوميات حسونة المصباحي "يوميات الكورونا"، وهو يسجل رعبه من الشيخوخة بعد أن اكتشف أن سنّه يتحرك.
وتكتب سيلفيا بلاث يوم الأربعاء 7 كانون الثاني 1959، متحدثة عن عدم تمكنها من التحكم في وقتها، ولا في تنفيذ وعودها بخصوص الكتابة، وترجع ذلك إلى انحدارها نحو الشيخوخة قبل الأوان: "لا أستيقظ في الصباح لأني أريد العودة إلى الرحم. من الآن فصاعداً... احرصي على أن تبدئي الكتابة قبل 9، فذلك ينزع اللعنة. إنها الآن تقريبا 11. غسلت كنزتين، مسحت أرضية الحمام، غسلت صحون اليوم، رتبت الفراش، طويت الملابس المغسولة وحدقت في المرآة إلى وجهي برعب: وجه شاخ قبل أوانه، أنف قصير بدين يشبه سجقاً راشحاً، مسام كبيرة ملأى بقبح وقذارة، بقع حمر، الشامة البنية أسفل ذقني والتي أود أن تستأصل. ذكرى عن وجه الفتاة ذاك الذي شاهدته في فيلم في كلية الطب، بثؤلول جمال أسود صغير. هذا الثؤلول خبيث: ستموت هي في غضون أسبوع... شعر غير مرتب، مجرد بني صبياني مرفوع. لا أعرف شيئاً آخر أفعله به. مرتخية. جسد بحاجة إلى شغل. بشرة أسوأ بسبب المناخ: بارد يشقق الجلد، حار يجففه. أنا بحاجة إلى أن أكون سمراء من رأسي حتى قدمي، وتصح بشرتي فأكون على ما يرام...".
هكذا تلعب الأرقام والحسابات دورا مهما في نقل حال كاتب اليوميات المادية والنفسية وتؤصّل التدوين في فن اليوميات، القائم أساساً على التكثيف من ناحية، وعلى التشظي وعدم الحاجة للسرد طوال الوقت من ناحية ثانية، لينصب الكاتب قيامة كل ليلة لنفسه وما ارتكبت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...