شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
أكلن بجميع أعضائهن… ما عاد من حرائر في سوريا

أكلن بجميع أعضائهن… ما عاد من حرائر في سوريا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الخميس 7 مارس 202411:03 ص
Read in English:

There are no free women left in Syria: They were ravaged by the war

مررت بجانبهن، يرتدين بذّات برتقالية ويغطّين مسحة الذلّ على وجوههن بشالاتٍ مختلفة الألوان. عندما انحنت إحداهن لتلتقط كيس قمامة، سقطت من جيب سترتها "بطاقة شرف".

هذا المشهد غطى جلّ مشاهد القهر الذي تعانيه نساء سوريا، أمهات وزوجات وأرامل، من فقدن أغلى غواليهن، وعُوِّضن عن خساراتهن بـ"بطاقة شرف" وعقد عمل في البلدية. من وهبن فلذات أكبادهن دفاعاً عن الوطن، الوطن يتفنّن اليوم في إذلالهن وسحقهن.

يقفن على طوابير توزيع المعونات ساعات، ليستلمن كيلو أرز وزجاجة زيت، ثم يشكرن الوطن على مكرماته الضئيلة.

سلاف، المستخدمة في المكان الذي أعمل فيه، تتلقى بصدرٍ رحبٍ كل صباحٍ توبيخ المدير لتأخرها نصف ساعة عن العمل، تهز رأسها موافقة على كل ما يقول كي لا تخسر عملها، فهي بأمسّ الحاجة الى هذه النصف الساعة، كي تصل من الفرن الذي تعمل به طوال الليل لتعيل أطفالها الثلاثة الذين تركهم لها زوجها الشهيد.

مها، تقرّحت يداها وقدماها من التنظيف في المنازل.

علا، مريضة ربو. لا تستطيع ادخار ثمن علبة دواء من عملها في حمامات الكراجات العامة، ولو أردت  إيراد جميع الأمثلة لما انتهيت أبداً.

مررت بجانبهن، يرتدين بذّات برتقالية ويغطّين مسحة الذلّ على وجوههن بشالاتٍ مختلفة الألوان. عندما انحنت إحداهن لتلتقط كيس قمامة، سقطت من جيب سترتها "بطاقة شرف" 

سبل عيش تنهش من كراماتنا الكثير

كنا في السابق نتألم لرؤية أمّ بعمر الهمّ، تحمل برد الصباح وما جمعته يداها من نباتات الأرض، مغادرة قريتها مع جهجهة الصبح إلى المدينة، لتسند انحناء ظهرها ببضع ليرات.

بعد الحرب، أصبح هذا المشهد عادياً، لا بل يصور عملاً يحفظ من كرامة صاحبته الكثير، فهي تبيع ما جنته يداها، أو تبيع ما حاكته أصابعها على أحد الأرصفة، دون أن تكون تحت أمرة رب عمل يستغلّ تعبها وجهدها.

المحظوظة من هؤلاء النساء من استطاعت الحصول على قرض للمشاريع المصغرة، دون أن تلوث شرفها كواسطة للحصول عليه، ففي بلد ينهشه الفساد، لا يمكنك الحصول على أي شيء دون مقابل.

في أفضل الأحوال، تؤمّن هذه القروض لتلك النساء شراء آلة خياطة لمن تجيد الخياطة، أو فتح دكان صغير للسمانة، أو شراء بضع دجاجات تعتاش من منتجاتها.

تصارع الكثير من النساء السوريات يومياً، ممن وجدن أنفسهن دون معيل تحت رحمة ظروف اقتصادية قاسية، لتأمين حدّ أدنى من المعيشة والتعليم لأطفالهن، حتى لو اضطررن للقيام بأعمال بدنية شاقة، تلك الأعمال البدنية التي كانت فيما مضى حكراً على الرجال .

فمنذ متى كنا نرى في سوريا قبل الحرب امرأة تجمع الحطب لتبيعه في السوق، بينما تُدّثر أطفالها ببطانيات رثة لا تردّ عنهم برد الشتاء القارس،  ومنذ متى كنا نرى نساء يعملن في معامل الإسمنت والآجر ليحلن دون أن ينام أطفالهن ببطون خاوية؟

لم يعد الأمر مرتبطاً بفكرة انخراط المرأة في سوق العمل لتحقيق المساواة مع الرجل، فأن ترى نساء يعملن في "سوق الهال" بمهنة العتالة، تحت أمرة رجال لا يرحمون أجسادهن المنحنية المنهكة، فذاك ما لا يحمله عقل من يقرأ أو يرى ما تعرضه الشاشات وهو خارج أسوار هذا الوطن.

كان رجالنا يعتقدون أن مجرد اصطحاب امرأة معهم إلى سوق الهال (وهو سوق الجملة للخضار والفواكه) فيه من الإهانة لها وله الكثير، بسبب النظرات والألفاظ السوقية التي يستخدمها البعض ممن يعملون هناك، فما بالك بالنساء اللواتي لم يجدن فرصة عمل أفضل من إفراغ شاحنات الخضار والفواكه على أكتافهن، تحت أمرة هؤلاء الرجال، بأجر لا يغني ولا يسمن من جوع.

كان العرب قديماً يقولون: "تموت الحرّة ولا تأكل بثدييها، لكن الواقع أن نساء سوريا أكلن بجميع أعضائهن، ولم يشبع غول الاستبداد والقهر بعد

اليوم في سوريا، قد تجد بكل بساطة إحدى جاراتك تفترش رصيفاً في حي بعيد عن حيّكم، تبيع أغراض منزلها وثياب أطفالها، لتعود إليهم بما يبقيهم على قيد حياة مريرة، وقد تصادف جارة أخرى في ساعات الليل المتأخرة، تتعمّد إخفاء وجهها أثناء جمعها ما رماه الناس من قوارير بلاستيكية وعلب كرتونية في قمامتهم. ستشيح بوجهها عنك تاركة لك نظرة توسّل ألا تخبر أحداً.

ثمة نساء ممن لا يملكن القدرة الجسدية على العمل، أو ممن اخترن طرقاً أكثر سهولة لجني المال، يفترشن الطرقات بأطفال في حجورهن ليتسوّلن ما يرمي المارة لهن من نقود، ومنهن من يفترش الطرقات دون أطفال يعيقونهن عن ركوب سيارة يومئ لهن أصحابها بالركوب،  لاصطحابهن في جولة مأجورة قد يعفيهن أجرها من مواصلة التسوّل بقية اليوم، لتعدن منها حاملات لأطفالهن لقمة مغمسة بالذلّ وكره الذات.

وثمة نساء رأين أن خلاصهن من المعاناة يقبع خارج الحدود، فتركن أطفالهن في عهدة الأقارب وتعلقن بعقود عمل خارجية مزيفة، انتهت أغلبها في  شبكات للدعارة، أو انتهت بهن مرميات دون مال في بلاد غريبة، بعد عملية نصب واحتيال.

لكن ربما الأفظع من هذا وذاك، هو ما تعتقدنه بعض النساء خلاصاً شرعياً من هذه المعاناة، فيهرعن إلى الزواج المبكر من أي كان، طلباً لسترة قد تكون ناراً وجحيماً، أو زواجاً يحملها خارج حدود هذا الوطن الذي يزداد ضيقاً وتضييقاً على ساكنيه، فتصبح سلعة تظن أنها ستنقذ نفسها ومن بقي من عائلتها من فقر مدقع، كما يحدث في ظاهرة زواج السوريات من عرب غير سوريين، يأتون كمخلّصين على حصان ذهبي، ليقتلعوا تلك العروس السورية من جحيمها إلى مجهول، فيضاف إلى ذل الغربة ذل العبودية الجنسية.

أما عنا، نحن الموظفات في وظائف حكومية، اللواتي درسنا واجتهدنا لنيل شهادات جامعية كان أهلنا يعلقونها على جدران الصالونات في إطارات فاخرة تعبيراً عن فخرهم بنا، فلا أستطيع تشبيهنا إلا بالكلاب الشاردة التي تلهث كل يوم بين وظيفة ما عادت تثير طمعاً، وبين أي عمل إضافي يدرّ مالاً يسند بهشاشة أيام الشهر الطويل، وما بين الشوطين نقوم بواجباتنا المنزلية كروبوتات أكل الصدأ براغي مفاصلها.

اليوم في سوريا، قد تجد بكل بساطة إحدى جاراتك تفترش رصيفاً في حي بعيد عن حيّكم، تبيع أغراض منزلها وثياب أطفالها، لتعود إليهم بما يبقيهم على قيد حياة مريرة

قانون حماية أحيل قسراً إلى التقاعد

كما في كل الدول، ثمة قانون لحماية المرأة في سوريا، قانون هشّ، مكتوب على ورق علاه الغبار، كان في الماضي يتيح للنساء رفع الدعاوى القضائية على المعنّفين والمتحرّشين والمستغلين، إذا ما امتلكت هاته النساء الجرأة للخروج عن تقاليد مجتمع كمّ أفواههن منذ أن كنّ في المهود.

تم تعديل هذا القانون عام 2013، فتمّ رفع عقوبة المتحرّش والمغتصب والمستغل إلى عقوبة تتراوح بين السجن المؤبد والإعدام، إذا ما تقدّمت المجني عليها بشكوى، كما تم تعديل المناهج الدراسية في جميع المراحل العمرية، وتضمينها عبارات رنانة تسهم في توعية وتعليم التلاميذ الحقوق والواجبات، وتقتلع الصورة النمطية لدور المرأة في المجتمع حيث جاءت هذه العبارات على شاكلة:

حقوق المرأة كإنسان ومواطن...

الحق في اختيار المهنة وممارستها...

الحق في الحماية والرعاية الصحية والتغذية...

الحق في اختيار الزوج...

عبارات يقرؤها كل طفل سوري اليوم، فيضحك بمرارة الجائع إلى حضن أمه الذي ما عاد شاغراً له، يضحك بمرارة التائه الذي فقد كل كتف يستند إليه، فالكتف الوحيد الذي بقي له سلبته منه صناديق الخضار في سوق الهال.

كان العرب قديماً يقولون: "تموت الحرّة ولا تأكل بثدييها، لكن الواقع أن نساء سوريا أكلن بجميع أعضائهن، ولم يشبع غول الاستبداد والقهر بعد.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image