"أصبحت وشقيقاتي عالةً على أبينا، ولن أتردد في الزواج"؛ بهذه العبارة بدأ حديث رهف (26 عاماً)، وهي شابة سورية من منطقة الصاخور في مدينة حلب، وطالبة جامعية لم تسمح لها ظروف عائلتها الاقتصادية بإكمال مسيرتها التعليمية. تقول: "جاءنا اتصال هاتفي من إحدى قريباتنا، وهي متزوجة من رجل عراقي، تسأل فيه والدي عن رأيه في حال تقدّم لنا رجل ميسور الحال يريد الزواج بفتاة سورية. لم يعارض والدي الفكرة. وافق ثم وقع الاختيار عليَّ، فقبلت".
تكمل الشابة رهف، حديثها قائلةً: "بعد فترة، تقدّم الشاب لوالديّ، وتزوجنا 'بعقد سيّد خارج المحكمة'، وهو عقد زواج يبرمه رجال الدين لكنّ المحاكم الشرعية العراقية لا تعترف به". تقول رهف التي رفضت الإفصاح عن كنيتها: "اشترى لي الشاب بعض الثياب، وأعطى والدي مغلفاً من المال فيه خمسمئة دولار أمريكي".
تضيف: "سارت الأمور بشكل جيد، وبغاية المثالية. وعدني بأننا سنعيش في مدينة أربيل، وسيكون لنا منزل مستقل عن عائلته، وأنه سيكمل لي أوراق الزواج في العراق"، ثم أقام لها حفل زفاف عائلي بسيط في حلب، قبل أن تنتقل معه إلى أربيل.
تشير رهف إلى أنّ الرجل الميسور الذي أصبح زوجها، تملّص من وعوده، ونقلها إلى مدينة بغداد بدلاً من أربيل، وقطنت في منزل أهله الكبير الواقع في منطقة الدورة. تصف المنزل بأنه كبير جداً ويشتمل على طابقين، يعيش إخوة زوجها في الطابق العلوي، أما الطابق السفلي فكان من نصيبها.
شهادة رهف حول ما حصل معها في العراق
انضمت رهف إلى العائلة، وأصبحت فرداً من أفرادها، كما تمّت إضافة اسمها إلى جدول تنظيف المنزل المتّبع من قبل والدة زوجها. تقول إنها قبل أن تأتي إلى العائلة كانت أعمال المنزل مقسّمةً على زوجات الأبناء، ومنذ وصولها بات الجميع يستغل وجودها ويترك على عاتقها مهمة التنظيف بالكامل.
حين اكتشفت أنها حامل
مرّت أشهر قليلة على الزواج، وتأقلمت رهف على العيش في بغداد، ونزعت من بالها موضوع الانتقال إلى منزلها المستقل الذي وعدها به زوجها. حملت، وبدأ مشوار المعاناة بين "الكنّة والحماة"، التي بدورها باتت تذكّرها دائماً بأهمية هذا الطفل للعائلة، وأنه أهم منها كونه من ذريتهم. حرصت حماتها على صحة الطفل أكثر من صحة والدته، وبدأت تجبرها على تناول وجبات كبيرة من الطعام، وأكثر مما تتحمل معدتها، ظناً منها بأنّ ذلك سيكون مفيداً للطفل.
ذات ليلةٍ من ليالي الشتاء الباردة، شعرت رهف بالملل، وقررت الخروج من غرفتها إلى الحديقة، فوجدت زوجها يسهر مع امرأة أخرى، لتكتشف أنها زوجته الأولى ولديه منها خمس بنات. تقول: "لم أستطع تمالك نفسي، بدأت بالصراخ، وليسكتني انهال عليَّ بالضرب هو وزوجته". طوال تلك المدة، اعتقدت رهف بأنّها الزوجة الأولى، ولطالما كانت تعيد عليه سؤالها الدائم: "لماذا تأخرت في الزواج وأنت في الأربعينات من العمر؟"، وكان دائماً يتحجج بانشغاله في الدراسة والعمل، لكنها لم تتوقع أنه زوجٌ لامرأة غيرها وأبٌ لخمس بنات. واكتشفت في ما بعد أنه كان على خلاف مع زوجته الأولى لأنه تزوج عليها، لكنهما تصالحا بعد فترة من زواجه من رهف.
برغم كل الظروف القاسية التي مرّت بها، لم ترغب رهف في الطلاق، ورضيت بالواقع وتحملت كل الإهانات والضرب من أجل طفلها، لكن المفاجأة أن زوجها سجّل ابنها باسم ضرّتها.
برغم كل الظروف القاسية التي مرّت بها، لم ترغب رهف في الطلاق، ورضيت بالواقع وتحملت كل الإهانات والضرب من أجل طفلها، لكن المفاجأة حدثت حينما احتال زوجها وعائلته عليها بخطة داهية، وقاموا بتسجيل وثائق ولادة طفلها وهويته باسم ضرّتها، وعندما اعترضت على ذلك، تم طردها إلى الشارع دون جواز سفرها وأوراقها الرسمية. لم ترغب في العودة إلى سوريا كي لا تكون عبئاً على عائلتها، فتذكرت أنها عندما كانت تقيم في منزل عائلة طليقها، كانت تتردد عليها جارات المنطقة وإحداهن كانت تتعاطف معها وأخبرتها بأنها إن احتاجت إلى أي مساعدة عليها ألا تتردد في طلبها منها. وحينما تم طردها من قبل زوجها، طرقت رهف باب تلك الجارة التي ساعدتها في الوصول إلى كبار أهل المنطقة.
