شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
لم يكن هذا اليوم عادياً للاجئة فلسطينية في سوريا، واليوم لاجئة فلسطينية سورية في ألمانيا

لم يكن هذا اليوم عادياً للاجئة فلسطينية في سوريا، واليوم لاجئة فلسطينية سورية في ألمانيا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الأحد 15 مايو 202201:05 م

"هذا المكان يدعو للبكاء"، تقول بصوت خافت. تحدّثُ نفسها وهي تجلس عند موقف الحافلة. تنظر إلى وجوه المارّة أمام مبنى مديرية الأجانب في مدينة برلين. الساعة تجاوزت العاشرة بقليل، والشمس قوية جداً، تكادُ تُذيب كل الأفكار التي لم تسمح لها بالنوم في الليلة الماضية.   تفقدت المفاتيح مرة، مرتين، ثلاثاً، والأوراق الجديدة، قبل أن تبدأ أفكارها بلعبة "ماذا لو؟" القذرة. فكّرت في أنه ماذا لو أن الحقيبة ضاعت أو أن أحداً ما سرقها على الرغم من أنها تعلم جيداً كم هي حريصة على كل ما تملك. ولكنها خافت في تلك اللحظة، خافت من أن تخسر كل شيء فجأة، وبعد كل تلك السنين من الانتظار.   

تذكرت كل تلك الحواجز التي وضعت قلبها بين أوراقها فيها...“من فلسطين؟ وكل يوم بتروحي وبترجعي عَ سوريا؟".

ماذا لو أن زجاجة الماء الفارغة في الحقيبة انتقمت منها وأخرجت ما تبقّى من قطرات في جوفها على الأوراق؟  ماذا لو أنّ طائراً كبيراً بحجم طائرة أطلق العنان لمثانته في السماء؟ ستغرق الحقيبة حتماً في كمّ البراز الأخضر. جاء صوت الحافلة ليوقظها من أفكارها. تنهدت وصعدت بهدوء وكأنه يوم عادي.  ولكن، هذا اليوم لم يكن عادياً بالنسبة لها، كلاجئة فلسطينية في سوريا. والآن، كلاجئة فلسطينية سورية في ألمانيا، "لاجئة قد الدنيا يعني". لا يمكن أن تكون هذه الأيام هي أيام مماثلة لأخرياتها.   وكحال أي طالب لجوء، كانت تخاف أن تتأخر على موعدها في مديرية الأجانب. لهذا، كان عليها أن تبقى مستيقظة كل الليل، وهي تفكر بأسرع طريقة للوصول إلى المكان، مع وضع جميع الاحتمالات. فعليها أن تكون هناك في الساعة الثامنة وأربعين دقيقة بالضبط. في هذا الوقت المحدد، يجب أن تكون في غرفة الانتظار.  عندما وصلت إلى المكان، كانت الساعة تجاوزت الثامنة بقليل. نظرت إلى ورقة البريد المرسلة إليها قبل ثلاثة أشهر من الموعد، حتى حفظت كل كلمة مكتوبة باللغة الألمانية. أهم ما جاء في الورقة أنها يجب أن تكون هناك في الوقت المحدد وتنتظر رقمها على شاشة ما في غرفة كبيرة في مبنى يسمى بحرف "أ". وعندما يظهر الرقم، يظهر معه اسم الغرفة التي ستستلم منها أوراقها الجديدة.   

"هل تذكرين الرقم المكتوب على الكرت الأزرق الذي كان يحمله جدك عندما وصل إلى سوريا؟" سألها الموظف. كان عمر جدها ثماني سنوات عندما جاء مع أبيه وأمه إلى سوريا. هل يجب عليها أن تحفظ ذاك الرقم؟

فكّرت في أنه مجرد رقم بالنسبة للبعض، ولكنه اليوم بالذات وفي هذا المكان بالذات، هذا الرقم ليس كباقي الأرقام. إنه رقم مميز سيلاحقها حتى القبر، كما لاحق الكثير من قبلها منذ عام 1948.   تذكرت كل تلك المقابلات التي أجرتها والتي سئُلت فيها عن موطنها وعن أسماء القرى والمدن وأسماء الباعة والكثير من التواريخ. تذكرت كل تلك المطارات التي اضطرت أن تعبر من خلالها وتقف في الطوابير لتُسأل عن بلدها الأصلي غير الواضح في وثيقة السفر المؤقتة.  تذكرت الموافقات الأمنية الكثيرة والأحلام التائهة بين الحدود.  

تذكرت كل تلك الحواجز التي وضعت قلبها بين أوراقها فيها...“من فلسطين؟ وكل يوم بتروحي وبترجعي عَ سوريا؟".

لماذا كان عليها أن تحمل كل تلك الأسئلة في حقيبتها؟ لماذا كان مهماً بالنسبة لها أن تشرح ذاك اليوم لصديقتها الألمانية عن طبق الحمص بلحمة أول يوم العيد؟ وكيف كانت جدتها تخبز فطائر السبانخ بـ "تتبيلة" خاصة لا يعرفها إلا أهل البلد.  تذكرت المقابلة التي استمرت أربع ساعات متواصلة قبل حصولها على الإقامة.   "هل تذكرين الرقم المكتوب على الكرت الأزرق الذي كان يحمله جدك عندما وصل إلى سوريا؟" سألها الموظف. كان عمر جدها ثماني سنوات عندما جاء مع أبيه وأمه إلى سوريا. هل يجب عليها أن تحفظ ذاك الرقم؟   عمّ الصمت في المكان. لم يستطع الإجابة على سؤالها، نظر إلى الأوراق كأي روبوت، وتابع: "يجب علينا التواصل مع هيئة الأمم المتحدة إذاً لنتأكد من هويتك. والآن يجب أن تكتبي لي هذه المعلومات حتى نبدأ بالتحقيق في جذور العائلة".  نظرت إليه، ثم إلى الورقة في يديها، اسم الجد وأبو الجد، وأم الجد، والأولاد، والأحفاد. بدأت بالكتابة وهي تعود بذاكرتها إلى هذا اليوم كما تصوره جدها تماماً.  

كان الكل يركض، البعض يختبئ، والبعض يحاول النجاة، الموت كان قريباً جداً.  

جدها أنيس الذي كان يبلغ من العمر ثمانية أعوام من مواليد شفا عمرو، لم يكن ليعلم - عندما خرج عام 1948 باحثاً عن دلّة حمارته الضائعة - أنه لن يرى بيته مرة أخرى.  كانت الشمس قوية. كلّ شيء بدا صحراوياً وباهتاً فجأة، الأرض، البيت الكبير، الهدوء القاتل، هكذا وصف لها المشهد.  كان الكل يركض، البعض يختبئ، والبعض يحاول النجاة، الموت كان قريباً جداً.  بينما كنت أحاول فهم ما يحصل، كان إخوتي يركضون مسرعين إلى القطار المتّجه إلى المجهول. وفجأة، انتبهت إلى عدم وجود دلّة حمارتي الصغيرة التي كانت تنقلني بين عبلين وشفا عمرو. لم أكن أجيد الركض كباقي الأولاد، ولكن بسببها كنت الأسرع. تحملني على ظهرها، أعطيها بعض الماء والقليل من القش وأغني لها كل الوقت.  كيف يمكن أن أركب القطار الملعون دون أن تكون معي؟  لقد وعدتها أننا لن نفترق، وأن هؤلاء العساكر الذين انتشروا في الحقول لن يفرقوا بيننا. كيف يمكن لي الآن أن أتركها وأذهب؟  نظرت إليّ أمي حينذاك وعلمت دون أن أتفوه بكلمة أن عينيّ تبحثان عن دلة.   قالت لي إنها ليست سوى بضعة أيام حتى تهدأ الأحوال وسنعود ونجد دلّة، ولكنّي لم أصدق وقتذاك.   وبسرعة البرق بدأت البحث عنها، في كل مكان، تحت شجرة البرتقال الكبيرة التي تنام تحتها عادةً، في البقعة الخالية من الشمس قرب البيت، في فناء دارنا، ولكنها لم تكن هناك.  شدتني أمي من يدي. كانت أمي امرأة قوية ككل النساء الفلاحات. كنت أقسم لأصدقائي أنني رأيتها مرة في الليل تحمل حصاناً على ظهرها، ولكنهم لم يصدقوني. لقد كنت بخفة ريشة بين يديها. لم أجد نفسي إلا في القطار.  نظرت إلى كل شيء حولي. لم أجد ما يبعث على الاطمئنان، بكاء الأطفال، الرائحة النتنة التي تفوح من العربة، ونظرة أبي.  "جبت معي شوية زيت زيتون، خايفة يرجعونا قبل ما يخلصوا وهيك بدي اضطر أحملها بالروحة وبالرجعة." قالت أمي.  أما أبي فنظر إليها طويلاً دون أن يحرك ساكناً، لن أنسى ذاك المشهد ما حييت.  

أذكر أني جلست هناك على تلة ملآى بالخيم، أترقب السماء وأفكر في كل ما حصل. لم يحق لنا حتى البكاء. لم يتركوا لنا أطلالاً لنبكي عليها. وظيفتنا الوحيدة كانت، ولا تزال، الانتظار فحسب

"المفاتيح كلها جبتنها، كامل الله يخليك اتأكد مو هاي كل المفاتيح؟ ما لحقت أجيب أواعي للولاد، قالولنا هناك بيعطونا أواعي جداد. خلي الأواعي لنرجع بلاش نحملهم مرتين." تتابع أمي.  ينظر أبي إلى الأفق غير الموجود من ثقب باب القطار. يحاول الهدوء، يبكي، ينظر إلينا ويجيبها: "منيح إنك جبتي المفاتيح"  كان الطريق طويلاً وشاقاً. كان موحشاً ومخيفاً. لم يكن طريقاً عادياً. كان خطّاً أسود في تاريخ العالم، أو لربما في تاريخ يخصنا وحدنا، نحن المطرودين من الرحمة، المنفيين إلى الحدود.  وصلنا إلى أرض عارية. نزلنا كالخراف الواحد تلو الآخر. مع أرقام زرقاء. لم أعلم أن هذا الرقم وهذه الهوية سيرافقانني حتى الممات.  أذكر أني جلست هناك على تلة ملآى بالخيم، أترقب السماء وأفكر في كل ما حصل. لم يحق لنا حتى البكاء. لم يتركوا لنا أطلالاً لنبكي عليها. وظيفتنا الوحيدة كانت، ولا تزال، الانتظار فحسب.   

خرجت من المكان وبحوزتها وثيقتا سفر. جلست عند موقف الباص تبكي، لأن الحافلة تأخرت. تبكي لأن الاحتمالات كثيرة، تبكي لأن التاريخ مكرر، تبكي بعد كل هذا الانتظار. تبكي هذا اليوم لأن الفلسطيني يبكي

بكيت الدلّة، بكيت محصول البرتقال، بكيت أخوتي الذين ضاع أغلبهم في عربات القطار. وبخني أبي: "الفلسطيني لا يبكي".  يظهر الرقم على شاشة ضوئية لمدة بضع ثوان. تركض إلى الغرفة التي تحمل الرقم 33.  لطالما كانت تكره الأرقام المكررة، والأحلام المكررة، والأخطاء المكررة أيضاً. عاهدت نفسها منذ زمن ليس ببعيد ألا تعيد تكرار الأشياء، هكذا تتمتع بالمفاجأة بكل مصيبة جديدة.   قالت لها الموظفة: "وأخيراً هذه وثيقة السفر الجديدة والهوية، الآن بإمكانك العمل في ألمانيا وأن..."  وقبل أن تكمل قالت لها: "انا أعمل هنا منذ خمس سنوات"  هل هناك شيء آخر يجب عليّ فعله؟   "نعم"، قالت الموظفة. "أريد وثيقة السفر القديمة"  أجابت: "أريد أن أحتفظ بها".   استغربت الموظفة رغبة شخص ما بالاحتفاظ بوثيقة سفر غير صالحة لم تعلم أنها، وكأي فلسطيني، لديها عقدة وثائق السفر. خرجت من المكان وبحوزتها وثيقتا سفر. جلست عند موقف الباص تبكي، لأن الحافلة تأخرت. تبكي لأن الاحتمالات كثيرة، تبكي لأن التاريخ مكرر، تبكي بعد كل هذا الانتظار. تبكي هذا اليوم لأن الفلسطيني يبكي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image