شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"دفنوا أقدامهم وأكملوا طريق النزوح"... عن المبتورين في غزّة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والمشرّدون

الاثنين 18 مارس 202412:59 م

جميعنا جربنا غياب شخص قريب، وكانت ردّة فعلنا الأولى أننا لم نتقبل أو نصدق، إلّا أن الوقت يفرض نظريته في التقبل والتعايش مع هذا الغياب، أمّا أن يكون الغائب عضواً منك، فكيف يكون هذا الأمر؟

أن يفقد الإنسان عضواً ليس بالأمر الذي يمكن أن نتخيله، إن الإحساس بقدم مبتورة والتعامل مع هذا الشعور شيء مرعب جداً، خاصة في البداية، كأن يستيقظ شخص في منتصف الليل يريد أن يحك أحد أصابعه فلا يجده، أو أن يجلس بين الناس فيشعر فجأةً أنه بحاجة لأن يثني ركبته ولكنه يُصدم بغيابها، أو أن يأتي شعور الوخزّ أو الحرارة في الفخذ وعندما ترفع الغطاء تختفي هذه الفخذ.

شاهدت الدود يخرج من قدمي

يقول نسر (19 عاماً):" لم يتقبل دماغي بعد أن قدمي اليمنى انفصلت عن جسدي، كعبي يحكني، ساقي تؤلمني، أريد أن أطق أصبعي، ففي لحظة أشعر أن قدمي موجودة فعلاً فأنظر إلى مكانها ولا أجدها، وجع في الجرح نادراً ما أشعر به، ويكون بعد الغيار عادةً، أمّا أغلب ألمي فهو في الكعب الغائب".

بتر الأطباء قدم نسر بعد إصابتها بالغرغرينة إثر الجرح المفتوح دون علاج، كان قبل ذلك شاباً يلعب كرة القدم، ويحب السباحة، يضحك كمن لا يرى حزناً أبداً حتى جاءت الحرب فنزح أفراد عائلته من بيتهم كباقي سكان غزّة، إلى مدرسة تابعة لوكالة الغوث وتشغيل اللاجئين - الأونروا- في مخيم النصيرات. 

لا يتقبل الدماغ البشري فكرة انفصال العضو عن الجسد بسرعة، من غزة شهادات عن أشخاص يشعرون بالحكة والنمنمة وحتى الألم في أعضاء لم تعد موجودة

كان يجلس في أحد الطوابق بين أهله، يضحك معهم، يأخذ من الحديث شقاوته، لكن الحرب ترفض رفاهية الفرح فيها، وتأخذ أجمل ما نملك، فسقط بين ضحكات نسر صاروخ طائرة حربية مباشرة على قدمه، انفجرت القدم والصاروخ معاً، تطاير اللحم على أخته التي كانت إلى جانبه، أمسك بنطاله بكل ما تبقى فيه من قدم وأخذ يقفز كالكنغر حتى دخل الفصل، نزف كثيراً رغم أن أمه التي تعمل ممرضة فكّت حجابها وأحضرت حبل غسيلٍ وربطت قدمه.

الانتقال إلى المستشفى كان عبر عربة الحمار " الكارة" مع عدد من الشهداء، لعدم السماح لسيارات الإسعاف بالوصول إلى المكان، في مستشفى شهداء الأقصى، حشا من استقبله جزءاً من بنطاله والقطن داخل الجرح، ثم بدأت رحلة تحويله من مستشفى إلى آخر، كمن يمرر الكرة بين أعضاء فريقه لأن الخصم في المنتصف، يحاصره، حتى وصل إلى مستشفى الأوروبي، حيث أجريت له عملية البتر بعد أكثر من عشرة أيام من الإصابة، كانت قدمه قدّ تعفنت واحتلها الدود. يقول نسر "لم أر يوماً بشرياً حياً يخرج منه الدود، أنا لاعب كرة أريد قدمي، لكنهم بدل ذلك أخرجوا منها الدود وبتروها".

وعن الشعور الوهمي، قال :"أتمنى للحظة أن تستمر هذه القدم الوهمية، ربما أجدها يوماً نبتت، لكن في لحظة ثانية أكره هذا الأمل، أكره الشعور بقدم غير موجودة، وأكره أكثر الشعور بالوهم لأنني في هذه الفترة عشت وهماً وأملاً كبيرين، ألا تموت قدمي، أن أكون على أمل أني الشخص التالي الذي سيدخل غرفة العمليات، الأمل الذي صرنا ننتظره هو أن ننقذ ما تبقى من أعضائنا".

بتر في الكعب والكبد

أمّا ياسمين (33 عاماً)، ففقدت قبل أربعين يوماً قدمها في عملية بتر بعد إصابتها واستشهاد جنينيها "التوأم" وابنتها ذات الأعوام الستة عشر في أحد الملاجئ التي زعم الاحتلال أنها آمنة، هكذا فقدت كل شيء في يوم واحد، كانت تجلس في اتحاد الكنائس مع عائلتها عندما اقتحمت قذيفة للاحتلال خصوصيتهم المستباحة أصلاً بعيداً عن دفء منزلهم، فأخرجت الأوعية من قدمها وانتشر الدم في كل مكان. 