حينها، حاولت رهف التوسط لدى هؤلاء، حتى أقنعوا زوجها بالموافقة على تسليمها جواز سفرها، وبعدها جُمع لها مبلغ من المال يمكّنها من العودة إلى سوريا. عادت إلى حضن عائلتها دون ابنها، الذي نُزع من حضنها ولا تعرف طريقةً للوصول إليه.
"السوريات بالمجّان"
إتمام هذا النوع من الزيجات، يشرح تفاصيله سائق سيارة أجرة من ريف حلب، يدعى محمد (رفض الحديث باسمه كاملاً)، تمّ الوصول إليه عن طريق عائلة عراقية زوَّجت جميع أبنائها الذكور من فتيات سوريات عن طريقه. يقول لرصيف22: "كلفة هذا النوع من الزيجات تتراوح ما بين ثلاثمئة دولار وألف دولار، وذلك وفقاً لمواصفات الفتاة. يتم تسليم المبلغ باليد إلى ربّ الأسرة، وهناك بعض العوائل لا تطلب المال لكنها تبحث عن السّتر"، بحسب وصفه. وفي ما يخص المواصفات التي يبحث عنها الرجل العراقي في الفتيات السوريات، يقول: "لكل ذوقه الخاص؛ البعض يفضلها طويلةً ورشيقةً وبيضاء، وآخرون يحبذونها بدينةً وسمراء".
يؤكد محمد أنَّ "بعض العائلات السورية لا تهتم بمواصفات العريس العراقي، فسيّان عندهم أكان كبيراً في السنّ أو مختلّاً عقلياً، ولا يهمهم إن كانت ابنتهم ستخدم في المنزل أو ستعتني بمريضٍ من أقارب العريس، الأهم بالنسبة لبعضهم هو المبلغ المالي الذي سيُدفع ويعينهم على مواجهة الأوضاع الاقتصادية التي تمرّ بها سوريا".
أثّر الواقع الاقتصادي في سوريا سلباً على حياة الناس، فباتت معظم العائلات السورية تعيش حالة صراع من أجل البقاء، وتبحث عن سبل مختلفة لإيجاد مدخول مادي يمكّنها من الاستمرار، ومع الآسف كان تزويج الفتيات السوريات من رجال عراقيين، واحداً من تلك الأساليب.
أثّر الواقع الاقتصادي في سوريا سلباً على حياة الناس، فباتت معظم العائلات السورية تعيش حالة صراع من أجل البقاء، وتبحث عن سبل مختلفة لإيجاد مدخول مادي يمكّنها من الاستمرار، ومع الآسف كان تزويج الفتيات السوريات من رجال عراقيين، واحداً من تلك الأساليب
مهمة محمد في مثل هذه الزيجات هي استقبال العريس وعائلته في المطار أو عند الحدود البريّة بين سوريا والعراق، وأن يؤمّن لهم السكن والنزهة وكل متطلباتهم. لكنّ مستحقات هذه المهمة ليست من ضمن المبلغ الذي سيدفعه العريس له لإيجاد العروس، فلكل مهمة حسابها.
وكلفة إيجاد العروس والتنسيق مع العائلة يسعّرها محمد بنحو ثلاثمئة دولار أمريكي، لأنه يتعامل مع "الخطّابات" اللواتي بدورهنّ يقتطعن جزءاً من المبلغ، أما كلفة النقل من مطار دمشق إلى مركز المدينة، فيسعّرها بخمسين دولاراً أمريكياً، وفي ما يخص كلفة تواجده مع المسافرين ومرافقته لهم إلى المناطق السياحية والمطاعم فهي بقيمة مئة دولار أمريكي.
يروي محمد أن معظم العوائل العراقية تتبادل رقم هاتفه، ويقصده كل من يرغب في الزواج من فتاة سورية، كما أنه يؤكد أنّ طلبات الزواج مرتفعة، ففي الأسبوع الواحد يتم تزويج ما بين ثلاثة شبان إلى أربعة، قد يختار بعضهم ترك العروس في سوريا بعد الزواج ويزورها بين فترة وأخرى، ومنهم من يصحبها معه إلى بلد إقامته.
تنتهي مهمة محمد لتبدأ مهمة "حملة الدار"، وهي مجموعة تقصد سوريا بهدف السياحة الدينية. تقول الصحافية العراقية قدس السامرائي، المهتمة بالقضايا الاجتماعية إنّ "حملة الدار" تمتلك لائحةً بأرقام هواتف العائلات السورية التي ترغب في تزويج بناتها، فيقوم منظّم الرحلة بتعريف الفتيات السوريات إلى الشبّان العراقيين ثمّ يتم الاتفاق مع عائلاتهن في ما بعد، لتحدد باقي التفاصيل الخاصة بالزواج.
اتصال مع السمسار محمد، يشرح بالتفاصيل مهمّته وكيف يؤمن النساء لمن يرغب
تؤكد السامرائي، بناءً على الحالات التي رصدتها، أنّ العراقيين لا تهمهم شخصية العروس ولا سيرتها أو حتى مستواها العلمي. جلّ ما يهمهم هو أن يكون مهرها قليلاً وأن تكون "دلوعةً". أما المقبلون على هذا النوع من الزيجات، فهم من القرى النائية، والمتزوجون الذين يرغبون في تعدد الزوجات، أو أصحاب الدخل الضعيف الذين لا يقدرون على شروط الزواج التي تفرضها عليهم العائلات العراقية من ضمانات، مثل مقدّم الصداق ومؤخره وأثاث المنزل.
وفي هذا الشأن، يقول المحلل الاقتصادي محمد جواد العايد، إنّ "الأوضاع الاقتصادية الصعبة في سوريا تسببت في معاناة كبيرة للعديد من الأسر، وقد اضطر بعض الأهالي الذين يعيشون في ظروف مأساوية إلى اتخاذ قرارات صعبة، مثل بيع بناتهم وتزويجهم دون مهور أو ضمانات. هذه الأوضاع الصعبة تعكس التحديات الكبيرة التي يواجهها الأشخاص في المناطق المتضررة من النزاعات، ويؤكد أنه يجب أن يكون هناك دعم دولي وإنساني لمساعدة الأسر المتأثرة وتحسين أوضاعها".
وفيما أثّرت الظروف الاقتصادية على اختيار المرأة لعملها، قد تضطر بعض النساء إلى العمل في وظائف غير مناسبة بسبب الضغوط الاقتصادية. يقول العايد إن "هذا الأمر يمكن أن يؤثر في الثقافة والمجتمع، بالإضافة إلى أنّ القيم الاجتماعية معقدة وصعبة للغاية، خصوصاً في السنوات الأخيرة بسبب النزاع المستمر والحروب. فقد تأثرت المرأة السورية بشكل كبير في هذا السياق، وعانى البعض منهنّ من فقدان الأمان والمأوى، وانخفضت فرص العمل المتاحة لهنّ بشكل كبير".
برأيه، المشكلة الأساسية للمرأة السورية تكمن في الوضع الاقتصادي، وتتمثل في انخفاض فرص العمل المتاحة لهن، وارتفاع معدلات البطالة بينهن. "بعض النساء اضطررن إلى العمل في وظائف منخفضة الأجور وبظروف غير آمنة، والحاجة إلى تلبية احتياجات أسرهن ازدادت، مما أدى إلى زيادة الضغوط على المرأة السورية".
ويضيف: "كذلك، تأثرت المرأة بانعدام الخدمات الأساسية مثل الرعاية الصحية والتعليم، مما أثّر على فرص تطويرها ومشاركتها الفعّالة في سوق العمل"، مشيراً إلى ضرورة تكثيف الجهود لتعزيز فرص العمل وتقديم دعم اقتصادي للنساء السوريات من أجل تحسين وضعهن الاقتصادي وتعزيز مشاركتهن الفاعلة في مجتمعهن.
سوريات في عداد الموتى والمفقودين
أوس، ذو الـ23 عاماً من دمشق، يقطن في حي القابون ويعمل بائعاً متجولاً، وقد رفض ذكر اسم كنيته خوفاً من الوصمة الاجتماعية، يقول: "في عام 2018، تزوجت شقيقتي القاصر والتي كانت تبلغ من العمر حينها أربعة عشر عاماً من رجل عراقي من محافظة البصرة يبلغ من العمر خمسين عاماً، وهو ملتحٍ ويرتدي الزيّ العربي. كان يتردد دائماً إلى دمشق لزيارة مقام السيدة زينب. نشأت علاقة عائلية بيننا وبينه، وفي يوم من الأيام رأى شقيقتي في أثناء عودتها من المدرسة، وعلى الفور طلب يدها من والدي، الذي لم يتردد في الموافقة، وسرعان ما سلّم الرجل والدي مبلغاً من المال قدره ستة آلاف دولار أمريكي. استخدم والدي المبلغ لرحلة علاج شقيقي في تركيا الذي أُصيب بطلق ناري، وكان بحاجة إلى إجراء عملية ضرورية".
بعض العائلات السورية لا تهتم بمواصفات العريس العراقي، فسيّان عندهم أكان كبيراً في السنّ أو مختلّاً عقلياً، ولا يهمهم إن كانت ابنتهم ستخدم في المنزل أو ستعتني بمريضٍ من أقارب العريس، الأهم بالنسبة لبعضهم هو المبلغ المالي
رفضت شقيقته الزواج، لكن ضغوط والده وتهديداته أجبرتها على الموافقة ثم السفر إلى البصرة في شهر حزيران/ يونيو من عام 2018.
في أيام زواجها الأولى، كانت تتواصل معهم يومياً لتشكو سوء أوضاعها لوالدتها وأخبرتهم وقتها بأنها تعيش مع ثلاث زوجات، وأحفاد زوجها الذين يكبرونها في العمر. كما أنها كانت تعاني من سوء المعاملة والعنف من زوجاته خلال سفر زوجها وفي غيابه. يؤكد أوس أنه برغم كل معاناة شقيقته من هذا الزواج، إلا أنّ والده رفض عودتها، فبقيت على هذا الحال حتى بداية عام 2020، ثمّ أنجبت طفلاً، وبعد وقت قصير من ولادتها أصيب زوجها بفيروس كورونا، وتوفي، مما زاد الطين بِلَّةً.
اعتقدت شقيقة أوس أنّ موت زوجها هو الخلاص من المعاناة، وستعود هي وابنها إلى ديارها، إلا أنّ عائلة زوجها المتوفى رفضت ذلك، فأخفت عنها جواز السفر وأوراقها الثبوتية. يقول أوس: "تواصلت معها أكثر من مرّة وشجعتها على الهروب من المنزل لكنها كانت ترفض ترك طفلها".
يضيف أنه بعد مرور فترة على وفاة زوجها، أُجبرت شقيقته على الزواج من شقيق زوجها المتوفى، المعروف بطباعه الحادة ولسانه السليط. لم يكن أمامها خيار آخر فتزوجته لتبدأ معاناة جديدة، ومن كثرة شكواها وبكائها كلما تحدثت مع أهلها، قرر زوجها الجديد قطع علاقتها بعائلتها وحرمانها من الهاتف كي لا تتصل بهم. تقطعت سبل الوصال بينهم وبينها، إلى أن تواصل أوس مع قريب لهم يعمل في مطعم في بغداد، طلب منه التقصّي عن أوضاع شقيقته وحياتها، وبعد تمحّص الأمر عاد إليهم باتصال هاتفي قائلاً: "هذه العائلة تنتمي إلى عشيرة معروفة بطباعها الرجعية، فبمجرد سؤالي عن ابنتكم قد يتم اتهامها بشرفها، ويمكن أن يقتلوها بدم بارد". يجهش أوس بالبكاء فجأةً، ويقول: "نحن ما زلنا صغاراً لنتحمل كل هذا الأسى، إنها قسوة الحرب".
إلى ساعة كتابة هذا التحقيق، لا يعرف أوس وعائلته أي شيء عن ابنتهم. وكأنها تبخرت. لا أحد يجرؤ على السؤال، وهم لا حول لهم ولا قوة، عالقون في دمشق.
تقول سارة جاسم، وهي ناشطة في مجال حقوق الإنسان: "قبل بضعة أيام (تاريخ المقابلة كان قبل نحو شهر)، رصدتُ حالة فتاة سورية ألقت بنفسها من الطابق السابع من إحدى العمارات السكنية في وسط بغداد، وهي الآن ترقد في المستشفى الكندي وحالتها الصحية متدهورة".
تشرح الجاسم تفاصيل أكثر حول القصة، وتقول: "شاب عراقي وعد الشابة السورية بالزواج، وأدخلها إلى العراق عن طريق التهريب، ثم نشبت خلافات بينهما بسبب تملصه من الوعود، ليبدأ بابتزازها بمبلغ مادي قدره عشرة آلاف دولار أمريكي، فعانت الفتاة من ضغط نفسي دفعها لمحاولة الانتحار، فنُقلت على الفور إلى المستشفى الكندي".
تحدثت الناشطة الحقوقية مع مجموعة من الراصدات، فأرسلن لوالدتها المتواجدة مع ابنتها في المستشفى الكندي مراسل إحدى القنوات التلفزيونية المعروفة، لكن الوالدة امتنعت عن الحديث ورفضت رفع شكوى معللةً السبب بأنها لا تعرف القوانين العراقية وخائفة من الترحيل.
تابع رصيف22، حالة الفتاة الراقدة في المستشفى، ويروي المراسل الصحافي الذي طلب عدم ذكر اسمه: "حينما زرت الفتاة التي حاولت الانتحار كانت والدتها متواجدةً معها وخائفةً من فقدانها ابنتها ومن قرار الترحيل. تحدثت إليها وحاولت إقناعها بتصوير لقاء صحافي في العراق، ثم اتصلت بصحافية سورية من أجل أن تحاول إقناعها، إلا أنّ المحاولات كانت دون جدوى، لأن أسرة الفتاة فضّلت التكتم على القضية وعدم فتح تحقيق خشيةً من الترحيل".
بعد مرور فترة على وفاة زوجها، أُجبرت شقيقته على الزواج من شقيق زوجها المتوفى، المعروف بطباعه الحادة ولسانه السليط. لم يكن أمامها خيار آخر فتزوجته لتبدأ معاناة جديدة.
يقول المراسل إنه تعرّف على هوية الشاب المتسبب في محاولة انتحار الفتاة، ليكتشف أنه متواجد في المكان، وفي محيط المستشفى، وعلى الأغلب كان يهدد عائلتها لكن لم يستطع أن يحصل من العائلة على جواب حول هذا الأمر.
الحرب تسلّع النساء
تقول الناشطة النسوية إسراء سلمان، من بغداد، إنّ "الفتيات السوريات أصبحن سلعةً يستسهلها بعض الذكوريين، بعقود زواج خارج المحكمة، مستغلين ظروفهنّ المعيشية والاقتصادية". وتضيف: "الفتيات السوريات هربن من ويلات الحرب للبحث عن حياة كريمة، ليواجهن العنصرية والاستغلال الجنسي وصعوبات في تجديد إقاماتهن المنتهية أو وجودهن غير القانوني، فالأكثرية يجدونهن لقمةً سائغةً للافتراس وصبّ جُلّ شهواتهم بمهور معدومة".
وبحسب سلمان، في السنوات الأخيرة ذاع صيت الفتيات السوريات بين الشبان العراقيين، وباتوا يشجعون بعضهم البعض على الزواج منهن باستخدام عبارات رخيصة وتهكمية، من قبيل "تزوج سورية تره بلاش تطلع عليك"، فكل شيء بالمجان، لا أثاث لمنزل ولا مصوغات ذهبية ولا أوراق محكمة، إنهم يتهربون من الالتزامات والمسؤوليات".
وتؤكد أنّ الطامة الكبرى في هذه الزيجات، هي أنها تحدث دون أوراق ثبوتية، فهي تتم "بعقد سيّدٍ"، وهو نوع من العقود التي يبرمها رجال الدين كعقود زواج شفهية خارج المحكمة، ومن مخلّفات هذه الزيجات، أطفال دون وثائق ومستمسكات رسمية. وغالباً ما يفرّ الرجل بعد شهور من الزواج إلى مكان تجهله الزوجة، ويصعب عليها التوجه إلى القانون بسبب عدم امتلاكها أوراق إقامة، فغالبيتهنّ دخلن البلاد بطريقة غير شرعية، لذا يبقى مصيرهنّ مجهولاً.
وفي هذا الشأن، ترصد الشرطة المجتمعية، من خلال الدراسات والإحصائيات، عشرات الحالات شهرياً من نساء سوريات يستغثن من العنف الممارس ضدّهن من قبل أزواجهن. يقول مدير الشرطة المجتمعية غالب العطية، لرصيف22، إنّ "أغلب السوريات يقعن ضحية شبكة 'الإتجار بالبشر'، ويتم توريطهنّ". ويتحدث عن طرائق جذبهنّ من المخيمات أو تهريبهنّ من سوريا، فيصبحن تحت إمرة العصابات، وتتم المتاجرة بهن بطرائق عدّة أبرزها "الدعارة، المقاهي، ومراكز التجميل". من جهة أخرى، تجدهنّ تلك العصابات أدوات ربحيةً، لأنهن دون أوراق قانونية، وأحياناً يتم استعبادهنّ وظيفياً للعمل عند أشخاص تحت التهديد أو الموت جوعاً.
ويضيف العطية: "لقد رصدنا حالات زواج لفتيات سوريات من رجال عراقيين في مناطق وقرى نائية في محافظات عراقية عدة، وبعد قدومهنّ من سوريا يتفاجأن بالأوضاع المعيشة لأزواجهنّ الذين يعيشون في مناطق يتغلغل فيها الفقر والجوع، فأغلبهن يهربن بعد اكتشاف الحقيقة، ويلجأن إلى مقارّنا لطلب المساعدة، وبدورنا نقدّم لهنّ ما يلزم".
حاول رصيف22، التواصل مع السفارة السورية في بغداد، لمتابعة تفاصيل هذه القضية، إلا أنها امتنعت عن التعليق، وقد أوضح أحد موظفيها أنّ تواجدهم في بغداد هو دبلوماسي وسياسي وقانوني، وأنّ السفارة وصلتها أخبار عن فتاة سورية ماتت منتحرةً داخل إحدى شقق مجمع بسمايا السكنية، وأنّ أيّ تصريح في هذا الملف قد يتسبب في خلق أزمة سياسية بينهم وبين الدولة العراقية.
فيما أفاد مصدر أمني مطّلع من وزارة الداخلية العراقية، فضّل عدم الكشف عن اسمه لدواعٍ قانونية، أنّ "السفارة السورية غير متعاونة، ومن ضمن واجباتها الرئيسية في العراق، مساعدة رعاياها والاطلاع على مشكلاتهم لكنها لا تفعل ذلك"، كما أشار إلى أنّ المنظمات الدولية والإنسانية تحرص دائماً على عدم تسليم النساء المعرّضات للعنف والاستغلال إلى مقرّ السفارة، خوفاً من أن تكون أسماؤهنّ على لوائح المطلوبين/ ات للنظام السوري، مشيراً إلى أنّ أغلب تجار البشر هم من السوريين أنفسهم، يتاجرون بالقاصرات ويحددون الأسعار، وكل هذا نتيجة طول وقت الحرب وانتشار الفقر، فبحسب رأيه هذه العوامل كافية لارتفاع معدلات الجريمة.
المنظمات الدولية والحكومية تدير ظهرها
يصف زكاء الدين جمال، وهو مسؤول في شبكة الحماية الاجتماعية للمفوضية السامية لحقوق اللاجئين في وسط العراق وجنوبه (UNHCR)، موقفهم بالضعيف جداً حيال هذه القضية، بحكم عدم وجود قوانين مساندة، ويوضح أنّ المنظمة تمنح ورقة حماية لطالبي اللجوء من السوريين كافة، لكنها لا تعطيهم حق الوجود في البلد، فالطريقة القانونية لتواجدهم هي امتلاك إقامة رسمية.
وفي ما يخص قضية تواجد السوريين في العراق، يشير إلى أنّ اللجنة الدائمة لشؤون اللاجئين العراقية توقفت عن العمل منذ عام 2019، وتالياً أي لاجئ سوري متواجد في العراق دون إقامة، يُعدّ تواجده غير قانوني. ويؤكد أنّ السوريين يتوافدون إلى العراق بطرق شتى، إما من خلال مطار أربيل أو من القامشلي، وفي ما يخص النساء السوريات فتوجد لهنّ اتفاقات مبرمة لعقود زواج من أجل تحسين وضعهنّ المادي وتتعرض غالبية السوريات لشتى أنواع العنف، يصاحب ذلك رضوخ وسكوت لأن غالبيتهنّ دون أوراق رسمية.
من زاوية أخرى، تُعدّ المفوضية عاجزةً عن مدّ يد العون بسبب قلة الموارد وغياب المِنح، ويُذكر أن أوضاع السوريين في العراق يُرثى لها، مقابل ذلك تُعدّ أيادي المفوضية مشلولةً.
يكمل زكاء الدين جمال، حديثه قائلاً: "تكمن الحلول في إعانتهم مادياً، وتتم تغطيتهم كلياً بمشاريع صغيرة أو مِنح شهرية. أما ما يحدث الآن فهو عبارة عن إعانات مادية بسيطة تُقدَّم في فترات متباعدة، قد تكون كل ستة أشهر أحياناً، وفي حالات العنف النسوية توجد مراكز إيواء تستقبل الحالات المستعصية والحالات التي تحتاج إلى علاج سريع".
وفي هذا الشأن، يقول الصحافي والناشط عبسي سميسم، إنّ "معظم حالات الاستغلال الجنسي التي تقع، ضحاياها اللاجئات السوريات، والأخيرات لا يقدّمن أي شكوى ضد المعتدي لأسباب كثيرة أهمها الخوف من الفضيحة ووصمة العار التي قد تلاحقهنّ، بالإضافة إلى خوفهنّ من الشخص المبتزّ، وتحديداً إذا كان صاحب نفوذ أو مُهرّباً. يخشين من انتقامه، خاصةً عندما لا يمتلكن أوراقاً رسميةً، أو في حال كانت لديهن مشكلات قانونية في إقامتهنّ، إذ يخفن من ترحيلهنّ مع عائلتهنّ إلى مناطق تشكل خطراً عليهن، بالإضافة إلى الحالة النفسية التي تعيشها اللاجئات في بلد غريب لا يعرفن شيئاً عن قوانينه".
ويضيف: "في الحالات التي تأخذ طابعاً شبه طبيعي، مثل الزواج، زيجات كثيرة تنتهي باستعباد النساء، وإخضاعهن لشروط حياة قاسية، إذ تفاجَأ اللاجئة بأن عريسها الذي أتخمها بالوعود، متزوجٌ ولا يستطيع تسجيلها قانونياً كزوجة، فيحتفظ بها كصاحبة قانوناً، وكزوجة وفقاً لعقد قران شيخ".
وهناك العديد من هذه الزيجات التي ينتج عنها أطفال، لا يتم تسجيلهم على اسم الأم السورية، بل يسجَّلون رسمياً على اسم الزوجة العراقية، بالإضافة إلى وجود حالات أخرى، مثل أن تأتي الفتاة السورية إلى العراق على أساس أنها زوجة لتفاجَأ بأن العريس يريد استغلال جسدها للعمل في الدعارة.
يكمل سميسم: "اللاجئات السوريات في معظم دول اللجوء يتعرضنّ لشتى أنواع الاستغلال، ولعلّ أسوأها الاستغلال الجنسي". فقد وثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان أكثر من 1،650 حالة ابتزاز وتحرش جنسي سنة 2023، للاجئات سوريات في دول مختلفة، من قبل شبكات مهرّبي البشر خلال رحلات اللجوء، حيث يتم استغلال الوضع المادي المتردّي للنساء السوريات في بعض الدول، كتركيا ولبنان والعراق واليونان، تحت ذرائع كثيرة، منها بدعوى الزواج ومنها بدعوى تأمين وثائق أو تأمين عمل وغالباً ما تقع القاصرات ضحايا هذا الابتزاز.
من جهتها، تتحدث السامرائي عن تورط بعض الأحزاب العراقية، في هذه القضية، حيث تقوم بترغيب الشباب في الزواج من الفتيات السوريات بعقود زواج خارج المحكمة، وذلك بهدف إدخال الفتيات إلى العراق واستغلالهن في الدعارة، وتؤكد أنها رصدت حالات عدة مشابهةً للحالة التي ذكرت قصتها، فبعد دخولها إلى العراق تختفي تماماً.
وإثباتاً لحديث الصحافية السامرائي، اطّلع رصيف22، على عمل أحد المراكز المتخصصة في التدليك في مدينة بغداد، والواقع في منطقة المنصور، ليتبين أنّ أغلب العاملات فيه هنّ من النساء السوريات. تواصلنا مع صاحب المركز بصفتنا من زبائنه لنستعلم عن آلية الدخول إلى المركز، فأوضح لنا الطرائق التي تصل من خلالها الفتيات السوريات وكيفية استخدامهنّ، ويقول: "إنّ السوريات مرغوبات عند الزبائن، والرجل العراقي بطبيعته يرغب في نساء من الجنسيات الأجنبية، لأنّ عملهنّ نظيف ومتقن ناهيك عن أنّهن ليست لديهن عائلات لتسأل عنهنّ".
ويضيف: "تختلف طرائق إدخالهن إلى العراق، فأحياناً نرسل شباباً من زبائن المركز إلى سوريا لاصطحاب الفتاة التي يتم التنسيق معها مسبقاً من قبل العاملات في المركز، وأحياناً تكون جارتهن أو صديقتهن"، ويشير إلى أنّ بعض الشباب يُخلّون بالاتفاق ويحتفظون بالفتيات، لكننا بحسب خبرتنا نسترجع الفتاة عن طريق حثّها على الهرب أو نهدد الشاب أو نمنحه مبلغاً من المال.
في ما يخص النساء السوريات في العراق، توجد اتفاقات مبرمة لعقود زواج من أجل تحسين وضعهنّ المادي وتتعرض غالبية السوريات لشتى أنواع العنف، يصاحب ذلك رضوخ وسكوت لأن غالبيتهنّ دون أوراق رسمية
وهناك طريقة أخرى تُستخدم، وهي نشر إعلان عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تُطلب فيه عاملات مقابل رواتب شهرية ابتداءً من ألف دولار، عدا الهدايا التي تصل من الزبائن. يقول صاحب المركز إنّ "الكثير من الفتيات السوريات في المخيمات يرسلن لهم رسائل عدة تُعبّر عن رغبتهن في الانضمام إلى العمل". أما بخصوص طرائق إقناع عائلات الفتيات، فيتم إرسال أحد الشباب العاملين في المركز إلى سوريا بصفته عريساً يريد الزواج من فتاة سورية، وفور إتمام العملية، تأتي الفتاة إلى العراق برفقة العامل ومن ثم يسلمها لنا في المركز، يقول صاحب المركز.
ويضيف: "عمل الفتيات بسيط جداً؛ بمجرد سكب الزيت على جسم الزبون لمدة ساعة، تحصل العاملة على هدية تتراوح بين ثلاثين إلى مئة دولار أمريكي، وتختلف الأسعار إن وافقت على ممارسة الجنس معه في الغرفة الحمراء، بالإضافة إلى الراتب الثابت، وتوفير السكن لها"، ويؤكد أنّ أغلب العاملات يرسلن إلى عائلاتهن في سوريا مبالغ ماليةً بشكل شهري، وبعضهن استأجرن منازل لأهاليهنّ بعد أن كانوا يقطنون في المخيمات.
صاحب مركز تدليك في بغداد يتحدث عن كيف يتم تشغيل النساء السوريات
النوادي الليلية تعجّ بالسوريات
النوادي الليلية تعجّ بالسوريات
لا تختلف طرائق العمل في النوادي الليلية عن مراكز التدليك. تقول ريتا ابنة الـ19 عاماً، وهو اسم المهنة، إنها تتنقل بين النوادي الليلية في منطقة العرصات في مدينة بغداد، وتحصل يومياً على مبلغ لا يقل عن خمسمئة دولار أمريكي، وهي وصلت إلى بغداد قبل أربع سنوات، حيث تم بيعها من قبل أهلها لشاب عراقي.
تروي أن الشاب خطبها بشكل رسمي من أهلها في سوريا، ثم عقد قرانه عليها "بعقد شيخ"، وجاء بها الى العراق، ليبدأ بمهمة بيعها لأصدقائه من أجل الحصول على المخدرات. تشعل ريتا سيجارتها، وتقول: "لقد فكرت في العودة إلى سوريا لكن الأمر كان صعباً جداً، فقررت البقاء هنا ثم تخلصت من زوجي وطلبت من أحد أصدقائه أن أعمل معه مقابل أجر، فوافق، وها أنا أعمل وأرسل لأهلي مصروفهم الشهري، ليس حباً بهم لكن من أجل شقيقاتي الصغيرات".
جدير بالذكر ما قاله المحلل السياسي صفاء اللامي، عن أن من يدعم شبكات الدعارة ويحميها ويسيطر عليها، هم رؤوس كبار فاسدة تسيطر على بعض المناصب في الدولة وتأخذ الفتيات من الحانات دون أي حساب ولا عقاب.
زواج دون إثبات
شهد المجتمع العراقي منذ تغيّر النظام السياسي، مخاضاً عسيراً، وصراعات سياسيةً، أحدثت ظواهر اجتماعيةً وتقلبات في سلوك الأفراد وفي عادات المجتمع، ومنها ظاهرة زواج العراقيين من سوريات، التي يرى الدكتور في علم الاجتماع في جامعة الموصل وعد إبراهيم خليل، أنها "ظاهرة سلبية، لأن هذا الزواج غير مبني على التكافؤ الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، عدا هذا المقياس ستكون الشراكة فاشلةً"، ومن خلال حديثه، دعا القنوات الإعلامية والملاكات التربوية إلى "ضرورة تثقيف الشباب لصدّهم عن ركب موجات هذه الظواهر التي تفسد العائلة".
تواصلت نساء عراقيات مع رصيف22، لينقلن لنا ما يحدث داخل بيوتهن، فتشابهت الشهادات، واتضح أنّ أي خلاف بسيط ينشب في المنزل بين الزوجة والزوج، يسارع الأخير إلى التهديد والرد: "هذا الموجود إذا ما عاجبج أروح أجيب سورية، أتزوج بها تاكل الموجود وتلبّي طلباتي الجنسية دون أي خلاف".
السيناريو في جميع هذه القصص مكرر، ولا يختلف كثيراً إلا في الأحداث، فقد تشابهت قصة لبيبة ابنة الـ22 عاماً، من دير الزور، مع النساء اللواتي التقى بهن رصيف22، ودوّن شهاداتهن. تقول إنها عادت إلى سوريا دون ابنها، فالأول سرقه زوجها الذي يكبرها بثلاثين سنةً، وأخبرها بأن الطفل من نسله وله الحق في أن يحتفظ به معللاً السبب بأنها لا تصلح لتكون أماً لطفله، كونه لا يعرف شيئاً عن ماضيها وأصلها سوى أنها عُرضت عليه مقابل مبلغ مادي قدره ثلاثمئة دولار أمريكي دفعه لأهلها.
حين وصلت إلى سوريا، اكتشفت أن والدها قد مات في الفترة التي انقطع حبل الاتصال بينها وبين أهلها في أثناء مكوثها في بغداد.
شهد المجتمع العراقي منذ تغيّر النظام السياسي، مخاضاً عسيراً، وصراعات سياسيةً، أحدثت ظواهر اجتماعيةً وتقلبات في سلوك الأفراد وفي عادات المجتمع، ومنها ظاهرة زواج العراقيين من سوريات، التي يراها خبراء "ظاهرة سلبية" لغياب "التكافؤ الاجتماعي والاقتصادي والثقافي" ما من شأنه أن "يفسد العائلة"
تروي لبيبة أنها تزوجت بـ"عقد شيخ"، وفي الفترة الأولى من زواجها بقيت في سوريا وقطنت مع زوجها في بيت أهلها، ثم سافر زوجها إلى العراق لكنه بقي يتردد عليها في سوريا بين الحين والآخر، وفي كل زيارة كان يحمل لإخوتها الصغار بعض الهدايا كما أنه كان يتكفل بعلاج والدها. في إحدى زياراته أخبرته بأنها حامل فأصرّ على أن تذهب للعيش معه في العراق، وهناك يكمل أوراق زواجهما. وافقت على السفر معه، وفور وصولهما إلى بغداد، أخذ منها هاتفها ومنعها من استخدامه، الأمر الذي أثار استغرابها حينها.
اندهشت لبيبة من عائلة زوجها التي تقطن في قرية في محافظة ذي قار، فعند وصولها بدأوا يجبرونها على العمل في تنظيف روث الحيوانات، وهي لا تمتلك الخبرة في عمل الفلاحة والزراعة والحصاد، وكلما كانت ترفض العمل معهم كانت تتعرض للعنف والضرب والإهانات من زوجها وعائلته.
تتابع الفتاة رواية تفاصيل ما حدث معها بعد ولادتها في صيف عام 2022، وتقول: "طلب مني زوجي أن أترك طفلي الرضيع عند عمته، بحجة أن مشوار الطريق إلى بغداد متعب وطويل، وكان الهدف من المشوار بحسب ما قال لي، أن صديقه المحامي ينتظرنا في بغداد لإكمال أوراق زواجنا وتسجيل طفلنا".
شهادة لبيبة حول ما تعرضت له بعد زواجها من عراقي
تكمل حديثها وتقول إنه بعد وصولها إلى بغداد، حجز لها غرفةً في فندق في الكرادة وسلمها هاتفها ومبلغاً مالياً بسيطاً وأشار لها من شباك الفندق إلى الشركات تمتلك حجوزات إلى سوريا، وهو غير متشرف بمعرفتها ثم رحل.
تقول: "صُدمت بتصرفه، لكنني رفضت العودة إلى سوريا دون ابني، فبقيت وعملت في مطعم الفندق لمدة شهرين. تعاطف الجميع مع قصتي وساعدوني لزيارة منظمات حقوقية، لكنني لا أعرف طريقه ولا أملك أي ورقة تثبت بأنني زوجته ولدي طفل منه، فاستسلمت وعدت إلى سوريا لأواجه مصير الفقر من جديد".
يقول علي عباس، من محافظة النجف، وعمره 38 عاماً، إنه تزوج من امرأة سورية وتجربته في هذا الزواج هي من أنجح التجارب، علماً أنه كانت لديه تجربتا زواج فاشلتان سابقاً. لكنه يؤكد أنّ زوجته الحالية "تتفهمه وتطيع كلامه وصغيرة"، فهي في عمر الـ16 عاماً، وبرغم صغر سنّها تتحمل عصبيته المفرطة ولا تعترض على أي شيء مقارنةً بالمرأة العراقية التي يعدّها علي، "صعبة المراد ومتطلبةً ومؤخر صداقها مكلف جداً وترفض الزواج بأثاث مستخدم".
يضيف أنّه تعرف إلى زوجته الحالية بفضل والدته، التي كانت في زيارة إلى السيدة زينب في صيف عام 2022، وصدفةً تعرفت إلى أهل زوجته، وفوراً طلبت يدها لعلي، وكانت صريحةً معهم، وأخبرتهم بأنه عصبيّ جداً خلال لحظات غضبه، ولكنه يصبح طيباً وحنوناً عندما يهدأ، بحسب ما يروي لرصيف22.
يؤكد علي، أنّ الزواج من فتاة سورية أفضل بالنسبة له من الفتاة العراقية، معللاً السبب بأن "الفتاة العراقية لا تتحمل عصبية الرجل، وحينما ينشب خلاف معها على الفور تغادر المنزل وتخبر عائلتها، بينما الفتاة السورية تتحمل العصبية والإهانات ولا تستطيع مغادرة المنزل، لأن عائلتها ترفض استقبالها".
"انعكاسات الأزمة الاقتصادية على المرأة السورية"
تبدو ملامح الشيخوخة والتعب واضحةً على وجه أبي ليليان، الرجل الأربعيني من مدينة حمص الذي طلب عدم ذكر اسمه، واكتفى بكنيته. يقول: "الوضع سيئ جداً داخل مخيمات محافظة دهوك في العراق. حتى الحيوانات لا تستطيع العيش في هذه البيئة المعدومة من أبسط متطلبات الحياة؛ لا يوجد ماء ولا كهرباء ولا مرافق صحية، والأمراض تنهش أجسادنا ولا نستطيع أن نؤّمن وجبةً غذائيةً واحدةً، لأن جميع المساعدات انقطعت ولا يُسمح لنا بالعمل أو فتح مشاريع صغيرة"، ويؤكد أنّ النساء يضطررن إلى العمل في خدمة البيوت وتنظيف الفنادق خفيةً، خوفاً من الملاحقة القانونية لعدم امتلاكهنّ إذناً بالعمل.
ويشير إلى أنه مضطر إلى تزويج بناته بأي سعر يُعرض عليه، وذلك لتخليصهن من الحالة المأساوية التي يعشنها عنده، ويقول: "في حال تقدّم أحدهم لخطبة ابنتي الصغيرة، وهي من مواليد 2009، لن أتردد في الموافقة".
يصمت قليلاً ثم يعود للحديث فجأةً: "صغيرتي كانت لا ترغب في الزواج، خصوصاً بعد اللقاء الأول الذي جرى بينها وبين زوجها، وقالت لي وقتها: يا أبي أنا أخشى من هذا الرجل أن يأكلني، فهو بدين الجسم وطاعن في السنّ وأنا مرعوبة".
يتابع حديثه: "أقنعتها بالزواج خوفاً من أن تتعرض للتحرش أو لسوء ما، فهي تعيش عندي في خيمة لا تحمينا من حرّ الصيف ولا من برد الشتاء"، لكنه يضيف أنه في كل زيارة لها كان يشاهدها كيف تبحث عن طفولتها التي سُلبت منها، ويشير إلى أن الوضع في سوريا لا يختلف عن الوضع في المخيمات، فالشباب السوريون عازفون عن الزواج وأغلبهم هاجروا، بالإضافة إلى أن الفقر نهش أجسادهم، وفي كل مرة يتصل ليطمئن على أقاربه في سوريا يخبرونه بأن ابنة أخيه أو إحدى قريباته تزوجت من أجنبي الجنسية، وكل ذلك هرباً من الفقر والجحيم إلى جحيم آخر لا تُعرف نهايته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.