شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
الخبّيزة والعكّوب واللوف والدرار... الأعشاب طبق رئيسيّ على مائدة رمضان السورية

الخبّيزة والعكّوب واللوف والدرار... الأعشاب طبق رئيسيّ على مائدة رمضان السورية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

بيئة ومناخ نحن والبيئة

الاثنين 25 مارس 202406:17 م

"جنيبرة ومية فرا... ومية الخابور چدرة"، هو نداء لا يمكن أن يخرج من ذاكرتي، سمعته حينما كنت طفلاً من سيدة عجوز تردده كأغنية وهي تعرض بضاعتها من نبات عشبي اسمه "قنبيرة"، ينمو بشكل طبيعي، ويطهوه أهالي المحافظات الشرقية بطرق متعددة ويتناولونه وجبة خفيفة.

وترجمة النداء تعني أن ما تعرضه السيدة مقطوف من ضفاف الفرات التي تتفوق على مياه نهر الخابور من حيث النقاوة، فمياه الأخير تتصف بالعكر.

أذكر أن الربيع في طفولتي تلك كان موعداً لشهر رمضان، والقنبيرة وسواها من النباتات كانت طبقاً قد يمرّ مرة أو اثنتين على موائد الإفطار والسحور، لكن سنوات الحرب الأخيرة جعلت من العشبيات حاضرة بقوة في المطبخ السوري، لفقر أو لتوفير، وبات المثل الشعبي الدارج "نركض والعشا خبيزة"، توصيفاً دقيقاً لحال السوريين الذين يشقون نهاراً كاملاً، وكسبهم المادي لا يسمح بأن تكون وجبة عشائهم أكثر من الخبيزة، التي يمكن الحصول عليها بشكل مجاني من خلال قطافها من الأماكن المفتوحة، أو شراؤها بسعر رخيص من قبل إحدى السيدات اللواتي يجمعنها ليحصلن على مبلغ مالي صغير يكون بمثابة "بحصة تسند جرة".

تنوع البيئة السورية يعني بالضرورة تنوع الأطباق العشبية خاصة في رمضان الحالي.

الخبيزة هي النبات المتفق عليه في كل المحافظات السورية وبعض الدول العربية مثل لبنان وفلسطين وتونس، لكن تنوع البيئة السورية يعني بالضرورة تنوع الأطباق العشبية، فما يعرفه أهل الجزيرة والفرات كطبق لذيذ، قد يظنه سكان درعا أو الساحل نباتاً ساماً، والعكس صحيح، ولأن رمضان هذا العام يجيء في فترة إنبات الأرض لهذه الأعشاب، سيكون السوريون على موعد مع طبخ هذه الأعشاب، وهي قد تكون وجبة رئيسة لإفطار عوائل بات الوصول إلى "خط الفقر" حلماً لها، فهي تجاوزته انحداراً لمسافة بعيدة.

في الجزيرة العشبيات سند النازحين

في الجزيرة العليا شمال محافظة الحسكة، نجد أنواعاً عدة من النباتات العشبية، منها ما يؤكل بدون طبخ كثمار الخرنوب، التي تحضّر للأكل بغسلها ثم فركها على سطح خشن، قبل أن يضاف لها حمض الليمون داخل كيس بلاستيكي، ثم يضغط تحت حجر كبير لليوم التالي، فتخرج الثمار من الكيس ويضاف الملح قبل الأكل.

إلى جانب نبات له اسمان، فالعرب يسمونه "قصّيب"، والكرد يسمونه "قيفار"، وهو نبات ذو أوراق شوكية، يتم أخذ الساق وتقشيرها ثم أكلها مباشرة.

وتقول الصحفية رغد المطلق في حديثها لرصيف22: "تعرف المنطقة هنا أطباق القنيبرة والكعوب أو العكوب والخبيزة، والنبات المميز لدينا هو المرْيَر، وهو شوكي الأوراق، تؤخذ سيقانه ويقشر جيداً ثم يقطع ويلقى مع الزيت والبصل، بطريقة تشبه تحضير الخبيزة".

الخبّيزة والعكّوب واللوف والدرار... الأعشاب طبق رئيسيّ على مائدة رمضان السورية

الكعوب أو العكوب هو أيضاً نبات ذو أوراق شوكية، لكنه أصغر من المرير والقصيب، ويحضر بالطريقة المعتمدة لبقية العشبيات، التي باتت تؤكل خاصة من قبل سكان المخيمات العشوائية كوجبات رئيسية.

تضيف رغد: "في ظل نقص الدعم وقلة فرص العمل والموارد، تقطف النساء هذه النباتات من المساحات البرية وقرب مجاري الأنهار أو قنوات الري، ويحضرنها كوجبات لعوائلهن، أو يبعنها في أسواق المدن والتجمعات السكانية القريبة".

ويزداد الأمر صعوبة في رمضان كما تقول، إذ ترتفع أسعار كل المواد إلا هذه العشبيات، فلا يكون هناك توازن بين ما تجنيه النسوة من مال جراء بيعها وبين أسعار المواد الأساسية، والحديث عن تحول هذه النباتات لوجبات رئيسية للإفطار أو السحور لعدد كبير من السكان، خاصة النازحين، بات أمراً طبيعياً.

في الساحل "قرص عنة" و"دعسة القط"

شذا أحمد ربة منزل من إحدى قرى اللاذقية، تشرح لرصيف22 طريقة تحضير القرص عنة والهندباء، وهما نباتان ينموان بشكل طبيعي في قرى الساحل السوري، طبخهما يبدأ بدعكهما بالملح بعد تقطيعهما بشكل ناعم، والدعك بقصد التخلص من الطعم المر، وبعض السيدات يفضلن إبقاء هذا الطعم، وبعد ذلك يقطعان ويقدمان مع البصل وزيت الزيتون كنوع من السلطات، ويمكن أن تضاف الطحينة، ويقدم معهما البصل الأخضر واللبن الرائب.

تضيف السيدة الثلاثينية: "تطبخ الخبيزة والمسيّكة بشكل منفرد، أو تمزجان مع السلق، بتقطيع الأنواع الثلاثة بشكل ناعم وسلق الخليط قليلاً قبل قليه مع الزيت والبصل المفروم، ما ينتج عنه وجبة لذيذة".

كما يوجد نبات يعرف باسم دعسة القطة أو لبيس القطة، ينمو بشكل طبيعي في ريف اللاذقية، ويستخدم كحشوة للفطائر، فيقطع بشكل ناعم جداً مع البصل، وبعد دعك الخليط بشكل جيد وعصره، يضاف له الملح وزيت الزيتون، وتحشى به الفطائر وتشوى على الصاج.

وفق شذا، فإن هذه الأطباق مفيدة في رمضان لجهة كميات الحديد الموجودة في الأوراق الخضراء عموماً، وهي ملين طبيعي للمعدة، وفي الوقت نفسه توفر الكثير من المال. وتقول: "البعض يعتبرها مكملة لمائدة رمضان بوصفها مقبلات، لكن هناك من يعتبرها المائدة كاملة".

في ظل نقص الدعم وقلة فرص العمل والموارد، تقطف النساء هذه النباتات من المساحات البرية وقرب مجاري الأنهار أو قنوات الري، ويحضرنها كوجبات لعوائلهن، أو يبعنها في أسواق المدن والتجمعات السكانية القريبة

بدورها تتحدث شاديا إبراهيم لرصيف22 عن طبق عشبي يعرف باسم "اللوف"، تشتهر به محافظة طرطوس، وهو نبات يتسبب تقطيعه بدون ارتداء قفازات حساسية وحكة في اليدين.

وتشرح: "يقطع اللوف بشكل ناعم جداً مع نبات بري آخر هو الحميضة، وقد يستعاض عن هذا النبات بالسماق، ثم يوضعان في وعاء على نار ويقلبان حتى جفاف ما تبقى من ماء الغسل، بعدها يضاف الزيت والسماق مع كمية من الماء، ويسلق الخليط جيداً، وقد يضاف لهذه المرحلة قدر قليل من البرغل، وحين اقتراب المرحلة النهائية تضاف كمية ثانية من الزيت وعصير الليمون أو السماق، بهدف إزالة مسببات الحساسية التي قد تظهر على اللسان إذا ما أكل اللوف من دون تحضير جيد".

وتلفت إبراهيم إلى أن اللوف ذا طعم شهي يمكن تشبيهه بطعم الملوخية، وهناك من يفضل هذه الوجبة بكمية زائدة من الماء.

تضيف إبراهيم: "هناك نباتات برية أخرى يأكلها سكان طرطوس مثل السليق والمقسيطة والسلبين، ويصعب العثور عليها في المناطق البرية بكميات كبيرة، لذا يكون سعرها في السوق مرتفعاً، وهناك تشابه بطريقة التحضير مع بقية النباتات العشبية، من خلال القلي مع البصل المفروم والزيت، وقد يضاف للمقسيطة الحمص المسلوق".

الخبّيزة والعكّوب واللوف والدرار... الأعشاب طبق رئيسيّ على مائدة رمضان السورية

هذه الأطباق ذات قيمة غذائية عالية، كانت توجد على المائدة كطبق إضافي أو وجبة عشاء خفيفة، لكن ظروف الحرب والفقر المنتشر في قرى الساحل كحال الكثير من المناطق السورية حوّلها إلى وجبات رئيسية في موسم قطافها، وليس غريباً أن تكون هي الوجبة الرئيسة على مائدة الإفطار الرمضاني في ظل انخفاض القدرة الشرائية لدى غالبية سكان الأرياف.

جنوباً جنينة العصفورة والدرار

تتحدر الصحافية نسرين علاء الدين من ريف محافظة القنيطرة، وعن العشبيات المنتشرة في منطقتها تقول لرصيف22: "هناك نباتات تطبخ بشكل منفرد أو مع شوربة العدس، مثل جنينة العصفورة والشومر والدرار، والأخير مر لكنه يصبح ذا طعم حلو بعد غسله وعصره بشكل جيد، وتقلى هذه النباتات بالزيت والبصل المفروم، وتقدم وحدها أو تضاف لشوربة العدس".

وتضيف حول نباتات أخرى مثل البقلة التي تحشى بها الفطائر، والخبيزة التي يتم التعامل معها على إنها وجبة من خلال قليها مع البصل المفروم بزيت الزيتون، وإضافة القليل من عصير الليمون.

الفطر البري الذي يعرف باسم "فطاريش"، هو أيضاً من النباتات التي تقطف بقصد الأكل، الفقراء من السكان يقلونه مع الزيت والبصل، فيما الأكثر غنىً يستبدلون الزيت بالسمن أو الدهن الحيواني. وهناك نباتات تؤكل بدون طبخ مثل العصية (القرة) والعلت والرشاد، إلى جانب وجبة ما، أو من خلال لفها بقطعة خبز مع بعض الزيت ورشة ملح.

هذه الأطباق ذات قيمة غذائية عالية، كانت توجد على المائدة كطبق إضافي أو وجبة عشاء خفيفة، لكن ظروف الحرب والفقر حوّلتها إلى وجبات رئيسية في موسم قطافها، وليس غريباً أن تكون هي الوجبة الرئيسة على مائدة الإفطار الرمضاني في ظل انخفاض القدرة الشرائية

وتشير علاء الدين إلى أن "هناك عوائل باتت تعتمد هذه العشبيات كأطباق رئيسة في ريف القنيطرة بسبب الفقر الشديد، وذلك في رمضان أو سواه، فيما لا يزال عدد جيد من الأسر يتعامل معها كإضافات إلى المائدة، أو وجبة خفيفة لا أكثر".

وحسب ما تفيد به علاء الدين فإن هناك نساء يعملن بقطاف هذه النباتات من الوديان أو ضفاف الأنهار، بهدف بيعها في أسواق القنيطرة أو دمشق، والفقر هو الدافع الأساس لذلك.

الخبّيزة والعكّوب واللوف والدرار... الأعشاب طبق رئيسيّ على مائدة رمضان السورية

في الهوامش

إذا حاولنا إعادة الأمر إلى مرجع تاريخي، للإجابة عن سؤال متى وأين بدأ طبخ الأعشاب في سوريا، يتحدث مثلاً موقع diegobonetto الأسترالي المختص بدراسة أصناف النباتات، عن أن "نبتة الخبيزة عُرفت كمصدر غذائي مهم في القرن الثالث قبل الميلاد، وبدأ سكان حوض المتوسط بإعدادها مع البصل والزيت أو الأرز والبرغل، في بلدان مثل فلسطين واليونان وتركيا".

ولعل بعض الأحداث القاسية التي مرت بها سوريا، مثل سنوات الجوع بداية القرن العشرين، ساهمت بانتشار أو إعادة انتشار تناول هذه الأعشاب كأطباق أساسية وهامة، نظراً لقيمتها الغذائية وانخفاض تكلفتها.

لكن المؤكد أن بعض السوريين باتوا خلال السنوات الخمس الأخيرة، يبحثون في أي مسطح عشبي أو في مساحات البرية أو مجاري الأنهار أو الغابات عما يمكن أن يتحول إلى "طبخة"، ففي ظل الوضع الاقتصادي الصعب فإن تكلفة أقل وجبة جيدة لأربعة أشخاص لا تقل عن خمسين ألف ليرة (ثلاثة دولارات ونصف)، وهو مبلغ ليس بمتناول الجميع كل يوم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ما أحوجنا اليوم إلى الثقافة البيئية

نفخر بكوننا من المؤسّسات العربية القليلة الرائدة في ﻣﻴﺪﺍﻥ ﺇﺫﻛﺎﺀ ﺍﻟﻮﻋﻲ البيئيّ. وبالرغم من البلادة التي قد تُشعرنا فيها القضايا المناخيّة، لكنّنا في رصيف22 مصرّون على التحدث عنها. فنحن ببساطةٍ نطمح إلى غدٍ أفضل. فلا مستقبل لنا ولمنطقتنا العربية إذا اجتاحها كابوس الأرض اليباب، وصارت جدباء لا ماء فيها ولا خضرة.

Website by WhiteBeard
Popup Image