يحفل تاريخ الشعب الفلسطيني في صراعه ضد مغتصبي حقوقه بالكثير من الرموز التي انتشرت على نطاق واسع في وسائل النشر المختلفة، وعلى الملابس والجدران. فالكوفية الفلسطينية بزخرفتها المميزة أضحت رمزاً معروفاً في العالم، خاصةً بعد أن استخدمها الفدائي الفلسطيني غطاء رأس أو لثاماً يظهر عينيه فقط، صورة الفدائي بدوره مع بندقيته الكلاشنكوف تحولت إلى رمز، إضافة إلى حنظلة ومفتاح العودة، وغصن الزيتون كرمزٍ للسلام واللباس التقليدي الفلسطيني ومسجد قبة الصخرة، وبعد الانتفاضة الأولى عام 1987 ظهر رمز المقلاع والطفل الذي يرمي حجراً بمواجهة الدبابة الإسرائيلية.
خلال الحرب الإسرائيلية الجارية على غزة، لم يبخل الفلسطينيون بإبداع رموزهم الجديدة التي تحولت لأيقونات يتم تداولها عالمياً في وسائل الإعلام، لكن هذه المرة نبتت الرموز من الأرض، من خلال المواجهة المباشرة مع آلة العدوان العسكرية، بعضها لقي صدىً طيباً وأحدث تغييراً في الصورة المتداولة للفلسطيني في الإعلام العالمي، رغم سيطرة رأس المال الصهيوني على الكثير من وسائل هذا الإعلام.
الجد المحبّ و"روح الروح"
بمظهر لطيف يفيض بالمحبة، تغطي رأسه عمامة لها نقش الكوفية، وبلحية شيخ وقور، يلاعب الجد خالد نبهان حفيدته الطفلة ريم التي اعتادت كما يبدو على ملاعبة جدها، فتمسك لحيته ويمسك شعرها، يضحكان، ويطالب كل منهما الآخر: "تروك شعري لأترك شعرك"، ويضحكان مجدداً. لكن الضحكة تختفي بعد أيام في المشهد التالي حين يحتضن الجد طفلته التي استشهدت مع شقيقها بقصف إسرائيلي، يقبلها ويلاعبها كما لو أنها على قيد الحياة، واصفاً إياها ب"روح الروح". علماً أن المصور الذي التقط المشهد أفاد أن جزءاً منه لم يعرض وفيه ما يدمي القلب أكثر.
المشهد المأسوي يضج بالدلالات والمعاني، لعل أبرزها فيض الإنسانية من شيخٍ حرص الإعلام الغربي بغالبيته على تصوير أمثاله بوصفهم قساة القلوب، يتقنون القتل والإرهاب واضطهاد النساء فقط، جمال المشهد في جزئه الأول ومأساويته العالية في جزئه الثاني ساعدا على انتشاره والتفاعل الواسع معه، بما في ذلك المجتمع الغربي الذي تحاول شرائح منه إبداء تعاطفها مع الفلسطينيين خلافاً لموقف حكوماتها.
الجد الحنون و"روح الروح"، و"المقاتل الأنيق"، و"حلّل يا دويري"... أيقونات من غزّة نبتت من الأرض من خلال المواجهة المباشرة مع آلة العدوان العسكرية، بعضها لقي صدىً طيباً وأحدث تغييراً في الصورة المتداولة للفلسطيني في الإعلام العالمي، رغم سيطرة رأس المال الصهيوني على الكثير من وسائل هذا الإعلام
يكفي أن نورد مثالاً لذلك الكاتب الأمريكي شون كينغ الذي قال في لقاء تلفزيوني إن "الجد خالد يمثل رداً على كل الأكاذيب التي قيلت عن الرجال الفلسطينيين، وهو تجسيد للسلام وقد استوقف العالم بأسره ليشاهده بعمامته ولحيته التي طالما استخدمها الإعلام والسينما لشيطنة هؤلاء الرجال". في حين خاطب أمريكي آخر مجلس بلديته: "كنت أرغب في أن أكون أشياء كثيرةً حين أكبر، طياراً، نقابياً، مناضلاً من أجل الحرية، لكن الآن أتمنى أن أكون شيئاً واحداً فقط، أتمنى أن أكون خالد نبهان، شيخ محب، رجل شجاع، إنسان جميل".
وقد أظهرت الكثير من التسجيلات على منصات التواصل أشخاصاً أوربيين تدمع عيونهم وهم يصفون المشهد المؤثر للجد والحفيدة، دون أن ينسوا الإشارة إلى المجازر الإسرائيلية بحق أهل غزة.
"ولّعت"
رغم برد الشتاء، ظهر المقاتل الفلسطيني برداء مدني خفيف وحذاءٍ أخفّ، يحمل قاذف الصواريخ، يلاحق الدبابة الإسرائيلية كما الصياد الواثق، لا يهتم باحتمال موته في أية لحظة، فالموت لعبة معتادة في فلسطين، يقترب بخفة، ويقترب ويطلق، ثم يستدير عائداً بقفزتين رشيقتين مع صيحة "ولّعت ولّعت" فرحاً بإصابته المحققة وقد اشتعلت النيران بالدبابة. هذا المشهد بدوره يشي بالكثير من المعاني لعل منها المفارقة الهائلة بين الجندي الإسرائيلي المدجج بوسائل الحماية مع مجنزراته الثقيلة وبين المقاوم الغزاوي الذي يكتفي بما يلزم لإصابة الهدف غير آبهٍ بما يمكن أن يلاقيه.
القفزة الرشيقة عالياً مع صرخة "ولعت" سرعان ما تحولت لأيقونة متداولة، غار منها الكثير من المتحمسين فعبر أحدهم بالقول باللهجة المصرية:" نفسي أنط النطة دي"، كما رسم الجزائريون في ملعب رياضي لوحة كبيرة بعلم فلسطين مع عبارة "ولعت" تضامنا مع غزة. و استخدم الغزاويون ذات التعبير وهم يراقبون صواريخ المقاومة تنطلق صوب الأهداف الإسرائيلية.
"حلل يا دويري"
عرف المتابعون لأخبار الحرب على غزة اللواء الأردني المتقاعد فايز الدويري، الذي تستضيفه قناة الجزيرة ليقدم رؤيته وتحليله العسكري للحرب بشكل يومي. دويري الذي يقدم رؤيته لمجريات الصراع العسكري ملتزماً القواعد الفنية لا يخفي اصطفافه إلى جانب الشعب الفلسطيني وقضيته، لذلك استحق المتابعة حتى من المقاتلين الغزاويين أنفسهم فصرخ أحدهم منادياً إياه: "حلل يا دويري"، بعد أن سدد قذيفته لمبنى صغير يتحصن به جنود إسرائيليون فأصابه واشتعلت فيه النيران.
صيحة المقاتل هنا ليست بلا معنى، فهو رغم انشغاله بالمهام العسكرية على الأرض، يبدو متابعاً شغوفاً لتحليلات اللواء فأحب مناداته من الميدان ولسان حاله يقول: "ها قد قدمت لك مادة جديدة وإنجازاً عسكرياً للمقاومة، فهيّا حلل وأسمعنا رأيك". بدوره تلقى الدويري هذا النداء بفخر معتبراً إياه أهم وسام يعلقه على صدره.
ولشدة انتشار النداء وتداوله فقد قدم الفنان سائد العجيمي أنشودة "حلل يا دويري" على لحن "ظريف الطول"، كما ظهرت ترنيمات على قالب "الدحّيّة" بنفس المضمون: "حلل يا دويري وسمعنا... بفعال الأبطال اتحفنا". وقد وردت العبارة في امتحان جامعي مع سؤالٍ عن دلالتها، كما وردت في جواب طالب مدرسة على سؤال تحليلٍ لغوي.
القتال بكامل الأناقة
من قال إن الحرب تدمر كل شيء؟ هل أبهى من الجمال الذي ينبثق من ركام الحرب؟ المقاتل المقاوم لم يجد تعارضاً بين مهمته العسكرية في التصدي للعدوان وبين أن يكون بأبهى حلةٍ، ولولا الضرورات الأمنية لأظهر لنا وجهه. لكن اللقطة الجانبية التي التقطت له تظهره بكامل أناقته؛ معطفٌ أسود طويل بغطاء رأس، حذاءٌ رياضي أبيض، وبنطالٌ على الموضة، وسط أصوات إطلاق نار كثيف، يتمختر بهدوء واثقَ الخطوة حاملاً سلاحه، يسدد، يطلق، فيصيب في مشهدٍ قد تراه في فبركات هوليوود. لكنه هنا حقيقي ينبض بالحياة، مقاومٌ يخرج للتصدي للدبابة وكأنه ذاهبٌ للقاء عاطفي، ليقول أن المقاومة هي أيضاً ثقافة حياة.
العديد من الألقاب استحقها هذا الشجاع، أولها "المقاتل الأنيق" ثم "روبن هود غزة" ثم "زورو فلسطين" و"الفارس". فضلاً عن شيوع رسمٍ له تحول لأيقونة. ومن أجمل التعليقات على صورته كان تعليق:" أن يكون لديك موعد في الثامنة، لكن عليك تدمير دبابة إسرائيلية في السابعة والنصف"، في إشارةٍ إضافية للتمسك بالحياة "إذا ما استطعنا إليها سبيلاً" وسط فيضٍ من أسباب الموت.
إذا أضفنا إلى ما ذكرناه أيقونات أخرى كالملثم الراقص والطفل الشهيد يوسف التي بحثت أمه عنه وهي تصفه: "شعرو كيرلي أبيضاني وحلو"، والصحافي المخضرم وائل الدحدوح وهو يودع أحبته الشهداء بـ"معلش... بينتقموا منا في الولاد"، فإنه يمكن رصد بعض التغيير في الضمير الغربي ساهمت به بعض هذه الأيقونات التي تضج بالجمال والإنسانية، فهل تتفكك قبالتها السرديات والأساطير الإسرائيلية؟
يصنعون الأيقونات ويرحلون
الأشخاص الذين أضحوا أيقوناتٍ لم يقصدوا ذلك ولا يأبهون له، هم ضحايا واقع الاحتلال والاعتداء المستمر على كل مفردات الحياة للفلسطيني، يواجهون ويصمدون ويصبرون ويموتون، فنحمل صورهم ونروي حكاياتهم. هل كتب على الفلسطينيين أن يعيشوا مع الموت الحاضر في كل يوم؟ هل عليهم أن يموتوا كي يصبحوا رموزاً؟ فمنذ إعدام المناضلين محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير من قبل سلطة الانتداب البريطاني عام 1930، وبعد ذلك بسنوات مع استشهاد الشيخ عز الدين القسام، وحتى محمد الدرة عام 2000، مروراً بدلال المغربي التي زينت صورتها الجميلة الكثير من البيوت في سوريا والأردن ولبنان، يحفل تاريخ النضال الفلسطيني بالرموز والأيقونات، لبشرٍ رحلوا شهداء خلال مسيرة طويلة من مواجهة الاحتلال وقوته العسكرية بمن فيهم صاحب صرخة "ولعت" و نداء "حلل يا دويري".
وإذا أضفنا إلى ما ذكرناه أيقونات أخرى كالملثم الراقص والطفل الشهيد يوسف التي بحثت أمه عنه وهي تصفه: "شعرو كيرلي أبيضاني وحلو"، والصحافي المخضرم وائل الدحدوح وهو يودع أحبته الشهداء بـ"معلش... بينتقموا منا في الولاد"، فإنه يمكن رصد بعض التغيير في الضمير الغربي ساهمت به بعض هذه الأيقونات التي تضج بالجمال والإنسانية، فهل تتفكك قبالتها السرديات والأساطير الإسرائيلية؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع