نعيش شهر رمضان بعهود نقطعها بالسعي للاعتدال بمأكلنا وعاداتنا، رغبةً في أن تمنحنا هذه العبادة السكون والتوازن، كجزء مما تحمله من قيم وفلسفة. مع هذا السعي للاتزان وتجنب المبالغة في الانفاق، تحضر البيئة والحاجة لتجنب الاستهلاك المفرط سؤالاً ملّحاً.
إن كانت الولايات المتحدة تنتج نفايات أكثر بنسبة 25% بين عيد الشكر ورأس السنة الجديدة، فهل يمكن في المقابل أن يكون رمضان موسماً لمحاربة الاستهلاك؟
بيّنت دراسة صادرة في عام 2015 أن استخدام السلع المنزلية المتنوعة وما ينتج عنها من نفايات مسؤول عن 60 بالمئة من انبعاثات الغاز الدفيئة العالمية. بناءً على هذه الدراسة راودنا السؤال التالي: هل يمكننا إن التزمنا بالصيام، كممارسة تدعو للابتعاد عن البذخ والإسراف، أن نساهم بالتخفيف من استهلاكنا المنزلي من غذاء ومستلزمات منزلية، بالتالي أن نساهم بالتخفيف من النفايات وبقايا الطعام؟
يأخذنا الشق الأول من السؤال للبحث في مدى كون الصيام ممارسة تساهم في تخليص الجسد من السموم في حال اعتدالنا بالاستهلاك، والذي يقودنا بدوره لاستطلاع كيفية مساهمة ذلك بالتخفيف من الضرر الحاصل على البيئة. لذا، للإجابة على ما سبق، أجرى رصيف22 لقاء مع اختصاصية التغذية والمهندسة الغذائية رولا علوش ومع زاهر هاشم وهو كاتب وصحفي متخصص بقضايا البيئة وتغير المناخ.
هل يمكننا إن التزمنا بالصيام، كممارسة تدعو للابتعاد عن البذخ والإسراف، أن نساهم بالتخفيف من النفايات؟
الإفطار المتنوع
في حديثها تقول رولا علوش إن "الصيام بالحالة المثالية هو الصيام الذي يكون فيه الفطور مقتصراً على غذاء متوازن وصحي لا يسبب التخمة، ولا يحتوي على الدسم أو الدهون خاصة بسبب قلي الطعام أو طبخه باستخدام كميات كبيرة من الزيوت، ويجب أن تكون كمية الطعام غير مبالغ بها. هذا النوع من الصيام الذي يساهم في تخليص الجسم من السموم"، وتضيف: "عندما يكون الجسم في حالة من إنتاج منخفض للسكريات ينتج هرمون النمو growth hormone الذي يساهم بتجدد الخلايا".
وفي سؤالها عن مكونات الإفطار الصحي تقول: "هو ما يحتوي على المجموعات الغذائية الخمسة، أي الخضار التي تحتوي الألياف (ومنها السبانخ والجرجير الذين يمنحنا الحديد والطماطم وغيرها)، والبروتينات (منها البيض والبقول واللحوم)، والنشويات المعقدة (الحبوب الكاملة والمدعوة بالحبوب السمراء وليس البيضاء ومنها الرز الكامل والبرغل والفريكة)، والألبان والفواكه".
وتذكر علوش أن شوربة العدس، وهي من الأطباق الرمضانية التقليدية، تحتوي على البروتين الذي يحتاجه الجسم. كما تبين أن التلوين بالخضار يساهم بتنويع الفيتامينات التي نحصل عليها، "فالفليفلة بألوانها الثلاث تمنح فيتامين سي والجزر فيتامين ألف، وكلما أضفنا ألواناً من الخضار كلما نوعنا بالفيتامين الذي نحتاجه، ويمكن مع تناول الألبان الحصول على الشبع. كما تمنح الفواكه السكريات الأساسية وتساعد على تجنب السكر الأبيض".
بعد وصف علوش لمكونات الفطور الصحي تحدثت عن شكل الإفطار الأمثل والذي ترى أن يأتي على مرحلتين: "في المرحلة الأولى يتم تناول الماء مع كأس من الحليب أو اللبن وتمر أو تفاحة. بعد عشر دقائق ومن الممكن بعد أداء الصلاة أن نتناول الوجبة الرئيسية. يساهم هذا التقسيم بمنح الجسد فترة استراحة لتجنب التخمة ولتهيئته لتناول الطعام، وعلاوة على ذلك، يساعد هذا الفاصل على تناول طعام أقل".
وفي إجابتها عن السؤال هل الصيام بمثابة ديتوكس للجسد detox (تطهير له من السموم) تقول: "عملية التطهير هي فعل يقوم به الجسم بشكل يومي من خلال الكبد والأمعاء اللذين يخلصاننا من السموم. كلمة ديتكوس هي مصطلح يستخدم بشكل رائج (ترند)، لكن جسدنا مصمم للتخلص من السموم والفضلات بشكل طبيعي، ويمكننا مساعدته من خلال الطعام الصحي والوجبات الصغيرة. للصيام دور بالتقليل من التهاب الخلايا ومن تلفها والمساهمة بتجديدها".
يمكن أن يكون شهر رمضان فرصة لإعادة تصحيح النظام البيئي وتخليص البيئة من سمومها كنظام ديتوكس، في حال اتباعنا عادات غذائية واستهلاكية سليمة ومستدامة تتمثل بشراء ما نحتاج إليه فقط، واستهلاك ما نشتريه بالكامل
ممارسات مسيئة للبيئة
وفيما يتعلق بالبيئة والاستهلاك في رمضان يبين زاهر هاشم: "من المفترض نظرياً أن يساهم صيام رمضان بتخفيض الاستهلاك والاقتصاد في الطعام والابتعاد عن الهدر والإسراف، تماشياً مع غايات شعيرة الصيام، وأي تخفيض في الاستهلاك يساعد في تخفيف الأثر البيئي للغذاء، كتقليل استهلاك الموارد وتقليل البصمة الكربونية أي الغازات الدفيئة الناتجة عن إنتاج ونقل واستهلاك الغذاء والتعامل مع النفايات الغذائية"، يضيف هاشم موضحاً: "لكن في الواقع فإن كميات كبيرة من الطعام تهدر على مدى فترات قصيرة خلال شهر رمضان، ويقدر برنامج الأمم المتحدة للبيئة أن ما بين 25% إلى 50% من الطعام المجهز يُهدر في شهر الصوم".
ويتابع هاشم حول هذه النقطة: "يميل الناس خلال هذا الشهر إلى شراء كميات تزيد عن احتياجاتهم، عدا عن استضافة الأصدقاء والأقارب على موائد الإفطار، أو تناول الإفطار في المطاعم التي تُعِد كميات كبيرة من الطعام، ونظراً لقصر مدة الإفطار فإن كميات كبيرة منه تهدر ولا يعاد استهلاكها في اليوم التالي. تشير بعض التقارير إلى أن الفرد في المنطقة العربية يهدر في رمضان ما يصل إلى 350 كيلوغراماً من الطعام".
لذا يبين هاشم أثر هذه الممارسات على البيئة: "يترك هذا الإهدار الضخم في الأغذية آثاراً سلبية، خصوصاً مع استهلاك كميات كبيرة من اللحوم ذات الأثر الضار على البيئة، إذ تشكل الانبعاثات الناتجة عن الثروة الحيوانية ما يعادل 11.2% من إجمالي انبعاثات الغازات الدفيئة عالمياً، كما تستهلك الزراعة 80% من موارد المياه العالمية الشحيحة أصلاً، كما يحتاج إنتاج الغذاء إلى استهلاك كميات كبيرة من الطاقة الأحفورية خلال عمليات الزراعة والإنتاج والنقل والتصنيع والحفظ والتبريد، لذا فإن أي استهلاك زائد للأغذية سيترك بصمة بيئية وكربونية كبيرة على البيئة".
لا يتوقف الأمر على الضرر الحاصل تجاه البيئة على المدى البعيد، بل يطال المواطنات والمواطنين بسبب غلاء المعيشة نتيجة ما سبق من ممارسات، فيقول الأخصائي: "يؤدي الاستهلاك الفائض أيضاً إلى نقص عدد من السلع الأساسية وارتفاع ثمنها قبل وخلال شهر رمضان، وهو ما يترك آثاراً اجتماعية كبيرة على الفئات المحتاجة والمحدودة الدخل وبالتالي حرمانها من مواد غذائية هامة".
كلمة ديتكوس هي مصطلح يستخدم بشكل رائج (ترند)، لكن جسدنا مصمم للتخلص من السموم والفضلات بشكل طبيعي، ويمكننا مساعدته من خلال الطعام الصحي والوجبات الصغيرة. للصيام دور بالتقليل من التهاب الخلايا ومن تلفها والمساهمة بتجديدها
لكن في سبيل مواجهة هذه الممارسات السلبية يرى هاشم: "يمكن أن يكون شهر رمضان فرصة لإعادة تصحيح النظام البيئي وتخليص البيئة من سمومها كنظام ديتوكس، في حال اتباعنا عادات غذائية واستهلاكية سليمة ومستدامة تتمثل بشراء ما نحتاج إليه فقط، واستهلاك ما نشتريه بالكامل، والتغلب على العادات الشرائية السيئة وثقافة المبالغة في الضيافة والتي تتعارض مع غايات الصوم وفضائله".
يحمل رمضان لنا السرور والبهجة بطقوسه التي تدعو للتفكير بالغير، وتحض على تجنب البذخ والتوفير بالإنفاق، وتتلاقى هذه القيم مع الأخلاقيات التي تدعو للحفاظ على البيئة بتجنب المبالغة في الاستهلاك. كما يحثنا الصيام على ضبط النفس وعلى الامتناع عن تلبية رغباتنا دون حساب، مما يذكرنا بما يحتاجه كوكبنا من ضرورة تخفيف عجلة الاستهلاك وضبط الرغبات الجارفة التي باتت تستهلك مصادر الأرض وترهقها بالمخلفات والفضلات. شهر رمضان خير دعوة للنظر لكوكبنا كهبةٍ تستوجب الحفاظ عليها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين