منذ بداياته البعيدة، أسس مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة معنى خاصاً، علاقة دافئة بينه وبين متابعيه. حالة مشاهدة لأصحاب هوى تغريهم أفلام قد لا تستهوي الجمهور. كبر المهرجان، وبلغ دورته الرابعة والعشرين (14 ـ 20 آذار/مارس 2023). واحتل الفيلم التسجيلي في العالم مكانة لائقة. ترحب به المهرجانات الدولية والمنصات الإلكترونية.
هذا اللون السينمائي يتمتع بمرونة الجمع بين مواد أرشيفية ومشاهد تمثيلية، وحضور المخرج بطلاً، موجهاً ومقاتلاً أحياناً. امتدت الجسور بفضل مهرجانات تسجيلية ومخرجين يؤمنون بجماليات السينما التسجيلية، ولا يرونها خطوة إلى الأفلام الروائية. حضور مهرجان الإسماعيلية يستدعي عندي، بشكل شخصي، الفني والمهني٬ حماسة استمرت سنين قبل تشييع جنازة الصحافة.
للوقت في وكالات الأنباء أهمية. يفتتح مهرجان ما مساء السبت وتكون صحف الأحد قد طبعت، فلا تنشر عنه إلا يوم الاثنين. وكالة الأنباء لا تملك هذا الترف. ويصعب أن أكتب عن فيلم الافتتاح بعد مشاهدة واحدة مسبوقة بتشويش فقرات الافتتاح. في تلك الفترة، اقترحت على رئيس المهرجان الناقد السينمائي علي أبو شادي (رحمه الله) أن أستعير نسخة الفيلم. شريط الفيديو الذي لا يعرفه الجيل الحالي، قبل اختراع الأسطوانات المدمجة، والروابط الإلكترونية التي تسمح بمشاهدة الأفلام بكلمة السر. رحب باقتراحي رئيس تحرير وكالة رويترز عصام خلف (رحمه الله). أشاهد الفيلم مرتين، وأتعهد بكتمان السر، وأحتفظ بما كتبته عنه حتى ليلة الافتتاح.
منذ بداياته البعيدة، أسس مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة معنى خاصاً، علاقة دافئة بينه وبين متابعيه. حالة مشاهدة لأصحاب هوى تغريهم أفلام قد لا تستهوي الجمهور
أخرج من الافتتاح بخيارين: إذا كان الحفل رسمياً، أكتفي بإضافة سطور قليلة، إلى ما كتبته عن الفيلم في قصة خبرية واحدة. وأرسل المادة بالإيميل إلى مقر رويترز في القاهرة. تبثّها بعد قليل، بصيغة "افتتح اليوم". وإذا كانت فقرات الافتتاح ثرية، تستقل بقصة، ويكون الفيلم بطلاً لقصة أخرى. أكتفي بمثال واحد: في افتتاح الدورة الثامنة، عام 2004، عرض الفيلم الفرنسي "العالم كما يراه بوش" إخراج وليام كاريل. المخرج شارك في كتابة الفيلم مع إريك لوران مؤلف كتابيْ "حرب بوش" و"عالم بوش السري". بثّت رويترز قصة الفيلم، ونشرتها في الصفحة الأولى "الحياة" اللندنية. هكذا كنا ننطق اسمها للتفخيم، باعتبارها من المرجعيات المهنية.
تلك الدورة استضافت أربعة من محرري صحيفة الحياة، مدعوين من القاهرة ودمشق وبيروت. وأبرزت صحيفتهم قصة رويترز، منسوبة إلى مصدرها، في تقليد مهني يفتقده الكثيرون. بعضهم يتجاهل رويترز، وبعضهم ـمؤسسات وأفراداًـ يتبجح بنسبة القصص إلى نفسه.
في تلك الأيام كانت لمهنة الصحافة هيبة وكبرياء، قبل استسهال النقل من غوغل، من دون تدقيق ولا بصيرة. ينشر أحدهم في موقع إلكتروني شيئاً يسميه خبراً. ينقله آخر وينشره باسمه في صحيفة. ثم يسطو ثالث، في الموقع الإلكتروني الأول، على ما نشرته الصحيفة مسروقاً من الموقع، وهكذا. تكاد التقاليد الصحفية الراسخة تختفي، ويذكرني بها مهرجان الإسماعيلية الذي يظل عنواناً لأفلام يكسب صناعها الرهان.
لرقم 24 دلالات مصرية. الفدّان 24 قيراطاً. للتأكيد على إتقان الشيء واستيفائه شروط الجودة، يقال: "تمام، 24 قيراط". أجود أنواع الذهب عيار 24. في التماس الصبر على ظلم تاريخي تمارسته أنظمة الحكم، نؤمن بأن خراج مصر 24 قيراطاً: أربعة عشر للسلطان، وستة للأغنياء، وأربعة للعسكر. وبالسؤال عن نصيب المصريين، بعد توزيع القراريط، تأتي الإجابة: للمصريين، بإذن الله، القيراط الخامس والعشرون، هو في جنة الخلد. وفي دورته الرابعة والعشرين، لا يزال مهرجان الإسماعيلية يحتفظ بحيوية مستمدة من تعاقب الأجيال. ترسخت مكانته منذ أسسه المخرج هاشم النحاس عام 1991. ويتجدد شبابه بالمخرج سعد هنداوي العام الماضي، وبعودة الناقد عصام زكريا هذا العام.
