كان يا ما كان في حديث الزمان، بلدٌ يكابد ليواري سَوءته حتى لا يعبق المكان بروائح التمرّد والانفتاح الذي لطالما كنا بغنى عنه. يفتح زوجي حاسوبه في خفر، وبصوتٍ منخفض كمن يتحدّث عن الممنوعات، يشرح لي عن فيسبوك، يريني صفحته التي لم ينشط عليها منذ زمن، ويقول: "أحياناً بفتحه فترة ورأساً بسكره".
في التسعينيات، شهدتُ بنفسي شرحاً عن ذلك التطبيق في إحدى برامج الترفيه، وعلى وجه الدقة على قناة "روتانا". كان بيير، المتخصّص في فقرة التكنولوجيا، يشرح للمذيعات عن التطبيق، وكيف أن لاسمه منه نصيب. تحمل الحسابات صور أصحابها ليدونوا ما يرغبون وينشروه دون رقابة ولا قيود. سحرتني الفكرة آنذاك، أنا المولعة بالكتابة والحرف، إذن سيأتي يوم وأستغني عن دفتري البني، وعن الجريدة المحلية، أدوّن خواطري في الدفتر الأزرق صاحب الأوراق التي لا تنفد.
لم تكن ممارسة الكتابة سوى شغف يضفي بظلاله على روحي المتعبة فتستريح، لم أطمح لأن يقرأ سطوري أحد، إلا أني، وفي البدايات، رغبتُ أن تقرأها العين الخبيرة فتفسّرها إن كانت أدباً حقاً أم أضغاث مخيلة.
خلال الأزمة السورية، سمحت السلطات باستخدام فيسبوك. كان هذا رائعاً، أشبه بدخول التلفاز إلى دمشق في الستينيات، لنحيا التجربة مجدداً
خلال الأزمة السورية، سمحت السلطات باستخدام فيسبوك. كان هذا رائعاً. أتصفح حساب زوجي المتباهي به، كونه من الأوائل الذين أنشأوا حساباً على التطبيق في سوريا، تبهرني المنشورات والفيديوهات. كان الأمر أشبه بدخول التلفاز إلى دمشق في الستينيات، لنحيا التجربة مجدداً.
بدايةً نشرتُ على صفحته، وتابعتُ إحدى الشخصيات المثقفة الخطرة، فعلى حدّ قوله تُعتبر رمزاً جليّاً للمعارضة، ليأتي البرق والرعد في ليلة تموزية على غير العادة، حينها أدركت أن الفضاء الأزرق والذي يبدو مسالماً، ليس دفتري البني. هو شارع عام، تترصّده ألف عين متوارية بين شجيرات المنصّف وخلف أعمدة إشارات المرور، وبأن الحساب شخصي كفرشاة الأسنان.
كففت عن تصفح حساب زوجي مرغمة، وأنشأت حسابي بشقّ الأنفس، هذا لأن شريكي المتخصص في التكنولوجيا أبى أن يساعدني بـ"إيصال نفسي إلى التهلكة"، على حدّ قوله. أجل، فالحرية المباحة في الحروب هي رأس البيروقراطية التي يُخشى التفافها المفاجئ.
بعد عدة تجارب مريرة وحسابات تخلّت عني بسبب كلمة مرور، كان لي دفتري البني مجدداً. أذكر تلك الأيام جيداً، تذكرني بافتتاح قناة الجزيرة. كنت أوصل الليل بالنهار، كمن يريد حفظ الجدولة والإلمام بتفاصيل قد شرد عنها ربما صنّاع العمل. سار القطار مسرعاً، بعد إتقان النشر على الصفحة الشخصية، أوصلتني جرأتي للمجموعات، وفي رغبة لمشاركة ما أقرأ وأطّلع عليه من جمال، مجموعة حملت الاسم الأثير على قلبي، اسم مسقط رأسي التي كانت فيما مضى قرية وغدت مدينة؛ إلا أن تسميتها بـ"الضيعة" يشعرني بالألفة والمحبة التي غادرتها ولم تغادرني.
