"من يتحكم في الماضي يتحكم في المستقبل، ومن يتحكم في الحاضر يتحكم في الماضي"، هذه العبارة كتبها الروائي البريطاني جورج أورويل في روايته الشهيرة "1984" المنشورة عام 1949 والمقصود أن المتحكمين في سردية التاريخ، لديهم القدرة على تشكيل الحاضر والمستقبل لخدمة مصالحهم وتوجهاتهم، وأن ما يعرفه كل جيل أو مجتمع عن التاريخ، ليس بالضرورة هو الحقيقة فعلاً، بقدر ما هو السردية التي سيقت إليه باعتبارها الحقيقة.
يُصنف كثيرون رواية "1984" كمحطة ميلاد أدب الدستوبيا، ومعنى المصطلح باليونانية "المدينة الفاسدة" (عكس المدينة الفاضلة/ اليوتوبيا)، وإلى حد كبير يمكن اعتبار العبارة الشهيرة السابقة من الرواية، خلاصة للمغزى الفلسفي لهذا النوع من الأدب.
فإذا كان الحاضر نتيجة لتراكمات الماضي، والمستقبل نتيجة لتراكمات الحاضر، يمكن لأدب وخيال الدستوبيا أن يفعل نفس الشيء، أي أن يقدم أفكاراً ودروساً فلسفية في شكل حدوتة، بنفس التسلسل الزمني. بداية تحمل معطيات وفرضيات ثم تراكمات تحدث بسبب هذه المعطيات، فمستقبلاً كارثياً حتمياً نتيجة لهذه التراكمات.
ما تطرحه الكثير من روايات وأفلام الدستوبيا إذاً ليس بالضرورة توقعات المؤلف لمستقبل بشري مؤكد الحدوث ومليء بالخراب، بقدر ما هو خيال ورسائل تحذير للقراء بطريقة: انتبهوا أرجوكم، إذا لم نعالج المشكلة "س"، فسنواجه مستقبلاً بسببها الكارثة "ص".
مسلسل Fallout، الذي أصدرته منصة أمازون في الآونة الأخيرة، هو نموذج لهذا النوع من الدستوبيا، وهو يقتبس أحداثه من سلسلة فيديو جيمز ناجحة بنفس الاسم بدأت في تسعينيات القرن الماضي وما تزال قيد الإصدار، تتعرض فيها البشرية مستقبلاً لكارثة نووية، وينقسم فيها الناجون إلى فرق مختلفة في نمطها المعيشي، بعضهم تحت الأرض في مخابئ كانت مجهزة انتظاراً للكارثة ومؤهلة لحياة رغدة ومثالية، وبعضهم على السطح وسط أهوال وصراعات ونقص غذاء.
المسلسل عامر على مدار 8 حلقات بكل ما لذ وطاب لعشاق التسلية، من معارك وحروب دموية، وحوش ومسوخ نتجت عن التشوه الجيني والتلوث النووي، فوضى وغياب كامل للأمن، صراعات على الموارد المتاحة، مبارزات بالمسدسات بما يلامس سينما الكاوبوي الأمريكية القديمة والطابع البصري لأفلام خمسينيات القرن الماضي، وغيرها من عناصر الإثارة والإبهار، التي تم تنفيذها بجودة تعادل أضخم أفلام هوليوود، وبميزانية إنتاج تجاوزت 150 مليون دولار.
رغم مكان الأحداث وزمانها - أمريكا في المستقبل… 7 تقاطعات بين مسلسل Fallout، وماضي المجتمعات العربية وحاضرها. رسائل التحذير التي يقدمها تخص المجتمعات العربية أكثر من غيرها كذلك
رغم ما سبق، ورغم مكان الأحداث وزمانها- أمريكا في المستقبل - يمكن القول إن Fallout يشبه الشرق الأوسط أيضاً، وإن رسائل التحذير التي يقدمها تخص المجتمعات العربية أكثر من غيرها لأن كل معطيات الرعب والهلاك ورسائل التحذير فيه، متجسدة في 7 عناصر متوفرة في ماضي المجتمعات العربية وحاضرها.
1- أجيال تتلقن أكاذيب الكبار دون مراجعات
في الأحداث، يعيش مواليد المخابئ تحت الأرض، حياتهم وفقاً لسردية مثالية ووردية يقدمها لهم الكبار بخصوص الماضي، وتدفع أجيال شابة ثمن هذه الأكاذيب، وتدريجياً تكشف أحداث المسلسل المزيد عن الحقيقة الغائبة أو المغيّبة عمداً.
هذه نقطة تجعل الأحداث أقرب ما تكون للمجتمعات العربية حيث الموروث التاريخي والديني ثابت ومقدّس ومتوارث من جيل لجيل، وغير مسموح بالتشكيك فيه أو مراجعته، رغم أنّه عامل رئيسي في تغذية صراعات المنطقة الدينية والطائفية، وتعثرها الاقتصادي والعلمي، وفق كثيرين.
2- الجزر المعزولة
مجتمع المخابئ تحت الأرض يدفع أيضاً ثمناً لانعزاله الثقافي التام عن الآخرين تحت مبررات الحماية. شيء يذكرنا بعزلة أبناء المجتمعات العربية عن الثقافات الأخرى، تحت مبررات حمايتهم من الغزو الثقافي، والتأثر بالغرب "المنحل أخلاقياً"... إلخ.
لقطة من مسلسل Fallout
3- نظرية المؤامرة
رغم كل ما تطرحه الأحداث من صراعات وكراهية بين الفصائل والفرق المختلفة، نكتشف دوماً أن هزيمة ومآسي كل فريق، سببها الرئيسي أفراده وثقافته. وهذا يذكرنا بالمجتمعات العربية التي ترد دوماً فشلها إلى المؤامرات ومخططات الأعداء، رغم أن مشاكلها انعكاس لعيوب فيها هي بالأساس.
4- اتهامات التخوين والعمالة
كل فرد في المسلسل يحاول أن يحذر الآخرين وينقذهم من مرحلة الهلاك، ويطرح حلاً أو رأياً أو تفسيراً مختلفاً عن الباقين حوله، يتعرض لاتهامات التخوين والعمالة ويتم إخراسه، بنفس طريقة المجتمعات العربية في إقصاء كل صوت مختلف.
لقطة من مسلسل Fallout
5- لا قيمة للحياة البشرية
يعرض Fallout أحداثه في عالم أساسه السلاح والقوة، حيث لا وجود يُذكر للشرطة والقانون، والقتل فعل سهل بدون عواقب، بالإضافة إلى شخصيات عديدة لا تمانع ارتكاب مجازر ومذابح بغرض حماية أفكارها وأيديولوجياتها.
الطريف أن المسلسل يستدعي لهذا الغرض أحياناً، مقاربات بصرية وزمنية من أمريكا القديمة وعالم الكاوبوي لكن ما سبق يذكرنا أكثر بحال كثير من الدول العربية التي فقدت الحد الأدنى من الاستقرار الأمني حالياً بسبب الصراعات السياسية والأهلية، وبسبب سيطرة جماعات إرهابية مثل داعش على مناطق كاملة.
6- الحلول غير الواقعية
في واحد من أكثر مقاطع Fallout غرابة، نشاهد مجموعة - يُفترض أنهم حكماء - وهُم يناقشون الطريقة المثلى للتعامل مع قتلة وسفاحين ومغتصبين أُلقي القبض عليهم، ويقترح بعض هؤلاء الحكماء، بجدية، ضرورة تدريس روايات شكسبير لهم ثم إطلاق سراحهم فوراً، باعتبار أن ذلك طريقة مضمونة وكافية لإصلاحهم والارتقاء بهم.
