شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
جناية سينمائيين مصريين على الأفلام الوثائقية... هل آن وقت الاستدراك؟

جناية سينمائيين مصريين على الأفلام الوثائقية... هل آن وقت الاستدراك؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن وحرية التعبير

الخميس 14 مارس 202411:49 ص

منذ زمن بعيد، نحو خمسة وعشرين عاماً، قرأت مقالاً للدكتور ناجي فوزي عن فيلم "صراع في الوادي" (1954)، مصحوباً بملصق إعلاني (بوستر) للفيلم الذي كان عنوانه "أرضنا لنا"، ربما كان اقتراح علي الزرقاني كاتب السيناريو والحوار، فلا أظن يوسف شاهين يستهويه إلا عنوان "صراع في الوادي".

وبتنويعة فيها تشابهات بقدر ما تحمل من الاختلاف، جاء فيلم "صراع في الميناء" (1956)، على هوى عمر الشريف وفاتن حمامة، وسيكون الفيلم شاهداً على طيّ صفحة، وبدء أخرى، في قصة نجمة مصر الأولى آنذاك والشاب عمر الذي ينطق اللهجة المصرية بطريقة خواجاتي. وتسبب فيلم "صراع في الميناء"، وزواج بطليْه، في الفراق بين شاهين والشريف.

تقصّي عنوان "أرضنا لنا" نبهني إلى باحث يحترم عمله، ويراعي التدقيق والتوثيق، بترشيد يخلو من التباهي، وهذه فضيلة أحيي أصحابها، وهم قلّة، فهناك الكثيرون ممن يختزنون الغرائب، ويبتذلونها لغايات تجارية. أما الباحثون الجادون فيستندون إلى المعلومة في الاستدلال على معنى، باقتصاد في الكلمات، والنأي عن استنزاف أرصدة تايوانية من ألفاظ ومأثورات مضغتها الأجيال، واستهلكت طاقتها الدلالية. أحببت هذا الدأب في جهود اثنين آخرين، هما المخرج محمد كامل القليوبي (1943 ـ 2017)، والناقد السينمائي المترجم أحمد يوسف (1947 ـ 2018). لي مع كليهما وقائع دالة على احترام الدقة، دقة المعلومة والعبارة، وليس الآن ولا هنا مكان ذِكرها، فالمقام يخص مهرجان الإسماعيلية.

تعددت الدراسات الخاصة بالسينما الوثائقية في مصر، فضلاً عن مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية والقصيرة منذ انطلاقه عام 1991، ومشاركة الأفلام الوثائقية في كل المهرجانات المصرية، وانتشار الفضائيات التلفزيونية المهتمة بإنتاج هذه الأفلام. هذا كله يذيب عقدة الاضطهاد الملازم للأفلام الوثائقية 

اليوبيل الفضي لمهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة (28 شباط/فبراير ـ 5 آذار/مارس 2024) دورة استثنائية، بأفلامها وأنشطتها الثرية، وحرص رئيس المهرجان الناقد السينمائي عصام زكريا على إصدار الكتب والدراسات المرجعية، ومن إصدارات هذه الدورة كتاب "مدخل إلى دراسات السينما التسجيلية" لناجي فوزي.

غلاف كتاب "مدخل إلى دراسات السينما التسجيلية"

مقدمة الكتاب تغني عن إهدائه إلى المخرج مدكور ثابت (1945 ـ 2013) رئيس أكاديمية الفنون السابق، صاحب اقتراح هذا الكتاب على المؤلف، عام 2005. وفي العام التالي تقاعد الدكتور مدكور ثابت؛ فتعطل نشر الكتاب، شأن مشاريع مصرية كثيرة ينجزها أصحابها بحماسة مسؤولين وإيمانهم بكفاءة غيرهم، وفي غياب تقاليد "المؤسسات" تتعطل؛ لأنها لا توافق أمزجة موظفين كارهين للبشر.

هذا الكتاب، البالغ 742 صفحة، رصدٌ بانورامي لتاريخ دراسات الأفلام الوثائقية في مصر، ولنظرة السينمائيين والباحثين إلى سينما تحاول التحرر من الظلم التاريخي. يذكر ناجي فوزي أن بداية التأريخ للسينما المصرية، في المصادر الأجنبية، تجاهلت نشأة الأفلام الوثائقية وتطورها. ولا أظن هؤلاء الباحثين الأجانب قد أتيحت لهم مشاهدة البدايات المبكرة للرائد محمد بيومي، وقد عثر عليها المخرج محمد كامل القليوبي، واستند إليها في فيلمه الوثائقي "محمد بيومي ووقائع الزمن الضائع"، وأعاد اكتشاف أعداد من جريدة "آمون" السينمائية، توثق جانباً من ثورة 1919، بعودة زعيمها سعد زغلول من المنفى، واستقبال الشعب له في القاهرة. فكيف نظر السينمائيون المصريون إلى السينما الوثائقية؟

يجيب ناجي فوزي بأن الباحثين المصريين عندما بدأوا "الاهتمام العلمي بتاريخ السينما المصرية، فإننا نجد تجاهلاً، يكاد أن يكون تاماً لفكرة أن تاريخ السينما التسجيلية في مصر هو جزء من تاريخها السينمائي"، ويستشهد بالمخرج جلال الشرقاوي الذي قدم في فرنسا، عام 1962، رسالة علمية عن تاريخ السينما المصرية، ترجمت إلى العربية عام 1970، وهي "تخلو تماماً من دراسة تاريخ السينما التسجيلية في مصر، عدا إشارات مقتضبة جداً، وغير مقصود بها دراسة هذا التاريخ". يعتب الشرقاوي على مؤرخي السينما العالمية إهمالهم تاريخ السينما المصرية، وفي الوقت نفسه يجعل حظ السينما الوثائقية المصرية "عدة سطور معدودات متفرقات في ثلاثة مواضع من الرسالة".

في خمسينيات القرن العشرين استقرت المعرفة بأفلام وثائقية مصرية، منها فيلم "الحج إلى بيت الله الحرام". أنتج عام 1936، وشاركت به مصر في بينالي فينيسيا عام 1937. وبعد ثورة 1952 أنتجت أفلام عن قضية فلسطين، وعن السد العالي والإصلاح الزراعي ومحو الأمية. وفي عام 1967 تأسس المركز القومي للأفلام التسجيلية، كما أشرف المخرج شادي عبد السلام على مركز الفيلم التجريبي. لكن إلهامي حسن، عام 1970، قدم دراسته "تاريخ السينما المصرية 1896 ـ 1970"، واكتفى بالسينما الروائية، فلم يذكر السينما الوثائقية إلا بإشارات مقتضبة إلى الدور التأسيسي لمحمد بيومي، "وكأن تاريخ السينما التسجيلية في مصر ليس جزءاً من تاريخ السينما المصرية".

ملصق مهرجان الإسماعيلية الدولي

وفي عام 1982، نشر الباحث السوري جان الكسان كتابه "السينما في الوطن العربي"، وخصص سبعاً وستين صفحة للسينما المصرية، "تقتصر على جانبها الروائي فقط، من دون أي إشارة للسينما التسجيلية". ثم حظيت السينما الوثائقية باهتمام مخرجين ونقاد، مع تفاوت في البحث العلمي، حتى إن كتاب "السينما والسياسة في مصر 1961 ـ 1981" لدرية شرف الدين، وهو في الأصل أطروحة دكتوراه، "يخلو من البحث في العلاقة بين السياسة والسينما التسجيلية في مصر. ليكون بحثها مقصوراً على السينما الروائية (التمثيلية) فيما عدا فقرة واحدة قصيرة تنسبها المؤلفة إلى الناقد السينمائي أحمد رأفت بهجت عن تجربة السينمائيين التسجيليين المصريين الشبان في أواخر الستينيات".

غلاف كتاب "تاريخ السينما التسجيلية في مصر"

يرى ناجي فوزي، وهو محقّ، أن كتاب الباحث ضياء مرعي "تاريخ السينما التسجيلية في مصر"، الذي أصدرته مكتبة الإسكندرية عام 2003 في إطار برنامج السينما التسجيلية، "هو أول دراسة علمية أكاديمية متخصصة في مصر تتصل بهذا الموضوع". والكتاب، في الأصل، رسالة ماجستير لمؤلفه. في العقود الأخيرة، تعددت الدراسات الخاصة بالسينما الوثائقية في مصر، فضلاً عن مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية والقصيرة منذ انطلاقه عام 1991، ومشاركة الأفلام الوثائقية في كل المهرجانات المصرية، وانتشار الفضائيات التلفزيونية المهتمة بإنتاج هذه الأفلام. هذا كله يذيب عقدة الاضطهاد الملازم للأفلام الوثائقية التي "لم تعد مجرد ظل باهت للسينما الروائية"، فالسينما الوثائقية "هي الأم" في العالم.

لم تعد السينما الوثائقية يتيمة. تحررت من الاضطهاد، وانطلقت غير مثقلة بتاريخ الظلم؛ فلا تستأسد بإعادة إنتاج القهر على السينما الروائية الطويلة أو القصيرة. وجذبت الأعمال الوثائقية نقاداً وباحثين ومؤسسات، واستأثرت بدراسات وكتب وحلقات بحث وندوات علمية. ويمكن لدراسات الأفلام الوثائقية أن تتعدى الجمالي والتاريخي إلى السيكولوجي، ففيلم مدكور ثابت "سحر ما فات في كنوز المرئيات" وثيقة طولها 130 دقيقة، تضعنا أمام مفارقة زيارة وزير الحربية حيدر باشا للجبهة، ومصافحته للضباط، ومنهم جمال عبد الناصر الذي سيطيح النظام الملكي، ويغير وجه العالم العربي. ومن الفيلم يمكن أيضاً قراءة سيكولوجية الشعب في الترحيب بحاكميه وجلاديه، ثم استقبال المنقلبين عليهم، بالحفاوة نفسها.

مقدمة كتاب "مدخل إلى دراسات السينما التسجيلية" كتبها الدكتور القليوبي عام 2006، وفيها نقاط تستحق التأمل، "فالسينما الوثائقية في مصر هي بالفعل سينما مظلومة"، ويتساءل عن مصادفة "أنه خلافا للعالم كله الذي بدأت فيه السينما وثائقية، بدأت السينما العربية جميعها روائية، فيما عدا بدايات محمد بيومي الوثائقية في مصر عام 1923"

. وفي ظل الاحتلال الأوروبي للعالم العربي، جاء اهتمام الرواد بالتوثيق السينمائي في المرتبة الثانية، وباستمرار القيود على الوثائق، واستبعاد الغاية المعرفية، "كانت السينما الوثائقية العربية ترزح تحت نير الرقابة، والتحكم في إنتاجها". وبتطور آلات التصوير، وقفزات الهواتف المحمولة، عصفت السينما الوثائقية واجتاحت العالم، حتى تكاد تصير "الأكثر سيادة وتأثيراً".

غلاف كتاب "السينما والتاريخ" (1)

اعتمد القليوبي، في المقدمة، مصطلح "السينما الوثائقية". قرأتُ الكتاب والمقدمة، بعد نشر مقالي "وثائقي أمْ تسجيلي... مهرجان الإسماعيلية بين ثورة المصطلح والدولة العميقة"، في رصيف22 يوم افتتاح المهرجان 28 آذار/مارس 2024، واعتمدتُ مصطلح "الوثائقية" الذي تمناه رئيس المهرجان عصام زكريا، لولا اصطدامه بقوى الدولة العميقة.

للدقة والموضوعية يمكن وصف ما يصور الواقع، يسجله كما هو، بأنه "تسجيلي"، فإذا اُستخدم ضمن عناصر أخرى يكون المنتج فيلماً "وثائقياً". وهذا ما ذهب إليه أيضاً الدكتور ناجي فوزي في ندوة كتابه بالمهرجان. قال إن "الفيلم التسجيلي" توثيقي، يصور واقعة، كتصوير حصار الجيش البريطاني لقصر عابدين، وبتضمين المادة التسجيلية في شريط سينمائي يجعله فيلماً "وثائقياً".

لم تعد السينما الوثائقية يتيمة. تحررت من الاضطهاد، وانطلقت غير مثقلة بتاريخ الظلم؛ فلا تستأسد بإعادة إنتاج القهر على السينما الروائية الطويلة أو القصيرة. وجذبت الأعمال الوثائقية نقاداً وباحثين ومؤسسات، واستأثرت بدراسات وكتب وحلقات بحث وندوات علمية

لكن خطاب المؤلف ظهر من عنوان كتابه "مدخل إلى دراسات السينما التسجيلية". المصطلح في مقدمة القليوبي يختلف عما يسري في الكتاب المحظوظ برقم إيداع بدار الكتب. المهرجان المتخصص في الأفلام الوثائقية لا يهتم بتوثيق كتبه. هذا العام أصدر سبعة كتب، منها أربعة لا تحمل رقم إيداع بدار الكتب، كأنها لم تصدر، ولا تحتفظ دار الكتب إلا بالأعداد الأصلية. ولا ينتبه المركز القومي للسينما، الذي ينظم المهرجان، بإيداع كتبه لإفادة الباحثين مستقبلاً. يتكرر الخطأ سنوياً، ففي عام 2018 أعاد المهرجان نشر أعداد مجلة "السينما والتاريخ"، في مجلدين (1690 صفحة). المجلة أصدرها سمير فريد عام 1992، على نفقته، وتوقفت بعد 35 عدداً.

غلاف كتاب "السينما والتاريخ" (3)

الباحثون لن يجدوا "السينما والتاريخ" في دار الكتب. ومن فاز بنسخة لم يجد دراسة عن السياق التاريخي لإصدارها وأسباب توقفها. المجلدان طبعتهما الهيئة المصرية العامة للكتاب، وفيها مكتب دار الكتب المانح لأرقام الإيداع. وكان سمير فريد، الناشر ورئيس التحرير، حريصاً على تسجيل المجلة، ككتاب متخصص غير دوري، برقم إيداع 3120 لسنة 1992.

الطريف أن سمير فريد (1943 ـ 2017) كرّس عمره للدعوة إلى إنشاء سينماتيك، "دار السينما"، المعادل السينمائي لدار الكتب، ولم يتخيل أن هذه الطبعة لن تودع في دار الكتب؛ لخلوها من وثيقة ميلاد في مهرجان للسينما الوثائقية. وسيكون العثور على "السينما والتاريخ"، على سور الأزبكية، مفاجأة سارة للمحظوظين.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ذرّ الرماد في عيون الحقيقة

ليس نبأً جديداً أنّ معظم الأخبار التي تصلنا من كلّ حدبٍ وصوبٍ في عالمنا العربي، تشوبها نفحةٌ مُسيّسة، هدفها أن تعمينا عن الحقيقة المُجرّدة من المصالح. وهذا لأنّ مختلف وكالات الأنباء في منطقتنا، هي الذراع الأقوى في تضليلنا نحن الشعوب المنكوبة، ومصادرة إرادتنا وقرارنا في التغيير.

Website by WhiteBeard
Popup Image