تُعدّ سامراء من أهم المدن العراقية. موقعها الإستراتيجي وحضارتها، زادا من الاهتمام بها، وحوّلاها إلى مهد للمشكلات والأزمات في الوقت نفسه. وكانت سامراء منذ ما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، مكاناً يغرق في النزاعات السياسية والنزاعات الطائفية. مؤخراً، في أواخر شهر شباط/ فبراير الماضي، وجّه الإعلام والرأي العام تركيزهما نحو المدينة بعد أخبار عن سيطرة العتبة العسكرية "المسؤولة عن مرقدَي الإمامين علي الهادي والحسن العسكري"، على أراضٍ كانت مخصصةً لإنشاء مجمعات سكنية في المدينة.
لم يأتِ هذا الاتهام جزافاً، إذ سبق أن اتُّهمت الحكومة بالاستحواذ على أراضي ما يسمّى بـ"البو هراط" في قضاء سامراء، وبررت استحواذها عليها بحجة الآثار التي تحتوي عليها هذه الأراضي، وعدّها ضمن المنطقة الحمراء التي أُدرجت على لائحة اليونسكو للمناطق الأثرية. ولكنها ما لبثت أن عادت ومنحت الكثير منها للعتبة العسكرية.
"ريد زون"
كانت اليونسكو قد أدرجت في عام 2007، مدينة سامراء ضمن لائحة التراث العالمي والمناطق الأثرية، وأطلقت هيئة الآثار العراقية على المنطقة المحددة تسمية المنطقة الحمراء، أو "ريد زون"، ومنعت الاستيطان فيها أو البناء عليها، خاصةً المنطقتين المرقمتين بـ13/1 و16/1 ضمن المقاطعة 22، ومساحتهما 822 دونماً، لاحتوائهما على آثار مطمورة لم يُنقَّب عنها حتى الآن.
في أواخر شهر شباط/ فبراير الماضي، سيطرت العتبة العسكرية على أراضٍ كانت مخصصةً لإنشاء مجمعات سكنية في المدينة
ولكن حكومتَي نوري المالكي وحيدر العبادي، منحتا العديد من الموافقات على استغلالهما وإنشاء الدور السكنية عليهما، ثم أتت الحكومة الحالية وانقلبت على الموافقات السابقة، فوجّهت بهدم الدور المبنية فيها، وعلى إثر ذلك تظاهر العشرات من المواطنين في شهر آب/ أغسطس الماضي، أمام مبنى بلدية قضاء سامراء للتنديد بهذه العمليات، وتأكيد استيفائهم الموافقات الأصولية ودفعهم رسوم بناء وحداتهم السكنية فيها.
رفضت الحكومة المحلية الاعتراف بالموافقات السابقة، وأصرّت على عدّها ضمن المنطقة الحمراء المصنّفة أثريةً من قبل اليونسكو، واستمرت في عملية الهدم، ولم تكتفِ بذلك، بل سلّمت الأراضي المجاورة للمنطقة إلى العتبة العسكرية، ما أثار سخط أبناء المدينة.
ما هي العتبة العسكرية؟
يقع قضاء سامراء شمال العاصمة بغداد بنحو 125 كيلومتراً، ويتبع إدارياً لمحافظة صلاح الدين. للمدينة رمزية تراثية، إذ تعود أقدم مكتشفاتها إلى 4،000 سنة قبل الميلاد. إطلالة المدينة النهرية على ضفاف دجلة، جعلتها مركزاً للاستيطان السكاني، وكانت تُعدّ من أهم حصون الدولتين الساسانية والمناذرة قبل الإسلام، في أثناء صراعهما مع الروم.
تاريخ المدينة العريق، جعلها زاخرةً بالمواقع الأثرية، وأبرزها تلك المرتبطة بالدولة العباسية، إذ كانت عاصمتها لنحو 58 عاماً، بعد أن اعتمدها الخليفة العباسي الثامن، المعتصم بالله، مقرّاً لدولته في عام 835 ميلادي. واهتم العباسيون بالمدينة وعمرانها، ولُقّبت وقتها بـ"سُرَّ من رأى"، ولعل الجامع الكبير ومئذنة الملوية وقصر البركة وقلعتها من أبرز الشواهد على تراثها الماثل للعيان حتى يومنا الحالي.
