فتح طبيب الأعصاب وعالم النفس النمساوي، فيكتور فرانكل، آفاقاً جديدة في فهم الدوافع الإنسانية، خصوصاً أنه خاض تجربة الاعتقال في السجون النازية، وخرج منها حيّاً، وهو أمر نادر الحدوث، وقد دفعته تجربته في السجن إلى إعادة النظر مليّاً في أصول الدوافع التي تحرّك الفرد، وقد ذهب مذهباً مختلفاً في تحديد الدافع الأساس، فلئن كان مبدأ اللذة هو الدافع الرئيس عند سيغموند فرويد، مؤسّس التحليل النفسي، فإن المعنى هو الدافع الرئيس عند فرانكل، وأهمية ما ذهب إليه في هذا التحليل أنه نابع من تجربته الخاصة، وهي تجربة آلاف من البشر مثله، عانوا الاعتقال على أساس التمييز الديني، أو بسبب الرأي السياسي، أي أنها تجربة يتقاطع فيها الخاص مع العام، من منظور عالم النفس.
هرب ملايين السوريين، أسوة يشعوب أخرى، من ويلات الحرب في بلادهم، وحطّ الرحال بأكثر من مليون ونصف المليون منهم في أوروبا، معظمهم في ألمانيا، قاطرة الاقتصاد الأوروبي، وتحتّل المرتبة الرابعة عالمياً في الناتج القومي، لكنها أيضاً البلد الذي خاض حربين عالميتين، وعاش تجربة النازية، التي أصبحت علامة فارقة في تاريخ الاستبداد، ليس فقط في القرن العشرين، بل على مرّ التاريخ، وقد أصرّ الألمان في أول دستور لهم بعد الحرب، على تضمين "الكرامة" في المادة الأولى من الدستور، التي تنصّ على أنه "لا يجوز المساس بكرامة الإنسان، واحترامها وحمايتها من واجبات كافة سلطات الدولة"، وذلك من أجل وضع حدّ فاصل بين الماضي من جهة، وبين الحاضر والمستقبل من جهة ثانية.
هرب ملايين السوريين، من ويلات الحرب في بلادهم، وحطّ الرحال بأكثر من مليون ونصف المليون منهم في أوروبا، معظمهم في ألمانيا، قاطرة الاقتصاد الأوروبي، لكنها أيضاً البلد الذي خاض حربين عالميتين، وعاش تجربة النازية
الحرب، وخصوصاً الأهلية منها، تحطّ من كرامة البشر بشكل جماعي، إذ أنها تعيد تصنيف الأفراد على أساس الهويّة الإثنية والدينية والمذهبية والمناطقية، وتدفع الناس خارج مدنهم وقراهم وبيوتهم إلى المجهول، تاركين وراءهم حياة بأكملها، قد يتعذر عليهم العودة إليها لاحقاً، وهو ما يسميه فرانكل ب"الجرح الوجودي"، الذي ينجم عنه "إحباط وجودي"، يختلف بطيبعته وشدّته عن الإحباطات العابرة لأسباب مؤقتة، وتتعزّز حالة الإحباط الوجودي مع تجربة الانتقال من منظومة قيم إلى منظومة أخرى، ومن نمط حياة إلى نمط آخر، مع فارق حاسم وجذري، يتمثّل بغياب العناصر الداعمة في البيئة القديمة، عبر شبكات اجتماعية، يتشارك أفرادها إلى حدّ كبير القيم الاجتماعية والثقافية ذاتها.
يحدّد فرانكل قدرة الإنسان على مقاومة أسوأ الظروف التي يمكن أن يمرّ بها من خلال شعوره بمعنى ما، يمنح وجوده قيمة، بغضّ النظر عن قسوة الأوضاع المحيطة بها، ويقول: "لا يوجد شيء في الدنيا يمكن أن يساعد الإنسان في البقاء بفاعلية حتى في أسوأ الظروف، مثل معرفته بأنه هناك معنى في حياته"، وهذه القاعدة العامّة التي يضعها لتحديد علاقة الفاعلية بالمعنى، تصبح ذات دلالة أكثر عمقاً حين يكون الإنسان في مرحلة وسيطة، نُسفت فيها كلّ أو معظم المعاني التي كان يمتلكها، ولم يتمكّن بعد من بناء معانٍ جديدة في حياته الحالية، أو لمستقبل حياته.
يحدّد فرانكل قدرة الإنسان على مقاومة أسوأ الظروف من خلال شعوره بمعنى يمنح وجوده قيمة، وهذه القاعدة تصبح ذات دلالة أكثر عمقاً حين يكون الإنسان في مرحلة نُسفت فيها معظم المعاني التي كان يمتلكها.
اللاجئون عادة، خصوصاً من خاضوا تجربة اللجوء بعد أن تجاوزا عقدهم الثالث، ولديهم ذاكرة قوية بماضيهم، يعيشون في هذه المرحلة الفاصلة بين القديم الذي انتهى واقعياً، لكنه حاضر من خلال الذاكرة والشعور، وبين الحاضر المختلف والمستقبل غير الواضح، أي أنهم فقدوا المعاني القديمة التي كانت تربطهم بالحياة، ويجدون فعاليتهم من خلالها، وبين حياتهم الجديدة، حيث عليهم أن يناضلوا من أجل منحها معنى ما، ليتمكنوا من استعادة فعاليتهم، وغالباً، لا يكون من السهل إعادة بناء المعنى لحياة فقدت ما كانت قد اكتسبته أو أسّسته من معاني، ويمكن ملاحظة ازدياد حالات الاضطراب النفسي التي يعاني منها اللاجئون السوريون، في عموم الدول الأوروبية، والتي تتوزّع على قائمة من الأمراض، التي تكشف عنها أعراض صدمة ما بعد الحرب، وهي حالات تتشابه بين معظم اللاجئين القادمين من بلاد تشتعل فيها الحروب الأهلية.
البلاد الأوروبية المضيفة للاجئين، لديها سياسات اندماج قريبة من بعضها البعض من حيث المفاهيم المؤسّسة لها، إذ تركّز تلك السياسات على تعلّم اللغة، والعمل، والمعرفة بالقوانين، بوصفها المداخل الرئيسية لعملية الاندماج، وهذه العملية، بحدّ ذاتها، تنطلق من ضرورة دمج الوافد الجديد بالمجتمع الأصلي، من خلال مسائل ذات طابع عملي، لكن التجربة الأوروبية نفسها، لا تعطينا الكثير من التفاول بنتائجها، فقد كانت نتائج الاندماج قليلة نسبياً، قياساً إلى الإمكانات المتعدّدة التي وضعت من أجل تطبيقها، فعلى سبيل المثال لا الحصر، كشفت احتجاجات الجيل الثالث من أبناء المهاجرين العرب والأفارقة في فرنسا، في يوليو/ تموز من عام 2023، أن سياسات الاندماج الفرنسية على مدار عقود، لم تعطِ النتائج المرجوّة منها، وقد أوضحت الشعارات التي رفعها المحتجون غياب حالة المساواة الواقعية، بين المواطنين الأصليين وبين اللاجئين، على الرغم من إقرار القوانين بتلك المساواة، وكان أبرز تلك الشعارات "لا عدالة... لا سلام".
في تحديده لعلم نفس المعنى، وأيضاً للعلاج من خلال المعنى، يعدّ فرانكل هذا المذهب بأنه "بعيد عن النصائح الأخلاقية، وليس هناك حاجة لفرض أحكام قيمة على المريض"، وهذا يدفعنا للقول بأن الكثير من النصائح التي تقدّم عادة للاجئين من أجل الاندماج هي صحيحة نظرياً، لكن هذا لا يعني أن تطبيقها- بالضرورة- سيؤدي إلى نتائج فعّالة، إذ أن حاجات الإنسان النفسية، تمتّد إلى ما هو أبعد من تأمين مسلتزمات الوجود والمعيشة، أي أنها تتجاوز نطاق الغرائز الأساسية والثانوية معاً، وذات صلة وثيقة بمفهومي الهويّة والثقافة، وأكثر من ذلك، فإن إنتاج منظومة المعاني بحاجة إلى وسط، تكون فيه هذه المعاني ذات قيمة عامّة.
الكثير من النصائح التي تقدّم عادة للاجئين من أجل الاندماج هي صحيحة نظرياً، لكن هذا لا يعني أن تطبيقها- بالضرورة- سيؤدي إلى نتائج فعّالة، فحاجات الإنسان النفسية، تمتّد إلى ما هو أبعد من تأمين مسلتزمات الوجود والمعيشة
إن تركيز سياسات الاندماج على الجانب العلمي مفهوم بطبيعة الحال في مجتمعات حداثية ذات إنتاج رأسمالي، لها إيقاع سريع، لكن أيضاً ينبغي فهم حالات الفشل الكثيرة، الناجمة عن مقاومة سلبية من قبل اللاجئين، فقد تكون كلّ خطوة يكسبونها في طريق الاندماج هي خسارة لمعاني راسخة في الذاكرة والوجدان، وخسارة هذه المعاني، تعني خسارة معنى الوجود ذاته، الذي يصبح عندها بلا أية قيمة أو نكهة، وهو ما يفسر وجود حالات انتكاس لدى لاجئين قطعوا شوطاً في الاندماج، ثم توقفوا، بل أصيبوا باضطرابات نفسية، نتيجة الحيرة النفسية في عدم القدرة على تعريف ذواتهم الجديدة.
لسنا هنا بصدد إعطاء نصائح في شأن إعادة بناء سياسات الاندماج، بل للإشارة إلى أن تركيزها على الطابع العملي، وإغفال سبل إعادة تكوين المعنى لدى اللاجئين، هو وصفة مثالية لتحفيز ظهور العديد من الأمراض النفسية لديهم، جرّاء افتقادهم إلى القدرة على منح حياتهم الجديدة أي معنى، ينسجم، ولو جزئياً، مع ذاكرتهم ووجدانهم، ويجعلهم يشعرون بالمعنى الضروري المطلوب للفاعلية الإنسانية، وبالتالي تجاوز إحباطهم الوجودي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...