شهدت "مسيرات العودة وكسر الحصار" التي ينظمها أبناء غزة منذ 30 مارس 2018 مئات القصص والحكايات، وبرزت من فعالياتها أيقونات صارت تُعتبر رموزاً للنضال الفلسطيني.
كثيراً ما اصطبغت هذه الأيقونات بالدم الذي سال بكثافة، خاصةً خلال "مليونية العودة" التي شهدها قطاع غزة في 14 مايو الماضي، عندما ارتكبت إسرائيل مجزرة بحق المتظاهرين راح ضحيتها 59 شخصاً ومئات المصابين.
وسُيّرت تلك "المليونية"، إحياءً للذكرى الـ70 لنكبة الشعب الفلسطيني، وللاعتراض على قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وكانت ذروةً في "مسيرات العودة وكسر الحصار" التي انطلقت قبل ذلك بأقل من شهرين، وشارك فيها عشرات آلاف المواطنين الذين يتجمعون كل يوم جمعة تقريباً على طول الحدود الشرقية التي تفصل بين القطاع المحاصر والأراضي المحتلة عام 1948.
"الحرية تقود الشباب"
لم يكن ظهور الشاب الفلسطيني عائد أبو عمرو اعتيادياً خلال المسيرات. من وسط سحب الدخان الأسود، التقط المصور الفلسطيني مصطفى حسونة صورة له أظهرته عاري الصدر حاملاً علم بلاده بيده اليمنى ومقلاع حجارة باليسرى.
جذبت الصورة الاهتمام المحلي والعالمي بما يجري في غزة، وشبهها كثيرون بلوحة "الحرية تقود الشباب" التي رسمها الفنان الفرنسي فرديناند فيكتور أوجين ديلاكروا، تمجيداً للثورة الفرنسية.
أبو عمرو، 22 عاماً، التزم بالمشاركة في مسيرات العودة بشكلٍ أسبوعي منذ انطلاقها وحتى يوم التقاط صورته الشهيرة، في 22 أكتوبر الماضي، برغم إصابته مرتين بالرصاص الحي المتفجر الذي يطلقه الجنود الإسرائيليون على المتظاهرين السلميين.
يقول لرصيف22: "انتشار صورتي على نطاق واسع عزز لديّ روح الصمود والإصرار على الحق في العودة" ويضيف: "الصورة تحوّلت لأيقونة لأنّها كانت الأقرب إلى شعوب الغرب، إضافة إلى دلالاتها السلمية والثورية التي تحكي قصّة كفاح شعبٍ يعاني يومياً من ويلات الاحتلال".
ويوضح أنّ كشفه للجزء العلوي من جسده كان لوأد مبرر جنود الاحتلال الإسرائيلي الذين يطلقون الرصاص بشكلٍ عشوائي على المتظاهرين السلميين العُزّل ويقتلون عدداً منهم بدمٍ بارد بحجة أنهم خطيرين، مشيراً إلى أنّ العلم الفلسطيني سيظلّ ملازماً ليده طالما استمرت المسيرات التي يحلم بأن تنتهي بتحقيق العودة، وبغرس علم بلاده في الأرض المحتلة عام 1948.
الإعاقة لا تعيق النضال
كثيراً ما يُلهم أشخاص معوّقون الناس بعزيمتهم وبتحقيقهم نجاحات وانتصارات، فيُعلون مبدأ التحدي، لكن في الحكايا الفلسطينية قد يترافق ذلك مع الموت.
صور شابٍ مبتور الأطراف، ترك كرسيه المتحرك جانباً وأخذ يزحف نحو الحدود الشرقية متقدماً المشاركين في مسيرة العودة، وهو يردد بأعلى صوته "عالقدس رايحين شهداء بالملايين"، حاملاً بيده مقلاعاً لا تتجاوز ضرباته التي يطلقها منه أمتاراً محدودة، كانت كفيلةً بإشعال منصات التواصل الاجتماعي وأسهمت في إبراز معالم سلمية التظاهرات للعالم.
مشاعر الفخر بتلك الصورة ما لبثت أن تحوّلت إلى مشاعر سخطٍ وغضبٍ على إسرائيل التي قتلت صاحب الصورة، وهو الشاب الفلسطيني فادي أبو صلاح، 29 عاماً، خلال مشاركته بمليونية العودة في 14 مايو 2018.
تحكي زوجته آمنة أبو صلاح لرصيف22 أنه "كان مداوماً على المشاركة في المسيرات منذ انطلاقها، على الرغم من إعاقته التي نتجت عن إصابته خلال قصف إسرائيلي على غزّة عام 2008"، وتروي أنّ زوجها رحل تاركاً خلفه أبناءه الخمسة بعد أن "علّمهم الكثير من المعاني التي لن يعرف تفاصيلها إلا مَن عاش الوجع لأجل الوطن".
اختراع من أرض الواقع
حكاية أخرى نسج تفاصيلها الطفل محمد عياش، ابن السبع سنوات، والذي ظهر في صورةٍ التقطها الصحافي أسامة الكحلوت في 30 مارس 2018 وهو يضع على أنفه "كمامة بصل" في محاولةٍ بدائية للتغلب على الغاز المسيل للدموع الذي يطلقه الجنود الإسرائيليون بكثافة على المتظاهرين، فجذب اهتمام الإعلام الذي راح يبحث عن تفاصيل ما وراء الصورة.
محاولة الطفل البسيطة لم تكن اجتهاداً ذاتياً منه، يذكر والده بسام عياش ويروي أنّه حدّث أبناءه كثيراً عن الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي اندلعت عام 1987، وعن الوسائل البدائية التي كان يستخدمها الشباب لمواجهة آلات القمع الإسرائيلية، لافتاً إلى أنّ "قناع البصل" كان أهمها، وذلك لما له من رائحةٍ قوية تتغلب على الروائح الأخرى.
هنا صنعت "الطرافة والغرابة" الأيقونة، فقال روّاد مواقع التواصل الاجتماعي "إن شعباً فيه طفل كمحمد الشجاع المبتكر لن يهزم"، وإنّ تصرفه "دليل على فكرة المواجهة والثورة المتجذرة في نفوس أطفال فلسطين الذين يسطرون يومياً مشاهد عزٍ".
منقذة الأرواح
تفاصيل يوم الأول من يونيو 2018 لم تمض عاديةً على أهل غزّة. سالت دماء المسعفة الشابّة رزان النجار، 21 عاماً، التي قُتلت بعدما أطلق عليها الجنود الإسرائيليون رصاصةً متفجرة اخترقت ظهرها وأنهت عملها على مداواة مصابي مسيرات العودة.
قوبل مقتل رزان باستنكارٍ شديد من جهات كثيرة، وأعاد إلى الأذهان الاهتمام الذي نالته قصتا الطفلين محمد الدرة وإيمان حجو اللذين قتلتهما إسرائيل خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000.
يسرى النجار، والدة رزان، قررت أن تكمل مسيرة ابنتها في الجمعة التالية مباشرة، وترى أنّ الاحتلال أراد باستهداف رزان قتل روح العمل والشجاعة لدى زملائها المسعفين الذين يحملون أرواحهم على أكفهم لإسعاف المصابين في المسيرات، وقالت لرصيف22 إنّ نزولها للميدان في ذلك الوقت كان رسالة واضحة بأنّ المسيرة "لا تقف عند شخصٍ معين وفلسطين هدف أسمى وخدمتها شرف والموت في سبيلها حياة جديدة".
أسهمت قضية مقتل رزان بشكلٍ أو بآخر بتسليط الضوء بصورةٍ أكبر على الاعتداءات التي تتعرض لها الطواقم الطبية العاملة على حدود قطاع غزّة، والتي لا تسلم من الاعتداءات التي أسفرت عن مقتل وإصابة العشرات.
"أيقونة الكوشوك"
لم تكن مشاركة الشاب عبد الفتاح عبد النبي، 19 عاماً، في المسيرات عاديةً. مقطع فيديو قصير انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي بتاريخ 30 مارس 2018، أظهره متنقلاً بين رصاصات القناصة الإسرائيليين التي لاحقته خلال تواجده على الحدود الشرقية لغزّة، كان علامةً فارقة.
شهدت "مسيرات العودة وكسر الحصار" التي ينظمها أبناء غزة منذ 30 مارس 2018 مئات القصص والحكايات، وبرزت من فعالياتها أيقونات صارت تُعتبر رموزاً للنضال الفلسطيني
عائد أبو عمرو، الشاب عاري الصدر الذي يحمل علم فلسطين بيمناه ومقلاع حجارة بيسراه... وفادي أبو صلاح، المقعد الذي يلوّح بمقلاعه... وأيقونات أخرى خرجت من غزة إلى العالم
نجا الشاب من أربع رصاصات ولكن الخامسة اخترقت مؤخرة رأسه، وألقته أرضاً ليقفز أمامه إطار مطاطي كان ينوي إشعاله لحجب الرؤية عن الجنود الإسرائيليين الذين يتربصون بالمتظاهرين، في مشهدٍ نجحت عدسات المصورين بتوثيقه ليكون شاهداً على وحشية إسرائيل.
"أيقونة الكوشوك". هكذا لقّبه أهالي غزّة. لم يشارك في الجمعة التالية للمسيرات جسداً، لكنّه عاد إليها روحاً ألهبت حماس عشرات الشباب الذين أطلقوا اسم "جمعة الكوشوك" على فعالياتها، وفيها جمع الشباب آلاف الإطارات المطاطية ودفعوا بها إلى مقربةٍ من السياج الفاصل وأشعلوها أمام الجنود ليشكلوا غطاء حماية للمتظاهرين.
صديقه إبراهيم عيسى الذي كان يرافقه خلال المسيرات يقول لرصيف22: "لم يكن عبد الفتاح يحمل في قلبه أيّ خوف من جنود الاحتلال. كان يائساً من أوضاع الحياة في غزّة، ويردد دائماً أن الموت بكرامة أفضل من هالحياة"، موضحاً أنّ حلم صديقه لم يكن كبيراً: "هو فقط كان يريد عيشاً كريماً في أرض أجداده التي اغتصبها الصهاينة عام 1948".
الطفلة البريئة
مساء 14 مايو 2018، قتل جنود إسرائيليون الطفلة وصال الشيخ خليل، 15 عاماً، على الحدود الشرقية لغزّة، لتكون أول فتاة تُقتل في مسيرات العودة.
التناقض في تفاصيل الحياة التي عاشتها وصال برفقة إخوتها الخمسة الآخرين، كان علامةً فارقةً في قضيتها التي حظيت باهتمام فلسطيني وعالمي كبيرين. الطفلة البريئة لم تكن أحلامها تتجاوز التفكير بمستقبل أفضل يخرجها من قسوة الظروف الاقتصادية التي أجبرت عائلتها على العيش في مكانٍ مفتوح قد يشبه أي شيء إلا البيت.
تقول والدتها ريم أبو عرمانة (43 عاماً) لرصيف22: "كلّ التفاصيل تغيّرت، وقلبي ما زال منفطراً عليها وسيظل. أبكيها كلّ دقيقة، وأتمنى لو أنّ الحياة توقفت عند تلك اللحظة التي تركتها فيها تذهب للمشاركة في مسيرات العودة على حدود قطاع غزّة".
تعود الأم بذاكرتها إلى وقت الحادثة وتقول: "أصرّت وصال على الخروج من البيت والالتحاق بالمتظاهرين، حاولت منعها بدايةً ثمّ عدت وخضعت لشدة إلحاحها، وتوسلها الذي أُحيط بوعودٍ مضمونها أنّها ستبقى بعيدة عن المواجهات وبقرب الخيام... لكنّ بطش إسرائيل كان أكبر من سلميتها والتزامها".
عن الاهتمام الشعبي والرسمي بقضية طفلتها، توضح أنّ الحادثة أثارت منذ البداية اهتماماً وتضامناً من الجميع، مشيرةً إلى أنّ الصحافة العربية والدولية تهافتت على البيت المتهالك الذي تسكن فيه لنقل قصتها.
قتل بدم بارد
أثار مشهد الطفل محمد أيوب، 14 عاماً، وهو مخضب بدمائه على الأرض في 20 أبريل 2018، بعدما قنصه جنود إسرائيليون متمركزون على الحدود الشرقية لبلدة جباليا شمالي قطاع غزّة، خلال مشاركته في الجمعة الثالثة لمسيرات العودة، ردود فعلٍ من جهات محلية ودولية استنكرت ذلك الفعل واعتبرته جريمة قتلٍ بدمٍ بارد.
ذلك المشهد لم يكن الوحيد الذي جعل من الطفل أيقونة، ساهم في ذلك أيضاً مقطع فيديو آخر انتشر لوالده وهو ممسكٌ بجثمانه داخل ثلاجة الموت في المستشفى ويردد في أذنه: "سامحني يا بابا، إلي شهر ما قدرت أوفرلك أكل منيح"، مضيفاً أنّ الحياة التي انتقل إليها محمد أحسن بمرّات من حياته الدنيا التي عاش فيها ضيق الحال وهمّ الحصار والقصف ومشاهد الدمار.
يقول الوالد لرصيف22: "محمد أصبح ذكرى، وضحكاته صارت ماضياً. لست سعيداً بأنّ قصته أضحت مشهورة، فلو ظلّ بجانبي مغموراً طول العمر لكان ذلك أفضل من كلّ الشهرة. الحياة بلا صاحب الروح الأجمل ناقصة كثيراً"، داعياً إلى محاكمة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، لأنّه المسؤول الوحيد عن مقتل ابنه.
مبعوث الأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط نيكولاي ميلادينوف علّق على الحادثة حينها، وحمّل إسرائيل المسؤولية عن الجريمة، وكتب على توتير: "قتل الأطفال أمر مخزٍ. كيف سيساعد قتل طفل اليوم في غزة في تحقيق السلام؟ لن يحقق ذلك، فهو لا يغذّي سوى المزيد من الغضب ويخلق المزيد من القتل".
"عين الحقيقة"
كان الصحافي ياسر مرتجي، 30 عاماً، أول مَن التقط صورة بكاميرا طائرة لمدينة غزّة، لكنّ رصاصةً إسرائيلية اختارته من بين كلّ المتظاهرين في الجمعة الثانية لمسيرات العودة، في السادس من أبريل 2018، ليصير أيقونة، ورمزاً يُشار إليه كلما دار حديث عن حرية الصحافة وجرائم إسرائيل بحق الصحافيين.
في السابع من أبريل 2018، كانت عقارب الساعة تسير ببطء نحو الفجر، كأنّها لا تريد أن تبلغه. أصواتٌ كثيرة خارج غرفة العناية المكثفة تجهش بالدعاء متمنيةً السلامة لياسر، بينما يظن الجميع أنّه بحالةٍ مستقرة ينتظر شروق شمس الصباح لدخول غرفة العمليات.
لكنّ الحقيقة لم تكن كذلك. ارتباكٌ شديد في وضعه الصحي قلب حالته من الاستقرار إلى الخطر البالغ، فعجزت الطواقم الطبية عن إنقاذه.
"ياسر شهيد". كلمتان فقط رسمتا معالم ذلك اليوم الذي اتشحت غزّة فيه بالسواد، اعترافاً منها بفضل المصور الذي وثق أغلب مظاهر الحياة فيها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...