بالإضافة إلى أهميتها التراثية، لسامراء قدسية دينية، إذ يقع فيها مرقدا علي الهادي والحسن العسكري، وهما الإمامان العاشر والحادي عشر لدى الشيعة الاثني عشرية، كما تضم ضريح أخت الإمام الهادي، السيدة حكيمة، وضريح زوجة الإمام العسكري، السيدة نرجس، وهي والدة الإمام المهدي بحسب الاعتقاد الشيعي.
وللإمام الأخير سرداب معروف بالقرب من الضريح يطلَق عليه "سرداب الغيبة"، وتُشكل جميع هذه المواقع الدينية، ما يسمّى بالعتبة أو الروضة العسكرية.
ملكية المقام ترجع إلى الإمام علي الهادي، الذي اشترى منزله من أحد النصارى ودُفن فيه، وكذلك بالنسبة إلى ابنه العسكري، بحسب الباحث في التاريخ العراقي غانم الدوري، الذي يشير إلى أن ناصر الدولة الحمداني هو من وسّع المقام بعد شرائه البيوت المحيطة به، وزاد البويهيون في توسيعه بعد حكمهم للعراق في عام 945 ميلادية، كما اهتمت به الدولة الصفوية إبان احتلالها العراق، ودأبت الحكومات المتعاقبة على توسيعه حتى وصل الى حدوده الحالية.
رفضت الحكومة المحلية الاعتراف بالموافقات السابقة، وأصرّت على عدّها ضمن المنطقة الحمراء المصنّفة أثريةً من قبل اليونسكو، واستمرت في عملية الهدم، ولم تكتفِ بذلك، بل سلّمت الأراضي المجاورة للمنطقة إلى العتبة العسكرية، ما أثار سخط أبناء المدينة
ويستدرك الدوري في حواره مع رصيف22، فيقول إن "الاستيطان الشيعي للمدينة يرجع إلى عام 1874، وتحديداً بعد هجرة المرجع الشيعي الأعلى وقتها، محمد حسن الشيرازي إلى سامراء، حيث تبعه الكثير من عامة الشيعة في ذلك رغبةً منهم في القرب منه، ليقلّ اهتمامهم بالمدينة بعد وفاته في عام 1895".
وكانت مُلكية العتبة العسكرية تتبع لهيئة الأوقاف الدينية منذ ما قبل عام 2003، وبقيت كذلك حتى عام 2006، بعد تسليمها إلى الوقف الشيعي بشكل تام، على إثر تفجير قبّة المقام. ففي 22 شباط/ فبراير عام 2006، تعرضت العتبة العسكرية لتفجير بعبوات ناسفة، هُدمت بسببه قبّتها الذهبية ومئذنتها، وتبنّى تنظيم القاعدة هذه العملية وقتها، ولكن أبناء المدينة اتهموا جهات أمنيةً وحزبيةً بالتورط في الحادثة، مستندين بذلك إلى استحالة دخول عناصر القاعدة أو غيرهم إلى الضريح وتفخيخه، نظراً إلى ازدحامه بالزائرين، بالإضافة إلى اختفاء الذهب المرصّع الذي كان يغطّي القبّة بشكل كامل بعد التفجير.
وبغض النظر عن ذلك، فإن عملية تفجير القبّة أطلقت شرارة الاقتتال الطائفي في البلاد، الذي أسفر عن مقتل الآلاف من الشيعة والسُنّة.
وفي عام 2014، حاول تنظيم داعش السيطرة على المدينة، ولكنه واجه مقاومةً شرسةً من أهلها، ثم سيطرت القوات الأمنية والحشد الشعبي عليها.
منع الأهالي
في شهر أيلول/ سبتمبر الماضي، أطلق وجهاء المدينة وأعيانها ومثقفوها، بياناً على إثر توزيع العتبة ألف عقار من أملاك البلدية على المنتسبين إليها، واتهموها بحرمان السكان من التصرف بأملاكهم واستمرار عمليات الاستيلاء على الأراضي ومن بينها الجامع الكبير والمدرسة العلمية وبعض من أملاك بلدية سامراء، وتساءل الوجهاء في بيانهم: "هل يُجازى أبناء سامراء هكذا بعد تصدّيهم للإرهاب الداعشي؟".
يقول محمد آل نيسان، وهو صاحب أحد المحال المجاورة للضريح، إن العتبة تمنعه من الوصول إلى محله منذ عام 2014، وقد أفشلت بالفعل محاولات عدة لبيعه، ويشير لرصيف22، إلى أن "العتبة عرضت عليه شراء المحل بمبلغ 5 ملايين دينار عراقي (نحو 4،200 دولار)، بينما يصل سعره الفعلي إلى أكثر من 20 ألف دولار".
وكذلك الأمر بالنسبة إلى سعد حذيفة الذي يمتلك عقاراً قريباً من شارع العسكري المحاذي للضريح، إذ يتحدث عن أن العتبة تمنع عرضهم بيوتهم للبيع وتفرض عليهم بيعها لها، مقابل أثمان بخسة لا تصل إلى ربع قيمتها الفعلية.
كانت مُلكية العتبة العسكرية تتبع لهيئة الأوقاف الدينية منذ ما قبل عام 2003، وبقيت كذلك حتى عام 2006
وبحسب تصريحه لرصيف22، "تقوم العتبة بإرسال عدد من المنتسبين إليها إلى صاحب العقار من أجل إقناعه ببيع عقاره أو تعليق امتلاكه إياه، ولا يستطيع صاحب العقار اتخاذ أي إجراء ضدهم بسبب نفوذهم القوي داخل المدينة، وفي حال انتقاده هذه السلوكيات، تقوم مجموعة بتهديده، وقد استولوا بالفعل على الكثير من المحال المحاذية للمرقد بهذه الوسيلة كما استحوذوا على أملاك عائدة للبلدية أو دوائر الدولة الأخرى دون وجه حق".
سفيان العزي، وهو أحد المتضررين من هذه الممارسات، فقد عقد إيجار محله التابع لبلدية القضاء، بعد استيلاء العتبة عليه. يقول لرصيف22: "لدي عقد سنوي موقع مع دائرة البلدية نظير تأجير المحل، ولكني تفاجأت بعد شهرين من توقيع هذا العقد، بضرورة إخلائه وسُلّم لأحد المستأجرين الجدد من خارج المدينة".
أبناء المدينة لا يستطيعون التحرك ضد هذا الواقع، نظراً إلى دعم الدولة للعتبة العسكرية، ويستندون في ادعائهم إلى امتناع الحكومة عن توزيع الأراضي على أهالي سامراء، في حين أنها توزّعها على الغرباء من محافظة بغداد وجنوب البلاد، وعلى المواطنين الأجانب من إيران وباكستان وغيرهما، وبتوصية من العتبة كما يقول مصعب السامرائي (38 عاماً)، الذي يشير إلى أن "سلوكيات العتبة أصبحت مشابهةً لسلوكيات المافيات الإيطالية في الأفلام الأجنبية، إن لم تكن مشابهةً لسلوكيات الميليشيات في باقي مدن العراق".
مصدر في إعلام العتبة العسكرية غير مخوّل إليه الحديث باسمه، يؤكد عدم صحة هذه الادّعاءات ويقول إن استحواذهم على هذه العقارات يستند إلى وثائق أصولية تؤكد عائديتها إلى العتبة، أما بالنسبة إلى الاتهام المتعلق بمنح العقارات للأجانب، فينفي المصدر ذلك أيضاً، ويؤكد لرصيف22 أن "هذا التصاعد يرجع إلى استعادة هؤلاء أملاكهم التي صودرت إبان عهد النظام السابق".
وكان نظام صدام حسين قد صادر أملاك المواطنين الإيرانيين في العراق بعد الحرب العراقية الإيرانية في عام 1980، وأعادتها إليهم الدولة بعد عام 2003، كما منحت آخرين أراضي بدعوى ملكيتهم لها.
تغيير ديمغرافي
يتهم كثير من أهالي سامراء، العتبة العسكرية بالتورط في عمليات تغيير ديمغرافي في المدينة، ولكن ما سبب هذا الاتهام؟
تشكل مدينة سامراء ملفاً من أبرز ملفات الصراع الشيعي-السني في البلاد منذ عام 2003، وازدادت حدة الأزمة بعد تفجير قبّة الإمامين العسكريين وما تلاه من حرب أهلية قاسية. وتواجه المدينة محاولات لتغيير ديمغرافيتها السكانية منذ ذلك الحين، فهي تُعدّ من المدن السُنّية في البلاد، وبرزت هذه المحاولات بشكل خاص بعد انتهاء عمليات الحرب ضد تنظيم الدولة، واتُّهمت العتبة بالاستيلاء على الكثير من الأملاك المحيطة بها دون وجه حق في عام 2019، وممارسة التضييق على أصحاب العقارات والمحال من أجل بيع أملاكهم بأثمان بخسة، وأعيد التركيز على الأزمة خلال الانتخابات البرلمانية في عام 2021، واستحواذ العتبة على أملاك جديدة وتدشين مشاريع خاصة بها على هذه الأراضي.
