تعيش شريحة من النساء السوريات، لا سيّما في جنوب البلاد، ظروفاً اجتماعية واقتصادية تفرض عليهن الزواج عدة مرات ليس رغبةً منهن في الزواج والسكن، بل بحثاً عن معيل أو استقرار مادي ولو مؤقتاً، أحياناً في سنٍ متقدمة كما حدث في حالة أم وديع (74 عاماً) التي تزوجت آخر زيجاتها بعمر الـ64 قبل أن تنتهي الزيجة بعد عامين عائدةً إلى منزل ابنها.
تقول أم وديع لرصيف22: "في زيجتي الأولى، أنجبت بنتين وولدين، وبعد 17 عاماً أحب زوجي شابةً فطلبتُ الطلاق وعدت إلى منزل إخوتي تاركةً أولادي لأبيهم إذ لم أكن قادرةً على الإنفاق عليهم. بعد فترة، تزوجت رجلاً ثانياً خدعني بأنه سجّل باسمي قطعة أرض صغيرة، وحين اكتشفت الخديعة طلبتُ الطلاق. وعدت للزواج مرة ثالثة في عمر الستين وتطلّقت بعد ظروف مزعجة عشتها مع زوجي، وأيضاً عدت لأعيش في غرفة عند إخوتي مدة 10 سنوات".
تنوه أم وديع إلى أن منزل الأسرة كان غير صالح للسكن وليست لديها قدرة على ترميمه وكانت قد حصلت على حصتها فيه، لذا كانت تعيش لدى إخوتها، واضطرت للزواج الرابع من "ثمانيني عشت معه عامين كممرضة" قبل أن تعود بعد وفاته إلى منزل ابنها المحدود الدخل.
ضغوط الأهل وقيود المجتمع
تأسف أم وديع أن هذه الزيجات الأربع لم تكفل لها الحصول على منزل - مثل نساء كثيرات في المجتمع السوري - بسبب فكرة أن الزوجة التي ليس لديها أولاد تغادر منزل الزوجية وتعود لأهلها بطريقة تشبه الطرد. لم تحصل السيدة السبعينية على أي قدر من التعليم، وعملت لسنوات في معمل أحذية قبل أن تتعرض لإصابة في العمود الفقري، أجبرتها على الاستقالة ولم يبق لها سوى راتب إصابة العمل (لا يتجاوز 40 ألف ليرة، نحو 15 دولاراً أمريكياً) وهو مبلغ لا يكفي لشراء علبة دواء، ما يجعلها تقريباً بلا مصدر دخل، وهذا ما فاقم من ظروف معيشتها."في كل يوم، يزداد عدد النساء اللواتي 'يقررن مرغمات' الزواج كحلٍ في مواجهة الفقر أو الوحدة أو كبديلٍ عن القيام بأعمالٍ يراها المجتمع غير لائقة"... رصيف22 يوثّق قصص نساء أُجبرن على الزواج مراراً وتكراراً، أحياناً في سن متقدمة، للعثور على مسكن ومعيل. ليس زواج متعة بل زواج "خدمات" أو "صفقة"تخبرنا أم وديع بأنها وإن عاشت زوجة مع زوجها الأول، فإنّها في الزيجات الثلاث الأخرى كانت "ممرضة" أو "أنيسة" للخدمة والطبخ والرعاية حتّى مع تقدمها في العمر.
منال (47 عاماً)، التي أنجبت ابنها الأول بعمر الـ16، عانت نحو تسع سنوات مع زوج عنّفها وضربها حتّى أنها في إحدى المرات كادت تخسر حياتها لولا تدخل القدر. تقول لرصيف22: "أنجبت بنتاً وولداً، وعشت مع زوجي الأول ثماني سنوات حاولت فيها تحمل الضرب والإهانة، وبحكم أنه من الأقارب لم أتمكن من اتخاذ قرار الطلاق إلى أن أُدخلت المشفى بين الحياة والموت بسبب ضربه لي، وطبعاً لم ينل أي عقاب لإخفاء التقرير الطبي وحصلت فقط على الطلاق".
عادت منال إلى منزل أهلها واضطرت إلى ترك ولديها مع والدهما - كما تجري العادة إذ لا يقبل أهل الزوجة التكفل بأبناء "رجل آخر" - فتكفّل بها أهلها بفضل وضعهم المادي الجيد. لكن عروض الزواج انهمرت عليها، وتفاعل معها الأهل، كما تخبرنا مبرزةً أنها كانت مضطرة إلى اتخاذ قرار الزواج الثاني تحت ضغوط موافقة الأهل وغياب معيل لها وافتقارها لأي مصدر دخل أو منزل مستقل. لكن الزوج الثاني مرض بعد 10 سنوات، وتوفي لتعود بعد أسبوع واحد إلى منزل الأهل.
تحكي: "طردتني عائلة زوجي، فأنا لم أنجب أولاداً، وزوجي لم يسجل لي حصة بالمنزل. لكن عندما لجأت إلى القضاء، اكتشفت أن لي حقوقاً في المؤجل وراتبه ولم أكن أعلم بذلك". بعد هذه التجربة، حاولت منال أن تجدد علاقتها بطفليّها اللذين أُجبِرت على التخلي عنهما، لتفاجأ بأن ابنتها التي تركتها بعمر الثلاث سنوات تناديها "عمتي".
حصلت منال على عمل في مشغل خياطة، وبدأت العمل للحصول على دخل يكفيها لبدء حياة "كريمة" في منزل أهلها الذي تمسكت بحقها في البقاء به، والاستقرار كي لا تضطر إلى زيجة جديدة لا تكفل لها أي حقوق.
لينا (32 عاماً)، وهي خريجة كلية الآداب بجامعة دمشق، عانت أيضاً من آثار زواجها الأول، بعمر 18 عاماً، من رجل مقتدر مالياً في حين كانت هي من أسرة فقيرة، لذا رضيت بالسكن مع والدته بينما تابعت دراستها. لكن الخلاف الدائم مع والدته، ومعايرتها بفقر أهلها، وشخصية زوجها الضعيفة وبخله، أدت إلى الطلاق. أخذت لينا أولادها الثلاثة معها لكنها لم تكن لتتمكن من الإنفاق عليهم، مع تخلي والدهم عنهم بعد الطلاق، فكان الزواج الثاني من رجل أكبر منها بـ20 عاماً لكن ثري.
تقول لرصيف22: "بعد ستة أشهر، بدأ زوجي (الثاني) تعنيفي بالكلام الجارح وتهديدي بمنعي من الخروج من المنزل وحرماني من رؤية أولادي بسبب الغيرة. اكتشفت أن خياري كان خاطئاً وطلبت الطلاق وأنهيت زيجة اخترتها تحت ضغط الحاجة. لو توفّر لي منزل مناسب ودخل يكفينا لبقيت مع أولادي وربيتهم دون الزواج من رجل آخر"، لافتةً إلى أن أهلها ليست لديهم القدرة المالية، ولا يكفي راتبها، لتأمين متطلباتهم.
معضلة حقيقية أمام تمكين المرأة
فكرة الزواج من رجل كبير بالسن، التي تُطرح على النساء هي انعكاس لأن النساء في الغالب هن الحلقة الأضعف حتّى أن المرأة ترضخ وتقبل الفكرة طلباً لمعيل تستقر معه في منزل ويتكفل بها مالياً مقابل قيامها بوظيفة الزوجة أو بخدمات الرعاية. مع أنها تعلم أن هذا الأمر ليس مضموناً وقد تنتهي الزيجة - سواء بالطلاق أو وفاة الزوج - بوضع أكثر بؤساً لها.تأسف أم وديع لأن زيجاتها الأربعة لم تكفل لها الحصول على منزل - مثل نساء كثيرات في المجتمع السوري - بسبب فكرة أن الزوجة التي ليس لديها أولاد تغادر منزل الزوجية وتعود لأهلها بطريقة أشبه بالطرد. تخبرنا بأنها، وإن عاشت زوجة في المرة الأولى، فإنّها في الزيجات الثلاث الأخرى كانت "ممرضة" أو "أنيسة" للخدمة والطبخ والرعاية حتّى مع تخطيها الستين من عمرهاعندما تتوفى زوجة رجل، خاصة لو كان مسنّاً، تبدأ رحلة البحث له عن زوجة لا تكون بعمر الإنجاب، لتقوم بدور الزوجة البديلة لكن في مهام محددة - هي خدمته ورعايته والحفاظ وفق المنطق الدارج على بيته مفتوحاً في استقبال الزوار - وبأدنى قدر من الحقوق التي تقتصر على ما يُطلق عليه "ملبوس البدن" ومبلغ من المال كمهر (قد لا يتجاوز 200 إلى 500 ألف ليرة سورية - بين 80 و200 دولار أمريكي).
وفي حال كان الزوج ثرياً، قد تحصل الزوجة على إسورة من الذهب ومؤخر (نسبة من راتبه التقاعدي في حال كان موظفاً سابقاً). لكن أياً كانت الشروط والاتفاقات، فلا تشمل حقها بمنزل يكفل لها حياة كريمة ومستقلة.
ترى الأخصائية النفسية والناشطة الاجتماعية، خلود هنيدي، أن تنوع أشكال التمييز ضد النساء في المجتمع السوري، تأخذ في بعض الأحيان أشكالاً مباشرة وصارخة بينما تتغلّف في أحيان أخرى بثوب "الطبيعية". من أبرز الأمثلة على هذا التمييز هو إجبار النساء - سواء كان الإجبار صريحاً أو مغلّفاً - على الزواج أو الزواج المتكرر برجال مسنين أو مرضى كواحدة من طرق تأمين سبل العيش. تؤكد خلود أنه "في كل يوم، يزداد عدد النساء اللواتي 'يقررن مرغمات' الزواج كحلٍ في مواجهة الفقر أو الوحدة أو كبديلٍ عن القيام بأعمالٍ يراها المجتمع غير لائقة".
وتقول لرصيف22: "نحن أمام معضلة حقيقية إذ نجد أنفسنا كمدافعين/ات عن قضايا النساء في حالة أقرب إلى العجز عن الدعوة إلى الوقوف في وجه هذه الظاهرة المقبولة اجتماعياً ودينياً، تُعتبر في نظر الكثيرين والكثيرات أنها تنقل المرأة من تحكّم الآباء والأخوة الذكور مجتمعين إلى تحكّمٍ أقل سطوة بيد شخص واحد قد لا يمتلك القوة والهمّة للتضييق عليها بسبب كبر سنه أو مرضه أو عجزه".وتستطرد: "الخطوة باتجاه زواج من هذا النوع، تعد في نظر هذه النسوة، صفقة قد تساعدهن على مواجهة مرارة الحياة وإن كان لفترة قصيرة . في الوقت الذي يجد فيه المسن وأولاده أو أقاربه في هذه الزوجة ممرضة أوخادمة تقدم رعايتها 'بالحلال' وتحصل بعدها على تعويض 'نهاية الخدمة'. هذا التعويض الذي يطمع فيه من حولها ويحاولون سلبها إياه ليضيفوا لحياتها خسارة جديدة".
وفق رؤية الناشطة النسوية، نجوى الطويل، فإن العنف الاقتصادي من أخطر أنواع العنف التي تتعرض لها النساء في سوريا لأنه "بذرة كفيلة بخلق أشكال متنوعة من العنف الممارس ضد النساء بل وتجعلها متقبِّلة للعنف الذي سيمارس ضدها".
تشرح نجوى: "كثير من النساء والفتيات يتزوجن لمجرد 'الستر' من 'الحاجة' (أي الاحتياج المادي). هذا الحال ليس فقط للفتيات الصغيرات اللواتي يتزوجن لأول مرة، وإنما أيضاً النساء في سن متقدمة لأن رعاية المرأة للأسرة عمل غير مدفوع، وربما الهدف من ذلك هو دفعها باستمرار إلى الزواج باعتباره الحل الوحيد المتاح أمامها لتأمين مسكن ومورد دخل ثابت".
"نحن أمام معضلة حقيقية إذ نجد أنفسنا كمدافعين/ات عن قضايا النساء في حالة أقرب إلى العجز عن الدعوة إلى الوقوف في وجه هذه الظاهرة المقبولة اجتماعياً ودينياً، سيّما أنها تُعتبر في نظر الكثيرين والكثيرات أنها تنقل المرأة من تحكّم الآباء والأخوة الذكور مجتمعين إلى تحكّمٍ أقل سطوة بيد شخص واحد قد لا يمتلك القوة والهمّة للتضييق عليها بسبب كبر سنه أو مرضه أو عجزه"
القانون مسؤول أيضاً
"القانون مسؤول عن هذا الحيف"، تقول المحامية وفاء العشعوش، التي تؤكد لرصيف22 أن الشريحة المتضررة من هذه الظاهرة من النساء ستستمر في الاتساع ولن تتقلص "ما دام القانون عاجزاً" عن ضمان حقوق النساء بداية من حرمان النساء من الميراث ومن الحق في العمل وفي استقلالية الذمة المالية، مروراً بعدم ضمان حقوق الزوجة، وصولاً إلى حرمان المطلقة والأرملة من حقوق عادلة.تضرب وفاء مثالاً على ذلك بالمادة 307 من قانون الأحوال الشخصية السوري والخاصة بالدروز، والتي تجعل وصية الأب نافذة وهي في الغالب لا تقر بتوريث النساء عدا غرفة بالية. وتضيف: "الزواج، كما يقره قانون الأحوال الشخصية السوري المغيِّب لحقوق المرأة، يجعلها عاجزة عن المطالبة بسكن كونه لا يقر ذلك، ويفرض عليها سلطة ذكورية تقيدها - إذا رغبت في الانفصال لأسباب موجعة - فإن لدى الرجل فرص كبيرة للتهرب من النفقة وحتى الضغط عليها للتنازل عن حقوقها وعن الأولاد مقابل حريتها".
"حتّى بعض الفقرات التي تكفل للزوجة بعض الحقوق البسيطة كحقها في الراتب والمؤخر، فإنّ كثيرات من النساء لا يمتلكن الوعي الكافي لمناقشتها والمطالبة بها لدرجة أن عدداً كبيراً منهن يتعرصن للطلاق التعسفي ولا يتجهن للمحكمة للمطالبة بحقوقهن، وهذه حالة ترتبط برؤية المجتمع ونظرته القاصرة والعيب والخوف من نظرة الناس" تختم المحامية السورية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...