من ضمن المسلسلات التاريخية، كتبت عن الحلّاج الذي أسرني بحرفه. كانت معرفتي به كمن تبتاع فستاناً من سحر، تقيسه كل يوم عساه يناسب مقاسها، غير أنه ما زال واسعاً، أنهل من كل نهرٍ أصدفه، ثم أهرول لفستاني أجرّبه. أتنهّد وأعلّقه على مشجب الأماني وأنظر في مرآتها، لابدّ سأفيه حقّه يوماً.
كان الحلاج الواضح المبهم، السهل الممتنع، الكتب المحاكمة له، والكتب الممجدة، وحتى التي التزم أصحابها الحياد، كل الأضداد اجتمعت وتصافحت على صليبه.
ما إن باشرت بنشر سلسلة تلخّص ما قرأت، حتى انهالت سياط القسوة التائهة على وجهي ويدي وأكتافي. تجمهرت الضيعة، بشيوخها ومثقفيها وأمييها، بنسويتها وبذكورتها، بائع الخضار والطبيب والشيخ، حفروا الخنادق وتمترسوا بسيوفهم عند أبوابها التي تعود للعهد البيزنطي: مَن تلك الملحدة التي تمجّد الكفرة؟ من تلك التي تسبح بعكس التيّار حتى تلفت النظر لوجودها؟ من تلك الناشز التي تتطاول على أئمة مساجدنا وتكسر كلمتهم؟!
عشرات الرسائل وصلتني لأخزي شيطاني المتمرّد على التقوى، وأكفّ عن نشر ما يزعزع عقيدة الشباب، فهم أمانة في أعناقنا. أمرني أحدهم أن أكتب عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وأحدهم أوصل خبراً لوالدي أني أجادل فيما ليس لي به خبر.
مناشيري عن الحلاج أفسدت حقاً عقيدة الإيمان لدى شباب الضيعة، وعلي تقطيع أوصالها وإحراقها، ثم الاستغفار لعلّ المعرفة تشفع لي يوم يكون لكل امرئ شأناً يُغنيه، وأن ديني للناس وليس لنفسي سلطة عليه
كانت المجموعة تعجّ بمناشير تنتقد لباس طالبات المدارس، وبالرغم من أنه "يونفورم" مدرسي، إلا أن النقد كان يتجه نحو البنطلون الضيق، مناشير تنتقد ذهاب النساء لصلاة التراويح، وأن مسجد المرأة بيتها. أحاديث نبوية منحولة تقذف بكل مؤنث وبكل جثمان غريب عن الملّة إلى جهنم بمنجنيق "اللايجوز": لا يجوز الترحّم على شيرين أبو عاقلة، كما لا يجوز ذكر هوبكنز وموته وحياته فهو رأس الإلحاد، إلا أن الجلوس على ناصية الطريق، وغضّ البصر لم يكن له نصيب يُذكر ضمن شرعهم الذي يمشي على رأسه ويحاور بمؤخرته.
أحدّث نفسي كل مرة يستفزني هراء كهذا: "أليس مستشفى القرية، والذي تزامن بناؤه مع مولدي، بحاجة لمناشير تناقش كيفية إكماله؟ والقمامة الملقاة في الشوارع، ألا تحتاج لمناشير تلحّ بطلب حاويات؟ وماذا عن المدارس المكتظة ذات الدوام المزدوج؟ ودور المياه الذي يزور البيوت خجلاً كل خمسين يوماً؟
تزامن مع سلسلة الحلاج منشور يتيم، يشتكي صاحبه سرقة متكرّرة لدجاجاته، ليعلق أحدهم بأن سرقة الموتوسيكلات التي يعتمدها سكان القرية للتنقل في تزايد، وبأن الممنوعات قد انتشرت كالنار في الهشيم، فازدادت السرقات وجرائم القتل ولا حياة لمن تنادي.
علمت جيداً حينها أن مناشيري عن الحلاج قد أفسدت حقاً عقيدة الإيمان لدى شباب الضيعة، وأن علي تقطيع أوصالها وإحراقها، ثم الاستغفار لعلّ المعرفة تشفع لي يوم يكون لكل امرئ شأناً يُغنيه، وأن ديني للناس وليس لنفسي سلطة عليه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...