مسلسل Fallout، الذي أصدرته منصة أمازون نموذج لهذا النوع من الدستوبيا، وهو يقتبس أحداثه من سلسلة فيديو جيمز ناجحة بنفس الاسم بدأت في تسعينيات القرن الماضي وما تزال قيد الإصدار، تتعرض فيها البشرية مستقبلاً لكارثة نووية
يسهل ربط هذا المقطع بثقافة عالمية حالية، تتهاون مع الجريمة والعنف، وتعيد إطلاق سراح المجرمين وسط المجتمع دون ردع حقيقي، لكن هذه الدرجة من الحلول العبثية، والانفصال التام عن الواقع، تُذكر أيضاً بالمجتمعات العربية، التي اعتادت التساهل مع مشاكلها الكبرى، ويبرر فيها ملايين الإجرام والإرهاب من منطلق أن الجاني ضحية للمجتمع ولظروفه.
لقطة من مسلسل Fallout
7- الضحية تتحوّل إلى جلاد
النقطة الأبرز فلسفياً ربما، تأتي عند مشاهدة عدة شخصيات وهي تنتقل من طور "الضحية" إلى طور "الجلاد". يرصد المسلسل هذا مبكراً مع جندي يعترف أن سبب تنمره على زميله المُستجد، هو أنه تعرض لنفس التنمر سابقاً، وأن تصويب سهام التنمر على من جاء بعده، كان المنفذ الوحيد له للهروب من دائرة التنمر.
تقطع قصة Fallout مع عدة شخصيات أخرى شوطاً أكبر وأهم، عندما يظهر بعضها بطبيعة قاسية وشريرة منذ بداية المسلسل، ثم تكشف الأحداث تدريجياً ماضيها الطيب، قبل انتقالها إلى خانة القتل والشر والطغيان والدموية.
الثائر الذي يتحول إلى مستبد، نموذج يظهر في المسلسل، كما بشكل متكرر في تاريخ المنطقة العربية، عندما أنتجت عشرات الثورات التي قامت باسم الحريات والديمقراطية، مستبدين وطغاة أعادوا تكرار دورة الاستبداد والطغيان التي ثاروا ضدها.
لقطة من مسلسل Fallout
الضوء القادم من انفجار الفيديو جيمز
الحديث عن مسلسل Fallout يطول لأن ما يطرحه من أفكار قابل لتعدد القراءات، وبالتأكيد هو خطوة مهمة ونقطة تحوّل في المسيرة الإنتاجية لمنصة أمازون، بعد محاولات متوسطة النجاح سابقاً لدخول عالم الكبار، وفي مسيرة صُنّاعه أيضاً وعلى رأسهم المخرج جوناثان نولان، الشقيق الأصغر للمخرج الشهير كريستوفر نولان.
أغلب ما يطرحه مسلسل Fallout على صعيد القصة والأحداث والأفكار والشخصيات مصدرها ألعاب الفيديو جيمز الأصلية المقتبس منها.
نولان الصغير أخرج 3 حلقات من Fallout وأشرف على تنفيذ بقية الحلقات، ومن المهم هنا توضيح أنه قدم سابقاً مسلسل الخيال العلمي "Westworld" المقتبس من رواية لمايكل كريتون، وفيه ابتكر عشرات الخطوط والأفكار والشخصيات، التي لا أصل لها في الرواية، ونجح في اختلاق عالم ثري منها، حتى لو جانبه التوفيق في المواسم الأخيرة من العمل.
على النقيض، أغلب ما يطرحه مسلسل Fallout على صعيد القصة والأحداث والأفكار والشخصيات مصدرها ألعاب الفيديو جيمز الأصلية المقتبس منها، وكل الثراء الفكري والروائي والبصري مشتق منها، بالأخص منذ الجزء الثالث الصادر عام 2008، وبالتأكيد ستستعرض المواسم القادمة من المسلسل المزيد من الأفكار والرؤى.
وهذه نقطة تثبت أن الفيديو جيمز لم تعد مجرد ألعاب تسلية غرضها إمتاع اللاعبين وقياس مهاراتهم في التصويب والتسارع بل أصبحت منذ فترة طويلة وسيطاً روائياً يستحق الاحترام والتأمل والدراسة والرصد والتحليل، في المنطقة العربية تحديداً، كالأعمال الأدبية والسينمائية، وهو ما لم يحدث بعد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...