لولا أنني كنت وحيدة في القطار المتجه من مدينة دورتموند إلى مدينة كولن في ألمانيا، لما حققت تلك الفرصة في الحوار مع امرأة ألمانية جلست على مقربة مني.
الألمانية الشابة، التي تحمل حقيبة على ظهرها، جلست تحدثني بالألمانية أولاً، لأجيبها بإنجليزيتي الضعيفة، التي أتدبر أمري بها خارج فرنسا، وليتطور الحوار بيننا، حين تعرف الألمانية أنني فرنسية، دون الدخول في تفاصيل حياتي قبل فرنسا، أي أنني بالنسبة لها مواطنة فرنسية فقط.
أبدت السيدة سعادتها لأنها تتحدث مع فرنسية باللغة الانجليزية، وأخذت تشرح لي "انغلاق الفرنسيين اللغوي". تقول: "في باريس، لا أحد يتكلم الإنجليزية، وكأن الفرنسيين يطالبون العالم بتعلم لغتهم. اللغة الفرنسية جميلة، وأنا أحبها، ولكنني لست مضطرة لتعلمها، تخيلي أنني كلما صادفت أحداً وسألته عن معلومة بالانجليزية، تجاهلني وتركني دون جواب".
تذكرت على الفور صديقي الفرنسي المقرب لي، حين كنا نعبر في شارع ما في العاصمة باريس، واستوقفنا أحد يتحدث الإنجليزية، كان يحاول مساعدته، لكنه لا يرد إلا بالفرنسية.
سألته مرة : "لكنك تعرف الإنجليزية، لماذا لا ترد على هؤلاء الأشخاص بالانجليزية؟ فهزّ رأسه باستعلاء، وكأنه يشعر بأهمية وتفوق الفرنسية على الانجليزية!".
حاولت أن أشرح لجارتي الألمانية مفهوم الهوية الوطنية لدى الفرنسيين، وبدا لي، بحياد أعتقد أنني أمتلكه، أن الألمان أكثر انفتاحاً من الفرنسيين في مسألة اللغات، إذ أتنقل في ألمانيا، وأتسوق، وأعيش، وإن كسائحة، مستخدمة اللغة الإنجليزية، التي تكفيني تماماً، ولا تجعلني أشعر كما قالت السيدة الألمانية عن اللغة الفرنسية، بأنني مضطرة لتعلم الألمانية والتحدث بها مع الألمان.
من جهة أخرى، وخلال خمسة عشر يوماً أمضيتها في ألمانيا، متنقلة في عدة مدن، ذهبت إليها كسورية، والتقيت سوريين لم أصادف أي ألماني بينهم.
زرت العديد من البيوت، وشعرت أنني أعيش في سوريا، لولا شاخصات الطريق وأسماء المحلات بالألمانية، لاعتقدت أنني في سورية، بل حتى أن هناك شوارع كاملة، في مدينتي برلين ودورتموند اللتين توقفت فيهما أكثر من غيرهما، حيث لا نرى هناك سوى أسماء المحلات بالعربية، ونسمع العربية في الطريق، وكأننا فعلاً داخل بلد عربي، موجود داخل ألمانيا!
في ألمانيا، ومع السوريين، أنسى أنني في ألمانيا، أما حين أكون وحدي، فأنسى أنني سورية.
هناك شوارع كاملة، في مدينتي برلين ودورتموند الألمانيتين، لا ترى فيها سوى شاخصات باللغة العربية
يبدو الأمر صعب التفسير، إذ تستيقظ سوريتي بين السوريين، وتستيقظ فرنسيتي بين الأوربيين.
لهذا فإن هناك شيئاً يشبه الدوار يحدث معي، وأنا أنتقل من دائرة لأخرى، دائرة الأصدقاء أو الأهل السوريين في ألمانيا، ودائرتي وحدي بين الألمان.
سبق أن تحدثت عن ذلك في "مترو حلب" روايتي التي تصف اختلاط الأمكنة، ونسيان المكان الذي نحن فيه، لنجلب أمكنة أخرى، ونلصقها على المكان الحالي، حيث باعتقادي، يعيش السوريون اليوم هذه الحالة من اختلاط الأمكنة، والتصاق الماضي بالحاضر في ألمانيا.
تسنت لي فرصة صغيرة للثرثرة مع جارة صديق لي، حين عدت بمفردي إلى منزله، وتصادفنا أمام مدخل المبنى، كانت الجارة الألمانية تصطحب كلبها الذي اقترب مني، فاستأذنتها لأعانقه، وراحت تضحك سعيدة من مشهد الحب الذي يتمتع به عادة أصحاب الكلاب، حين يرون كلابهم تتقافز بمرح مع شخص غريب.
هذه الألفة مع الكلاب، أقصد ألفتي، جعلت جارة صديقي ترتاح وتتحدث معي بالألمانية طبعاً، لأجيبها بالإنجليزية ونتبادل بضع كلمات، عرفت من خلالها أنها تجهل تماماً اسم الشخص الذي أتجه لزيارته.
لماذا لا يندمج السوريون مع الألمان؟
كوني أعيش في فرنسا، فإن المقارنة تأتي رغماً عني بين البلدين، فأتساءل عن سبب قلة الفجوة بين الفرنسيين والأجانب، عنها لدى الألمان، إذا كان الألمان، حسب خبرتي الصغيرة، مقارنة بالفرنسيين، أقل تعصّباً للغتهم؟
قد يكون السبب الرئيسي لاندماج الأجانب الأسرع في فرنسا، هو علاقة فرنسا التاريخية بالاستعمار، وكونها في نفس الوقت، مركزاً لاستقبال الأجانب، وخاصة في الدول التي استعمرتها. لذلك فالجالية المغاربية "المغرب وتونس والجزائر" منتشرة في أغلب المدن الفرنسية، الأمر الذي طبّع صورة الغريب لدى الفرنسي، فائتلف معها.
حتى أن الفرنسيين أنفسهم، اعتادوا الذهاب إلى تلك البلاد التي استعمرتها بلادهم واندمجوا فيها، وتآلفوا معها، لنتذكر مثلاً رواية " الغريب" لكامو، التي تجري أحداثها في الجزائر.
قد يكون لون البشرة والملامح الأوروبية النمطية تقريباً لدى الألمان، عائقاً أمام ذوبان الغريب فيها.
قد يكون لون البشرة أيضاً والملامح الأوروبية النمطية تقريباً لدى الألمان، عائقاً أمام ذوبان الغريب، ففي فرنسا، لا يتمتع الفرنسي بهذه الملامح الجاهزة، كون هذا البلد قريباً من المتوسط، ويتشابه مواطنوه مع مواطني الشرق الأوسط إلى حد ما.
بشكل عام، فإن الغريب في ألمانيا واضح، بينما هو ذائب في فرنسا، لهذا أعتقد أن هناك أحاسيس مسبقة لدى الأجنبي في ألمانيا، والألماني ذاته، في التعامل بكودات مختلفة، في اللقاءات الأولى، الأمر الذي لا نشعر به في فرنسا، حيث يُعامل الأجنبي على أنه فرنسي، حتى يتكلم، فنعرف أنه لا يجيد الفرنسية، إذن هو أجنبي.
تبقى هذه أفكاراً عامة وخارجية، لا تؤثر كثيراً على فكرة الاندماج العميقة، والتي على ما يبدو، لا تشتغل عليها الحكومة الألمانية بالطريقة الصحيحة، والتي ربما فوجئت بعدد اللاجئين المباغت على أرضها، ولم تخطط بدقة لموضوع إدماجهم بالعمل واللغة والثقافة والإحساس بالانتماء لهذا البلد.
لهذا فإن العزلة التي يتصف بها السوريون خاصة في ألمانيا، هي نتاج نظام ثقافي في ألمانيا. نظام غير مشتغِل على فكرة إدماج الآخر داخل الثقافة الألمانية.
لست مطلعة كثيراً على نظام الإدماج في ألمانيا، ولكن من خلال حواراتي مع السوريين هناك، ومقارنتي للوضع المماثل في فرنسا، وكذلك نتيجة حواراتي مع أصدقاء في السويد، أعتقد أن ألمانيا لا تقوم بتهيئة اللاجئين معرفياً وتفسير وشرح الأشياء الجديدة في هذا البلد.
يبدو أن العزلة التي يتصف بها السوريون خاصة في ألمانيا، هي نتاج نظام ثقافي في ألمانيا. نظام غير مشتغِل على فكرة إدماج الآخر داخل الثقافة الألمانية
رغم أن المقارنة قد تكون مجحفة بحق ألمانيا، التي استقبلت أعداداً كبيرة من اللاجئين السوريين، لكن الصدامات الثقافية والاجتماعية التي حدثت فيها، نتيجة ما يمكن وصفه بصدمة الحضارة الأوروبية، والتي أخذت بعضها أشكالاً جنائية، عبر قصص الاغتصاب والقتل، لم نسمع بها في فرنسا، أو ربما حصلت فيها من قبل، لأنه، كما ذُكر أعلاه، لدى فرنسا تاريخ استعماري قديم، يجعلها تفهم العلاقة مع الآخر، وتُدخلها في نظامها الثقافي والسياسي والاجتماعي أيضاً.
قد يكون أهم سبب لانصراف السوريين عن المجتمع الألماني، وإحاطة أنفسهم بعاداتهم وطعامهم ولغتهم، هو إحساسهم بأنهم هنا لفترة مؤقتة.
تبقى قضية الاندماج في نهاية المطاف عملية متبادلة، يقوم بها المواطن أو الوافد إلى البلد الجديد، وكذلك تشتغل عليها حكومة هذا البلد، ولكن قد يكون أهم سبب لانصراف السوريين عن المجتمع الألماني، وإحاطة أنفسهم بعاداتهم السابقة وعائلاتهم وعلاقاتهم ونظام طعامهم ولغتهم، هو أنه في عمق هؤلاء السوريين، إحساس بأنهم هنا بشكل مؤقت.
فالاندماج يحتاج لدافع أساسي هو الرغبة بالبقاء، أو الإيمان بالبقاء، الذي يبدو ليس متوفراً تماماً لدى السوريين، الذين لا تزال حياتهم تنتظرهم هناك، في سوريا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 19 ساعةأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يومينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...