تعرض نسر لإصابة بقذيفه في قدمه، وبعد 10 أيام من التنقل من مكان إلى آخر والنزوح بدون علاج، اضطر الأطباء لبترها، يقول: "أنا لاعب كرة قدم، أريد قدمي، لكنهم بدلاً من علاجها أخرجوا منها الدود ثم بتروها".

بعد أربعين يوماً من الإصابة، بتر الأطباء في مستشفى الأوروبي قدمها، وبعد 3 أيام من البتر شعرت ياسمين بأنها تملك قدماً كاملة، هناك بعض الكهرباء التي تصيبها وتشعرها أيضاً بأصابعها، ولتشتيت نفسها تحاول الالتهاء بالقدم الأخرى، كثيراً ما يراودها شعور الإمساك بقدمها فور الإحساس بها، إلّا أن في كل مرة تحاول فعل الأمر تختفي قدمها.

حصلت ياسمين على تنسيق من الصليب الأحمر للخروج من مستشفى الشفاء إلى جنوب القطاع لتحصل على فرصة علاج أفضل خارج هذه المدينة، إلّا أن فترة الانتظار أجبرتها على التخلي عما يقترحه الأطباء، مثلها مثل نسر، ياسمين كانت أكثر من أربعين يوماً مصابة دون أن تحصل على أي مسكن ألم بسبب حملها، وعندما وصلت الأوروبي اكتشفت أن جنينيها التوأم كانا مصابين مما أدى إلى استشهادهما أيضاً.

نمنمة وهمية

كان زوج سلوى يجلس مكان القدم المبتورة عندما قالت له إنها تشعر بخدر في أسفل قدمها، ارتعب من الجملة وقفز عن السرير "بسم الله" كمن مسه الجن، كيف يمكن أن يشعر الإنسان بعضوٍ غير موجود؟ 

بعد 3 أيام من البتر شعرت ياسمين بكهرباء في قدمها، كثيراً ما يراودها شعور الإمساك بها، إلّا أنها "تختفي" في كل مرة كما تقول

أصيبت سلوى (25 عاماً) بشظايا صاروخ أمام أحد مراكز الإيواء، ففقدت ساقها من الأعلى على الفور، مكثت في مستشفى الشفاء بعد أن حاولوا ترميم الساق مرّة أخرى. تحاول التأقلم مع قدمها الوهمية، إلّا أن الاحتلال حرمها حتى فرصة أن تأخذ ولو القليل من العلاج من بعض المتدربين والممرضين دون وجود أطباء، طلب الاحتلال منهم مغادرة مشفى الشفاء مرّة أخرى بعد أن حاولوا ترميمه. تعيش سلمى من فترة لأخرى الشعور الوهمي لنمنمة في القدم المبتورة.

الطرف الغائب

الألم الوهمي أو الطرف الشبحي يعرف علمياً بأنه "إحساس من بترت أطرافه أو فقدت بوجودها والتصاقها بالجسم، فيشعر الإنسان أن الجزء المبتور ما زال يتحرك مع أجزاء جسمه الأخرى، أو يشعر بألمٍ وهمي في الطرف الغائب". 

ذكر طبيب الأعصاب الأمريكي سيلاس وير ميتشل هذا المصطلح لأول مرّة عام 1871، وبعد عام كتب: "تقريباً كل رجل يفقد أحد أطرافه يحمل معه شبحاً ثابتاً أو متقلباً للعضو المفقود، وشبحاً حسياً لذلك الجزء من نفسه، وأحياناً حضوراً مزعجاً للغاية، يشعر به بشكل ضعيف في بعض الأحيان، ولكنه جاهز للاستدعاء إلى إدراكه بضربة أو مس أو تغير الريح».

قبل ذلك قال الجراح الفرنسي العسكري أمبرواز باري عام 1551 عن ألم الأطراف الشبحية "إن المرضى، بعد فترة طويلة من إجراء البتر، يقولون إنهم لا يزالون يشعرون بألم في الجزء المبتور".

فهل "غزة" هي العضو المبتور من فلسطين، التي ستظل تؤلمها حتى لو لم تعد موجودة؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

لعلّ تعريفنا شعوباً ناطقةً بالعربية لم يعد يستقيم من دون الانتباه إلى أننا صرنا شعوباً متفلّتةً من الجغرافيا. الحروب الدائرة في منطقتنا والنزاعات الأهلية والقمع، حوّلتنا إلى مشردين، بين لاجئين ونازحين، وأي تفكير في مستقبلنا لم يعد ممكناً من دون متابعة تفاصيل حياة الجميع، أينما كانوا، وهو ما نحرص عليه في رصيف22. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image