شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"مقامرة على شرف الليدي ميتسي"... وحيدون يطاردون الأمنيات ويخافونها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والحريات الشخصية

الخميس 18 أبريل 202411:53 ص

قلما أجد عملاً فنياً أو أدبياً أبطاله، جميعاً، محكومون بالوحدة. هذه قسوة درامية تتقاسمها التراجيديا والميلودراما. وفي هذه المراوحة سيحاول قراء رواية "مقامرة على شرف الليدي ميتسي" التوقف عن قراءة؛ لكي يمدّوا أيديهم إلى هؤلاء الوحيدين، يطبطبون على أرواحهم، ويؤنسونهم مؤقتاً، فهم يخافون الأمنيات أحياناً، وإن طاردوها طويلاً. هكذا رسم الكاتب المصري أحمد المرسي سيكولوجية هذا الجمع المنتمي إلى جنسيات وطبقات وخبرات وأعمار مختلفة، من مصريين وأجانب، فقراء وأغنياء، كباراً وصغاراً تنضجهم التجربة ولا تتخلى عنهم الوحدة، حتى إن فوزان الطحاوي تبدأ به الرواية ميتا وهو يناهز سن السبعين، عرفوا بموته بعد يومين. ثم نصحبه صبياً في سن الرابعة عشرة.

"مقامرة على شرف الليدي ميتسي" هي الرواية المصرية الوحيدة في القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، التي سيعلن عن الفائز بها في أبو ظبي، يوم 28 نيسان/أبريل 2024. هي مغامرة ذكية في منطقة جديدة على الأدب. ولا تكتسب أهميتها من الترشح للجائزة، ولا من الفوز لو قدِّر لها الفوز، وإن أسهم هذا الاختيار في جذب الأنظار إليها.

وعنوان الرواية لافت وخادع، يذكّر بأسماء سيدات غامرن باجتياز الصحارى العربية، وأسهمن بأنصبة متفاوتة في الصراعات، مثل الليدي هستر لوسي ستانهوب في جبل لبنان، والليدي جيرترود بيل في العراق. وفي هذه الرواية يرد اسم الليدي جوديث بلنت، كمربية للخيول، بمشاركة حصانها "شور" في السباق.

قلما أجد عملاً فنياً أو أدبياً أبطاله، جميعاً، محكومون بالوحدة. هذه قسوة درامية تتقاسمها التراجيديا والميلودراما. وفي هذه المراوحة سيحاول قراء رواية "مقامرة على شرف الليدي ميتسي" التوقف عن قراءة؛ لكي يمدّوا أيديهم إلى هؤلاء الوحيدين

لكن الليدي ميتسي خشّاب أرملة إنجليزية بائسة، تهزمها ذكرى ابنها ديفيز المتوفى منذ سنة. وباستثناء العاملين في قصرها لا تصادق أحداً، ولا تمارس نشاطاً إلا الرهان على خيول السباق، ولا تفوز. ولدت فقيرة، وتزوجها نعوم بك خشّاب، وعادا إلى مصر. وبعد موته كان عثمان، خادم زوجها، هو عينها على الدنيا، يدربها على التعامل مع الباشوات والهوانم، وعلى طريقة الكلام وارتداء الثياب. هي دائماً صامتة، ثم حظيت للمرة الأولى بإنسان ينصت إليها، الضابط السابق سليم حقي؛ فانطلق لسانها، "كإنسان اكتشف الكلام!". سليم وميتسي جمعتهما صورة فوتوغرافية عثر عليها الشيخ غالب، في فراش فوزان الطحاوي بعد موته. وفي الصورة أيضاً مرعي المصري.

بهذه الصورة الفوتوغرافية في "عتبة" الرواية يفتح أحمد المرسي قوساً، يتبعه بفيض من الأحداث، قبل قوس أخير يحيل إلى بداية الرواية بموت فوزان الطحاوي، وعثور الشيخ غالب على الصورة. وفي "خاتمة" الرواية البالغة 350 صفحة، والصادرة عن "دار دوّن" بالقاهرة، سيتضح أن الشيخ غالب هو غالب برجس الطحاوي، ابن عم فوزان المتهم منذ خمسين عاماً بالسرقة وقتل عمه برجس، قبل أن تبرّئه الصورة، وتنسف يقين غالب، "كأنما رأى كل شيء في لحظة كشف غريبة"؛ فيؤمن بأن أباه ـ الذي دهسته عجلات الترام في القاهرة وهو يطارد فوزان ـ مات "لأنه كان مكتوبا عليه أن يموت". أما فوزان فالصورة خلّدت حكايته.

غلاف رواية "مقامرة على شرف الليدي ميتسي"

في الصورة المؤرخة بعام 1920: الصبي فوزان فوق فرس بيضاء، ميتسي الإنجليزية، مرعي أفندي المصري، سليم أفندي حقي. إلى هذا التاريخ تأخذنا الرواية، باتخاذ مضمار السباق مسرحاً للأحداث، عبر سرد رشيق يستعيد بناء ذلك العصر، بامتداد عمراني أثمر تشييد البارون إمبان حي مصر الجديدة، وطرزه المعمارية، ونجومه من الباشوات والأسرة الحاكمة وحلفائها من رجال الاحتلال البريطاني، والعائشين على الهامش. وتنهض اللغة على الخطاب العمومي لتلك الفترة، ومفردات الحوار اليومي، ومعرفة دقيقة بعالم الخيول وتنظيم السباقات، وما يحيط بها من تلاعب وتحالفات، واتفاق على الفائز قبل بدء السباق. معرفة امتلكها المؤلف، واحتفظ بها تحت سطح النص، فلم تظهر كنتوء يعوق الدراما.

سليم حقي رائد في سلاح الفرسان رفض قمع متظاهرين ينادون بالاستقلال، في ثورة 1919، ففصل من الوظيفة، وحُرِم من حقوقه في المعاش. يعجز عن شراء العلاج لزوجته عايدة ابنة إقطاعي في المنصورة، فيضطر إلى بيع أثاث بيته. ينصحه سمسار الخيول "مرعي" بالرهان على فرس أصيلة، تُجلب من جزيرة الخيول التي أسسها سعود الطحاوي، في محافظة الشرقية. ويرجعان بالفرس "شمعة"، ومعها الصبي فوزان، الضائق بقهر عمه برجس. تذهب الفرس إلى سراي ميتسي، وفوزان إلى منزل سليم. تفاجأ عايدة بالصبي، فتختاره ابنا يعوضها عن عقمها. أربعة مهزمون (ميتسي، عايدة، سليم، فوزان)، وبينهم مرعي الممثل لشطارة ابن البلد الفهلوي، غير العابئ بأي قيم.

نماذج بشرية من لحم ودم، ليسوا مثاليين ولا أشرارا. سليم هو الوجه الآخر، المتحضر الأنيق الحزين الحنون، لمرعي الأفاك المستهتر. يتعاطف مرعي مع مأساة سليم، ويساعده في إيجاد علاج لعايدة. وتدعوهما الليدي ميتسي إلى حفل للبارون إمبان في فندق هليوبوليس بالاس، الأكبر في العالم آنذاك وهو الآن قصر الاتحادية. تحمس سليم؛ لعله يقابل كبيراً يعيده إلى البوليس، فسمع كلاماً عن عدم استحقاق مصر للاستقلال، وأن "هذا الشعب المتعصب سيعادي جميع المسيحيين"، فيضيق صدره وينتقد بريطانيا التي تقتل، وتنهب ثروات مصر. وتضيع فرصة العودة إلى العمل. موقف عارض ينبه مرعي، ويقلقه بعض الشيء. وفي موقف آخر سيعيد اكتشاف ذاته، ونقاء جوهره.

فبعد خسارة الفرس "شمعة"، ذهب إلى السيدة لأخذ بقية ثمن الفرس، وكانت في الكنيسة. ومن حيث لا تراه هزّه خشوعها، وسمع نحيبها. كان قد كذب في الثمن على السيدة التي تثق بالفوز، وهو يعرف أن مجلس إدارة النادي لن يسمح؛ لأنهم اختاروا فرساً أخرى للفوز. رغب في التطهر، ولا يستطيع الكذب في مكان مقدس، فاعترف للسيدة بأنه ليس أهلاً للثقة. أجابته بأنه "رجل أمين... الرب لم يخلق شيئاً شريراً بذاته، لكنه يمكن أن يُستخدم في الشر". زلزله كلامها. وقابل خليل بك، يرجوه إعطاء فرصة ثانية للفرس. أهانه الرجل، وطرده ووصفه بالكلب، فارتعد وصرخ: "إنت اللي كلب إنت والخواجات اللي معاك".

الصورة التي برأت فوزان الطحاوي بعد موته، اُلتقطت يوم قاد الفرس للفوز. نجحت مقامرة مرعي السمسار، وسليم أفندي، وفوزان البدوي، والليدي ميتسي. أمنية حلم بها الأربعة، فكيف استقبلوا الأمنية التي انتظروها، وراهنوا عليها؟ يعيدني السؤال إلى اقتباس صدّر به المؤلف روايته، للمعلم الروحي الهندي برمهنسا يوغانندا: "إن الأمنيات التي لم تتحقق هي أصل عبودية كل إنسان". أخشى أن يكون هذا اقتباس ظلم الرواية، وحكم المشاعر، ووجهها لإثبات مقولة يفترض أن تحرر الإنسان من هذه العبودية. وفي الرواية أصداء للمقولة، فيقول الرواي واصفا مهانة سليم: "إن هؤلاء الذين لم يصلوا لأمانيهم يعيشون طوال حياتهم وهم يجرُّونها وراءهم، كمن رُبطت فيه جثة".

"مقامرة على شرف الليدي ميتسي" هي الرواية المصرية الوحيدة في القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، التي سيعلن عن الفائز بها في أبو ظبي، يوم 28 نيسان/أبريل 2024. هي مغامرة ذكية في منطقة جديدة على الأدب

وتقول ميتسي لمرعي: "لو كانت الأمنيات خيولاً كنت اشتريتها". تشتاق إلى أمنيتها، لكنها تخاف أن تتحقق؛ فتكتشف أنها منقوصة، أقل مما تخيلتها. تخشى الفوز "غداً بالسباق... أحياناً تكون أمنياتنا غير المتحققة ذريعتنا للاستمرار". وتفوز؛ فيزداد حزنها على ابنها الميت. وتدعو سليم للسفر معها إلى لندن، وتقول له باكية: "فزت كي يعود ديفيز، لكنه لم يعد، إنه فوز بلا قيمة، إن الحياة كلها بلا قيمة، وكل أمنياتنا بلا قيمة". وتنهار حياة سليم؛ فيحاول الانتحار "الجزاء العادل المُرْضي لجريمة الإفراط في الأمل التي ارتكبها". وينجو من الموت، فيتساءل: "هل تستحق الأمنيات البعيدة كل تلك المخاطرة؟... هل يمكن أن تخرب أمنية حياة إنسان؟".

أحمد المرسي

يحيرني عملٌ عن الحرية يسقط في فخاخ العبودية. تحررت الفرس من الجوكي اليوناني ففازت بقيادة الصبي فوزان. الأمنية المتحققة تحرر صاحبها، وتغريه بآفاق جديدة للحرية. وقد تحققت الأمنية، ولعلهم أقل جدارة بهذا الاستحقاق، إلا اثنين: مرعي الذي سيبدأ دورة جديدة. وكبير سُيّاس الإسطبل "ونيس" الذي أسروه عبداً، وهو صغير، وعاش خادماً في "المدينة القاسية، القاتلة للحرية والأمنيات"، وساعد فوزانَ وسليم على الخروج بالفرس، خروج بمعنى السرقة. ونيس السوداني الذي ناهز الثمانين "عاد شابّاً ينشد الحرية"، وقد حرر الفرس، وبهذا القرار تحرر وهو "يرى حلمه القديم قد تحقق أمامه، أن يأخذه أحد الخيول بعيداً بعيداً، حيث أهل فارقهم منذ سنين طويلة".

لدى القادمين من ضيق القرى، إلى آفاق المدن، شوق فطري إلى الانعتاق، والمكاسب الفردانية. البعض يأتي مصادفة من دون أحلام، وتنشأ أمنياته المدينية بالرؤية، وتنضج بالمعايشة، ويختار البقاء والحرية. وإذا كانت ظروفه قاهرة فلا يتردد في تحرير غيره، كما فعل ونيس السوداني. فلماذا عاد فوزان إلى عبودية مختارة، بعد موت عمه صريعاً؟ أخشى أن يكون أحمد المرسي مارس وصاية على أبطال رواية يثقلها الحوار مرتين: الأولى بميله إلى التوسل بالعامية توسلاً يحاكي حوارات الأفلام المصرية القديمة. والثانية بزيادة الحوار أحياناً على الضرورة الفنية، فيمكن التخفف منه، من دون التأثير على الدراما، بل يزيد اللغة رشاقة، فلا يشعر القارئ بوجود المؤلف.


إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard