على مدار تاريخها الطويل، شهدت مصر العديد من الأحداث الغريبة، التي غيرت في معالمها ونظام حكمها على اختلافه، حتى وصل الأمر إلى أن يتولى إدارة شؤون الدولة في أثناء عهد الفاطميين (969-1171م)، رجل يهودي يُدعى أبو سعد التُستَري، بإقرار وضمان من إحدى سيدات القصر.
من هو أبو سعد التستري؟
يحكي المقريزي قصته من البداية، في الجزء الثاني من كتابه الشهير "الخطط المقريزية"، قائلاً إنه "نبغ في أيام الحاكم بأمر بالله (الخليفة الفاطمي السادس (996-1021)، أخوان يهوديان يتصرف أحدهما في التجارة والآخر في الصرف وبيع ما يحمله التجار من العراق، وهما أبو سعد إبراهيم وأبو نصر هارون، ابنا سهل التستري، واشتهر من أمرهما في البيوع".
ويؤكد المقريزي، أن الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله، استخدم أبا سعد إبراهيم بن سهل التستري، في ابتياع ما يحتاج إليه من صنوف الأمتعة، وتقدّم عنده فباع له جاريةً سوداء، "تزوجها" الظاهر، وأولدها ابنه المستنصر، فرعت لأبي سعد ذلك.
"التُستَري… يهودي كان يتاجر في التحف الثمينة والآثار، ويسافر في رحلات طويلة وبعيدة لجمعها، وكان الخليفة الظاهر ومن بعده ولده المستنصر، يحصلان منه على كثير من التحف لخزانات القصر"
ويعرّفه الكاتب محمود محمود خليل، في مؤلفه المعنون بـ"الاغتيالات السياسية في مصر في عصر الدولة الفاطمية"، بقوله: هو أبو سعد أو أبو سعيد بن إبراهيم بن سهل التستري، كان يهودياً يشتغل في التجارة، فاستخدمه الخليفة الظاهر ابن الحاكم بأمر الله، الخليفة الفاطمي السابع (1021-1036)، في ابتياع ما يحتاجه من أصواف، فتقدّم عنده وأصبح من المحظوظين.
لكن يروي زكي محمد حسين، في كتابه "الكنوز الفاطمية"، أن "التستري اسمه أبو سعد أو أبو سعيد، وهو يهودي كان يتاجر في التحف الثمينة والآثار، ويسافر في رحلات طويلة وبعيدة لجمعها، وكان الخليفة الظاهر ومن بعده ولده المستنصر، يحصلان منه على كثير من التحف لخزانات القصر"، مشيراً إلى أن اسمه نسبة إلى بلدة تستر في إيران، مضيفاً: "والمعروف أن أكثر النابهين اليهود كانت لهم أسماء عربية مشتقة من أسمائهم اليهودية أو مخالفة لها".
ويطرح المؤلف أحمس حسن صبحي، رأياً آخر في مؤلفه "الدعوى الفاطمية"، موضحاً أن أبا سعد التستري كان تاجراً للعبيد في مصر.
يعود أصل أبي سعد إلى مدينة تُستَر الواقعة جنوب غربي إيران، القريبة من مدينة الأهواز، وإلى المدينة نفسها يُنسَب الصوفي الشهير سهل التُّستَري أيضاً. ووفق "الموسوعة الإسلامية الكبيرة" نقلاً عن أخت أبي سعد فإن عائلة التُّستَري كانت تقطن في الأهواز قبل هجرتها إلى مصر، وكان لهم كثير من الثروة في هذه المدينة، والحفاظ على هذه الثروة شغلتهم حتى بعد سنوات من هجرة العائلة إلى مصر. كما أن ثمة وثائق -وفق الموسوعة الإسلامية نفسها- تدل على أن العائلة كان لها نشاط تجاري واسع يمتد من الأهواز في إيران إلى القيروان في تونس.
لم تحدد المصادر التاريخية تاريخ هجرة العائلة من الأهواز إلى مصر٫ ولكن وفق ما يذكره المقريزي في المصدر آنف الذكر، فإن نفوذهم ومكانتهم التي قد حصلوا عليهما في مصر كانت قبل نهاية القرن القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي.
باع أبو سعد التستري للخليفة الظاهر، جاريةً سوداء تزوج بها الأخير، ووُلد من هذا الزواج ابنُه المستنصر، الخليفة الثامن الفاطمي (1036- 1094)، فرعت هذه الجارية ذلك الجميل لأبي سعد، فلما أفضت الخلافة إلى ولدها، فوّضت إليه أمر ديوانها.
"رصد" تتصرف في شؤون الدولة
ولكي نفهم ما حدث جيداً، لا بد من معرفة الأسباب التي جعلت والدة المستنصر، التي ذكر المؤلف الكبير المقريزي، في كتابه المعنون بـ"اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء"، أنها تُدعى رصد، وتتصرف في شؤون الدولة كما تشاء، على الرغم من وجود ولدها.
ويشير الدكتور وسن سمين محمد أمين، الأستاذ في كلية التربية في جامعة بغداد، في دراسته المعنونة بـ"السيدة رصد ودورها في الحياة السياسية للدولة الفاطمية"، إلى أن السيدة رصد أمة سوداء من بلاد السودان أو النوبة، والأرجح من النوبة، موضحاً: "عُرف عن الفاطميين ولعهم بشراء النساء النوبيات اللواتي اشتهرن بالحسن والجمال، وذلك بموجب معاهدة البقط (عُقدت بين ملك النوبة ووالي مصر سنة 31 هـ/652 م، على عهد الخليفة عثمان بن عفان، ونصت على حرية مرور التجار بين مصر وبلاد النوبة".
وعندما توفي الخليفة الظاهر عام 427 هـ/1036 م، كان ولده المستنصر قاصراً (قيل إن عمره كان بين السادسة والثامنة)، ما مهّد لها طريق الوصاية عليه في بادئ الأمر، وكان لها قصر خاص بها، يُسمى "اللؤلؤة"، بناه زوجها، وخزائن تشبه خزائن الخلفاء، وزيادةً على ذلك، اتخذت ديواناً خاصاً لإدارة شؤونها ومتعلقاتها، إلا أنها حوّلته إلى مكان تحكم من خلاله الدولة.
"كان يهودياً يشتغل في التجارة، فاستخدمه الخليفة الظاهر ابن الحاكم بأمر الله، الخليفة الفاطمي السابع (1021-1036م)، في ابتياع ما يحتاجه من أصواف"
لكن في الوقت ذاته، منع النفوذ الذي تمتع به الوزير علي بن أحمد الجرجرائي، صاحب السلطة السياسية في مصر طوال السنوات التسع من خلافة المستنصر، والدة الأخير السيدة رصد من التدخل بشكل قوي في شؤون الحكم، لكنه عندما توفي سنة 436 هـ/1044 م، أفسح المجال أمامها مرةً أخرى لتجديد نشاطها، وأصبحت المسيّرة لشؤون الدولة الفاطمية.
تدخلت رصد، في شؤون الوزارة، وعندما خلف الوزير أبو علي الأنباري، الجرجرائي، نقمت عليه لأنه صاحب الأخير الذي كبت رغباتها، وحرضت ابنها عليه فاستجاب لطلبها، فعزله في السنة ذاتها، واتهمته بسرقة المال، وقبضت عليه وسجنته في خزانة البنود، ومن ثم قُتل سنة 438 هـ 1047 /م.
ويشير أمين، إلى أنه بعد مقتل الأنباري، تولى الوزارة أبو صدقة الفلاحي، وبوساطة من قبل أبي سعد التستري (رئيس ديوان أم المستنصر)، الذي أراده واجهةً ليحكم الدولة باسمه، فتوصل بتحريض رصد إلى تعيينه، وانبسطت كلمة التستري في الدولة، بحيث لم يبقَ للفلاحي معه أمر ولا نهي، سوى الاسم فقط، وبعض التنفيذ.
ويروي جلال الدين السيوطي، في مؤلفه "حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة"، أن الوزير الفلاحي كان في أول أمره يهودياً ثم أسلم، وأبا سعد التستري كان يدير الدولة، ما دفع بعض الشعراء إلى القول:
يهود هذا الزمان قد بلغوا غاية آمالهم وقد ملكوا
العز فيهم والمال عندهم ومنهم المستشار والملك
يا أهل مصر إني قد نصحت لكم تهودوا قد تهود الفلك.
لماذا قُتل أبو سعد التستري؟
عندما فوّضت والدة المستنصر، أبا سعد التستري لإدارة أمر ديوانها، عظم شأنه إلى أن صار ناظراً في جميع أمور الدولة، وما عاد شيء يخرج عما يدبره، ولا يستطيع الوزير صدقة بن يوسف الفلاحي، أن يصدر أي قرار بسبب استحواذ "التستري" على السلطة.
هذه الأسباب جعلت الفلاحي، يضمر الشر لأبي سعد، ويتمنى له زوال أمره، فدبّر مكيدةً للتخلص منه، بأن أغرى الجنود الأتراك لقتله، متهماً إياه بأنه قتل قائد الأتراك الخادم عزيز الدولة ريحان، فضلاً عن تقلب مشاعر المسلمين تجاه التستري، الذي أصبح يفوق في سلطانه الوزير والخليفة نفسه، وكرههم له بسبب تقريبه أهل ملّته من اليهود، ومنحهم المناصب المهمة، وهم الذين أساءوا معاملة المسلمين.
وبحسب مؤلف كتاب "الاغتيالات السياسية في مصر في عصر الدولة الفاطمية"، فإنه في يوم الأحد 3 جمادى الأولى 439 هـ/1047م، ركب أبو سعد يريد القصر في موكب عظيم، فاعترضه 3 من الأتراك فضربوه حتى مات، وقطع الأتراك لحمه، وعندما طلب المستنصر إحضار من قتله، تجمعت طوائف الأتراك كلهم وأقروا بأنهم قتلوه جميعاً، فلم يتمكن الخليفة من معاقبتهم، ولم يفعل معهم شيئاً.
اعترضه 3 من الأتراك فضربوه حتى مات، وقطع الأتراك لحمه، وعندما طلب المستنصر إحضار من قتله، تجمعت طوائف الأتراك كلهم وأقروا بأنهم قتلوه جميعاً، فلم يتمكن الخليفة من معاقبتهم، ولم يفعل معهم شيئاً
بالطبع قتْل التستري أثار حفيظة والدة المستنصر، ولم ترضَ بما فعله الأتراك، ولا بموقف ولدها عندما صرف نظره عن القضية، فتآمرت على الفلاحي، فعزله الخليفة سنة 440 هـ/ 1048 م، ولم تكتفِ بذلك، وإنما قبضت عليه واعتقلته في خزانة البنود، وأمرت بضرب عنقه في العام ذاته.
القتل ونتائجه
هذه الأحداث تسببت في اضطرابات في السياسة الداخلية للدولة، وزيادة الشحن بين فرق الجيش الفاطمي، خاصةً عندما أكثرت أم المستنصر من شراء العبيد من بني جنسها، وفقاً لابن تغردي بردي في الجزء الخامس من كتابه "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة".
وبلغ عدد الذين اشترتهم رصد، 50 ألف أسود، كانوا تحت طوعها، نظراً إلى كراهيتها للعناصر التركية بعد قتلهم أبا سعد التستري، وعملت على ضرب الأتراك بالعبيد، وحثت العديد من الوزراء على إشعال هذه النار، فرفضوا ذلك حتى لبّى طلبها أبو الفرج البابلي، فثارت الفتنة بين السودانيين والأتراك، والتي انتهت بهزيمة السودانيين وهروبهم إلى الصعيد، وازدياد شوكة الأتراك قوةً، واضمحلال الأحوال الداخلية والخارجية في مصر الفاطمية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...