اتهام الأهالي للعتبة بمحاولات تغيير ديمغرافية المدينة لا يتوقف على الأراضي، إذ شمل أيضاً استيلاءها على جامع سامراء الكبير العائد إلى ديوان الوقف السُنّي في شباط/ فبراير عام 2023، وتغيير اسمه إلى "جامع صاحب الأمر".
"تقوم العتبة بإرسال عدد من المنتسبين إليها إلى صاحب العقار من أجل إقناعه ببيع عقاره أو تعليق امتلاكه إياه، ولا يستطيع صاحب العقار اتخاذ أي إجراء ضدهم بسبب نفوذهم القوي داخل المدينة، وفي حال انتقاده هذه السلوكيات، تقوم مجموعة بتهديده، وقد استولوا بالفعل على الكثير من المحال المحاذية للمرقد بهذه الوسيلة"
رئيس البرلمان الأسبق ورئيس لجنة الأوقاف العشائرية النيابية الحالي محمود المشهداني، حذّر من أن هذه الخطوات ستؤدي إلى تأجيج الفتنة الطائفية في المدينة. رئيس تحالف العزم، مثنى السامرائي، زار الجامع برفقة عدد من علماء المدينة ووجهائها، وأمر بالوقوف على احتياجاته. تحالف السيادة الذي يضم قوى برلمانيةً سُنّيةً بزعامة رئيس البرلمان وقتها، محمد الحلبوسي، وصف هذا الاستيلاء بـ"غير المسبوق"، وأكد أن محاولات التغيير الديمغرافي في المدينة تسببت في إرباك العلاقة المتينة بين العراقيين، وطالب رئيس الوزراء بالتدخل لحل الأزمة. أيضاً دعا الوقف السنّي الحكومة إلى وقف عملية الاستيلاء، ولكن لم تعلّق العتبة أو الحكومة على الموضوع.
دوافع مادية وسياسية
لا تتوقف الظاهرة عند محاولات التغيير الديمغرافي للمدينة، إذ تُدرّ هذه الأملاك الكثير من الأموال للعتبة العسكرية، وتسهّل تنفيذها مشاريعها التطويرية داخل الحرم العسكري أو حوله، كما يذهب جزء من هذه الأموال إلى جيوب بعض الأحزاب المنتفعة التي تؤجر أو تبيع هذه العقارات بأسعار باهظة.
ولا يتوقف الاتهام عند هذا الحد، إذ إن موقع المدينة الرابط بين محافظة بغداد وشمال البلاد ووقوعها في منتصف ما يسمى بالمثلث السُنّي يزيدان من التركيز عليها، فمدينة تكريت تحدّها من الشمال، ومحافظة الأنبار ترتبط بها غرباً، ومحافظة ديالى شرقاً.
الباحث السياسي من مدينة سامراء، سليمان البازي، يؤكد على ذلك ويضيف أن المدينة أصبحت مرتكزاً لحماية العاصمة وقطع علاقة مناطق شمال بغداد بالمحافظات السُنّية، وهو السبب نفسه الذي يعزز الدعوة لانفصالها عن محافظة صلاح الدين وتأسيسها محافظةً مستقلةً تضمّ بالإضافة إلى قضاء سامراء قضاء بلد وقضاء الدجيل الشيعيين.
ولكن مصدراً في إعلام العتبة، يؤكد أن هذه الاتهامات لا تستند إلى أدلة منطقية، خاصةً أن العتبة مركز ديني ولا علاقة لها بالسياسة، ويشير إلى أنها عمدت خلال السنوات الماضية إلى تدشين العديد من المشاريع الخدمية في المدينة، والتي تقدم خدماتها للجميع من دون النظر إلى طائفتهم أو عرقهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.