أتابع متحمساً الممثّلة التي تتجوّل في كمباوند، للإعلان عن وحداته السكنية، وهي فللٌ مرسومةٌ بعنايةٍ بالغة، وسط بحيراتٍ اصطناعية، ومساحاتٍ خضراء بالعشب والأشجار، وملاعب وأماكن ترفيه، حيث يمكن للإنسان أن يحلم بحياةٍ سعيدةٍ هنا مع القلّة من أصحاب المليارات أو الملايين، وإذ يقع الكمباوند كله وسط صحراء كئيبة ومتربة، فإنّه يبدو مزيفاً، ومع ذلك يظلّ حلماً للملايين الّذين يحاول معظمهم الحصول على شقة مساحتها 60 متراً.
سيخبرني إعلانٌ آخر بأنّ استخدام هذا النوع من معجون الأسنان أو ذاك، سيجعل أسناني أنصع بياضاً، وسيقي الأسنان في دورة أربعٍ وعشرين ساعة على الأقل، وبالطبع، يمكن لي أو لغيري الانخراط في تحقيق حلمٍ كهذا، باستخدام معجون الأسنان هذا أو ذاك، وإن كنّا لن نستطيع دفع تكلفة الحصول على "ابتسامة هوليوود"، أي حين تبتسم ستبدو أسنانك كأنّها صُقلت للتو قبل تركيبها في فمك، في فابريكة الخلق الإنساني.
المجتمع المصري "مجتمع الواحد بالمئة"، أي النسبة الصغيرة من المواطنين التي بوسعها الحصول على كل شيء، فيما الكفاح والكدّ من نصيب معظم الناس، حيث الحياة على حدّ الكفاف، أو ما يسمّيه المصريون "السّتر"
ولدينا كذلك، إعلانات الحج والعمرة، حيث يمكن لك أن تحجّ أو تعتمر في مستوى فندقي يصل إلى خمس نجوم، وأن تدفع مئات الآلاف من الجنيهات نظير إشباع إيمانك.
والإعلانات، على أي حال، لا تقسّم الناس طبقياً، وإنّما تلعب بخطاب عام، يجذب فئاتٍ بعينها إلى هذه السلعة أو تلك، ولكنّ انعكاسها في الواقع طبقيٌّ، بما يعني في النهاية القادر وغير القادر، خاصةً في مجتمعٍ مثل المجتمع المصري، يعاني معظم أسره وأفراده من أزماتٍ معيشيةٍ لا تنتهي، من الحصول على عمل، إلى الحصول على مسكن، إلى الزواج والتعليم والصحة.
وإذ تصنف مصر ضمن الدول متوسطة الدخل، فإنّ ذلك لا يعني أنّ جميع مواطنيها بوسعهم الحصول على جميع السلع والخدمات التي يحتاجونها، ولا يعني ذلك كذلك أنّ مصر في طريقها بعد سنواتٍ قد تقصر أو تطول، إلى أن تكون من الدول عالية الدخل، وفي الرطانة الاقتصادية، يقال إنّ مستويات الاستهلاك أعلى من مستويات الإنتاج، وإنّ الاستيراد أعلى من التصدير، وإنّ تفاقم انهيار الجنيه أمام الدولار، والتضخّم، وغير ذلك من أسباب اقتصادية معقدة، يجعل المجتمع المصري كما قيل قبل ثورة يوليو عام 1952 "مجتمع الواحد بالمئة"، أي النسبة الصغيرة من المواطنين التي بوسعها الحصول على كل شيء، من فيلا في كمباوند إلى رحلة حجّ أو عمرة خمس نجوم، فيما الكفاح والكدّ من نصيب معظم الناس، حيث الحياة على حدّ الكفاف، أو ما يسمّيه المصريون "السّتر".
لقد كان أحد أهداف ثورة يوليو 1952 هو "إزالة الفوارق بين الطبقات" ولم يتحقق ذلك، قياساً بمآل الأحوال بعد الانفتاح الاقتصادي في زمن السادات، واعتماد سياسات اقتصادية محابية، كانت تسمّى من بين أسماءٍ أخرى "باقتصاد المحاسيب"، بالإضافة إلى السير وراء وصفات صندوق النقد الدولي وقروضه، ما وضع مصر، وسيضعها دائماً، في أزماتٍ اقتصادية طاحنة، من أهم سماتها، إغناء فئات معينة وإفقار معظم الناس، وسيتولى الكلام الرسميّ ترميم المشاعر، كأنّ يقال إنّ على المصريين التحمّل من أجل مصر.
وبالعودة إلى الإعلانات، فإنّ منتجي السلع والخدمات، من الفيلا إلى معجون الأسنان، لا يعنيهم التمايز الطبقي أو تأثير منتجاتهم على المجتمع، بقدر ما يعنيهم الترويج للسلع وتسويقها وبيعها، وإن كانت الإعلانات بالطبع تبيع الوهم للجميع. فلا السكن في كمباوند في مصر سيجعلك من "صفوة المجتمع"، ولا استخدام هذا معجون الأسنان أو ذاك، سيجعل أسنانك أكثر بياضاً، ما لم تكن تتبع سلوكاً صحياً للحفاظ على أسنانك، ولا الحج الفندقي سيضمن لك مكاناً أعلى في الجنة.
سيخبرنا إعلانٌ عن مسحوق الغسيل الذي لا يترك أثراً من بقعةٍ على قميص ناصع البياض، فيما سيخبرنا إعلانٌ آخر عن المطهّر الذي يقضي على 99% من الجراثيم، فيما قد يكمن الوباء الفتّاك في الواحد في المئة التي لا يزيلها المطهّر
ولعلّ الصورة الأفدح في إطار الإعلانات على الشاشات التلفزيونية المصرية، هي تلك التي تتوالى فيها إعلانات الكمباوند مع إعلانات التبرع لبناء مستشفى أو التبرع لجمعية خيرية تساعد الفقراء، إذ يبدو التباين هنا وكأنّنا نعيش في بلدين، يعيش في أحدهما مجتمع الواحد في المائة، بينما يعيش 99% في البلد الثاني، والبلد الثاني هو المستهدف بإعلانات التبرع وحماية الفقراء والخطاب الرسمي عن الصعوبات الاقتصادية التي لا تمر بها مصر فقط، وإنما معظم دول العالم، كما تقول الرطانة الرسمية بجميع أبواقها، من مسؤولين وإعلاميين ومروجي أكاذيب عن الحالة الاقتصادية في مصر.
وسيخبرنا إعلانٌ عن مسحوق الغسيل الذي لا يترك أثراً من بقعةٍ على قميص ناصع البياض، فيما سيخبرنا إعلانٌ آخر عن المطهّر الذي يقضي على 99% من الجراثيم، فيما قد يكمن الوباء الفتّاك في الواحد في المئة التي لا يزيلها المطهّر، وإن قارنا ذلك بالثورات التي حدثت في مصر، سعياً إلى العدالة الاجتماعية والاقتصادية وإلى حياةٍ سويّة، فإنّ تلك الثورات ربما غيّرت أو قضت على الكثير، لكنّها لم تقض على الواحد في المئة، الذي يتحكّم في كل شيءٍ ويسيطر على كلّ شيءٍ ويفسد كلّ شيءٍ في حياة الأغلبية من الناس، التي عليها أن تتحمّل كذلك الخطاب الرسمي العاطفي السمج من أجل مصر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...