ذاكرة السينما والمهرجانات توثقها الكتب والأفلام. أتمنى أن يتفرغ باحث لرسم صورة القاهرة من خلال أفلام مثل "حياة أو موت"، و"باب الحديد"، و"ضربة شمس". سنرى مدينة أخرى. وفي افتتاح المهرجان مساء أمس الأول، الثلاثاء 14 آذار/مارس الحالي، تم تكريم المخرج الأيرلندي مارك كازينز، ومن مصر المؤرخ السينمائي محمود علي، ومدير التصوير محمود عبد السميع وعرضت نسخة مرممة من فيلمه "مقدمة حامد سعيد" عن عالم الفنان التشكيلي حامد سعيد (1908 ـ 2006). وصدرت ثلاثة كتب عن المكرمين، إضافة إلى كتابيْ "ملامح الفيلم الإثنوغرافي" والصحافة الفنية في مصر" والأخير يضم أبحاثاً أشرف عليها الناقدان كمال رمزي وناجي فوزي. وينظم المهرجان خمس ندوات لمناقشة هذه الإصدارات.
وكرم المهرجان اسم المخرج سميح منسي الذي توفي في كانون الثاني/يناير 2023. لمنسي أفلام مهمة منها "مقاهي وأزمنة"، عن المقاهي كجسور للتواصل الإنساني بين المواطنين، مع إبراز دورها في التفاعل الثقافي، خصوصا في الأزمات. ركز الفيلم على مقهى ريش، وصور للمرة الأولى مخبأ سرياً استخدمه البعض من قادة ثورة 1919، بعيداً عن عيون قوات الاحتلال البريطاني.
من اليمين إلى اليسار: عاصم عبد المحسن٬ سعد القرش٬ جورج جحا٬ عصام خلف
أما فيلم "نازلين التحرير" إنتاج المركز القومي للسينما عام 2014، فيوثق جانباً من غضب شعبي بدأ بثورة 25 كانون الثاني/يناير 2011 ونجح في خلع حسني مبارك وإسهام الميدان بثقله الرمزي في شحن المواطنين لإنهاء حكم جماعة الإخوان عام 2013. وبانتكاس الثورة يستحيل الآن إنتاج مثل هذا الفيلم.
السينما الوثائقية تثبّت لحظة تاريخية طوتها عواصف التغيير. في افتتاح المهرجان عرض فيلم "وصية رجل حكيم في شئون القرية والتعليم" من إخراج داود عبد السيد عام 1976 عن قرية لم تعد موجودة
السينما الوثائقية تثبّت لحظة تاريخية طوتها عواصف التغيير. في افتتاح المهرجان عرض فيلم "وصية رجل حكيم في شئون القرية والتعليم" من إخراج داود عبد السيد عام 1976 عن قرية لم تعد موجودة: طرز المباني والملابس والتواصل مع أدوات العصر. الفيلم المهدى إلى "الدكتور طه حسين وتلامذته" يتناول إطلال التحديث على قرية تحتفظ بتقاليدها منذ آلاف السنين. بعض المتعلمين بادر بمحو أمية الكبار، وشجع الأهالي على إرسال أبنائهم إلى المدرسة. يتحول التحديث إلى الحداثة، وما تتضمنه من وعي بالذات والحقوق والنظر إلى التعليم كوسيلة للصعود الطبقي. لكن "الحكيم" الرجعي، بتعليق صوتي للممثل جميل راتب، يرى التعليم وباء يهدد الاستقرار ويطالب بالتصدي له.
المهرجان، الذي ينظمه المركز القومي للسينما برئاسة المونتيرة منار حسني، يشمل مسابقات للأفلام التسجيلية الطويلة والقصيرة والأفلام الروائية القصيرة وأفلام التحريك وأفلام الطلبة. ويحتفي هذا العام بالفيلم العابر للنوع (Hybrid)وينظم يومياً في قصر ثقافة الإسماعيلية أربع ورش عمل مجانية للأطفال: الأولى ورشة (cut out) تعليم المتدربين أساسيات صناعة فيلم رسوم متحركة من خلال تقنية الورق المقصوص٬ وتقوم بالتدريب المخرجة زينب مصطفى. والثانية ورشة الفن التشكيلي حيث يشرف الفنان أشرف كمال على تعليم قواعد الرسم باستخدام خامات مختلفة. والثالثة ورشة العرائس وفيها تتولى الفنانة نوال مصطفى تدريب الصغار على تصميم العرائس بخامات مختلفة ثم تحريكها. والرابعة ورشة تعليم الخط العربي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون