شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
كيفك؟ أنا منيح، بس أهلي بيموتوا

كيفك؟ أنا منيح، بس أهلي بيموتوا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الاثنين 4 مارس 202401:29 م

لا أعرف كيف حدث كلّ ذلك، كيف خسرتُ هذا الكمّ المهول من الناس دفعة واحدة ودون سابق إنذار. في الحقيقة، كان يُمكن هذه الخسارة أن تحدث، لأنها الحياة. كان يمكنها أن تحدث في زمنٍ آخر. مثلاً، كنتُ سأتقبل الأمر تماماً لو أنّه حدث وأنا في الستين من عمري، أو في الخمسين، لقلت إنه الحظ ومضيت. ولكنه يحدث اليوم، الآن، وأنا في العشرين. أقرأ أسماء الأصدقاء في قائمة الشهداء، أرى أشلاءهم على شاشة التلفاز، أسمعُ عن جوعهم في نصوصهم القصيرة. ثمّ تأتي كلمة "كيفك" كالصاعقة، كأنها تقول: نعم يحدث كلّ ذلك، لكن يجب أن تكون بخير. حسناً، أنا بخير. طيب كيف أهلك؟ أنا منيح، بس أهلي جعانين. أنا منيح، بس صحابي بيموتوا، أنا منيح، بس حياتي خربت للأبد. عندك وصفة بتصلّح حياة البني آدمين؟

كيف وصلت إلى هنا؟

كانت حياتي عادية تماماً، فيها الكثير من الروتين، لكنها كانت جيّدة. فقد كنت قادراً فيها- في الأقل- أن أجيب عن سؤال كيفك؟ بكلّ صدق. يسألني أحدهم: كيفك؟ فأقول الحمد لله بخير. وعلى الرغم من حزني الشخصي، كنتُ صادقاً. ولكنني الآن لا أعرف كيف وصلت إلى هنا. كيف حدث كلّ ذلك. كيف عبر كل ما عبر. وكيف حدث كل ما حدث. وكيف أصبحت كلمة "كيفك؟" تُشكّل بالنسبة لي كابوساً شخصياً؟ لا أدري.

وجدتُ نفسي فجأةً أقف أمام هذه الكلمة السخيفة بكل أحزاني. هذه الكلمة التي كانت مجرّد مجاملة بسيطة، أصبحت تؤذيني على نحوٍ خاص، تأخذني من يدي، تُدخلني وسط الإبادة -أقصد وسط أهلي الذين يُبادون في غزة- تجعل الدّم يسيل من عيني، وتُقطّع أجزائي إلى أشلاء مجهولة الهوية. تذكرني بالماضي- كيف كنتُ- وتذكرني بالحاضر- كيف أصبحتُ- وكيف استطاعت هذه الحَرب أن تُخرّب حياتي إلى الأبد.

"اشتهيتك تاكلي معي". أكلت ملعقتين فقط، وتركت الباقي. وحين سألتِني قلت لكِ: أكلت مجدّرة. هل كانت إجابتي جارحة، لأنّ مكونات المجدرة أيضاً ليست متوفرة عندكِ؟

أهلي على الهاتف

تسألني أمي في كلّ مكالمة بيننا: كيفك؟ وعليّ في كلّ مرة أن أجيبها إجابةً ذكية، فيها مقدارٌ من الاطمئنان لأتجنب الأسئلة التالية. أقول: أنا بخير. وأنا في الحقيقة لستُ كذلك. فكيف أكون بخير وأمي وأبي وإخوتي ينامون في غرفة لا تتجاوز مساحتها 16 متراً؟ كيف أكون بخير وقد انتقل حديث أمّي من تغيير طقم الكنب في صالة البيت، إلى مدح جودة المعلبات التركيّة؟ كيف أكون بخير وأبي يسأل عن عدد الموظفين في الشركة التي أعمل بها حتى يتجاوز نشرة الأخبار التي لا تنتهي؟ كيف وأختي التي حلمت طويلاً بزيارة برج خليفة، أصبح حلمها امتلاك قطعة شوكلاتة "جلاكسي"؟

على الرغم من ذلك، أخبر أمّي أنّني بخير. نعم يا أمّي، أنا بخير لأجلك. لا داعي للمزيد من الأسئلة. قمتُ اليوم بصناعة المقلوبة، "اشتهيتك تاكلي معي". أكلت ملعقتين فقط، وتركت الباقي. وحين سألتِني قلت لكِ: أكلت مجدّرة. هل كانت إجابتي جارحة، لأنّ مكونات المجدرة أيضاً ليست متوفرة عندكِ؟ لا أدري، ولكنني أتجاوز الأسئلة الكبيرة بإجاباتٍ أعتقد أنها صغيرة. وقد تكون كذلك فعلاً. كل إجاباتي كاذبة يا أمّي، ولكنني بخير.

أسئلة الأصدقاء المُحرجة

يسألني الأصدقاء: كيفك؟ أضطر هنا أيضاً لقول: بخير. ليس لأنني فعلاً بخير، لكن لأنّني لا أطيق تأمّل ما يحدث. يكون المأزق الحقيقي، حين يسألني الأصدقاء: كيف أهلك؟ هنا أصمت طويلاً، لم يسبق لي أن أجبت عن هذا السؤال بسرعة، عقلي يرفض ذلك. ثمّ أجيب كلّ مرة الإجابة ذاتها بعد الصمت: مش عارف، بس عايشين، كويسين، آخر مرة كلموني من يومين وكانوا كويسين. ولا أتردد في تغيير الموضوع بقول: بتهون، بيقولوا في هدنة قريبة، إن شاء الله.

أمّا الأصدقاء الذين هناك، الذين ما زالوا بين فكيّ المذبحة، الذين ذاقوا طعم الموت واشتموا رائحته، فحين يسألونني: كيفك؟ أقف محتاراً. أيّ إجابة ستكون مُناسبة؟ هل أقول إنّني بخير وإنّ الأمور جيّدة وإني أتمنى لو أنهم هنا معي في إسطنبول؟ أم أقول إن قلبي وأهلي وحبيبتي هناك وإنّي أتألم لما أراه وأسمع عنه؟ إذا واسيتهم وقعتُ في فخ الابتعاد وأنا لستُ بعيداً فها هي الشظايا على جسدي تشهد، وإذا لم أواسِهم تلعثمت كلماتي وأصابني خجلٌ كبير. وربما ليست هذه المشكلة أبداً، فالمشكلة تكون حين أسأل أنا فأقول: كيفك؟ ويكون الردّ واحد في كلّ مرة: لسّا عايش.

 أنا منيح، بس أهلي بيموتوا. عندي خبز بالبيت وأهلي ما عندهم. بشرب قهوة كلّ يوم وصحابي من شهر نفسهم فيها. بحب العنب بس ما بسترجي آكله عشان قتلوا دالية بيتنا في خانيونس

أعيدوني إلى غزة

غزة قادرة دائماً على تكسير كلّ الأسئلة الكبيرة. لذلك، ومنذ بداية الإبادة الجماعيّة أتمنى لو كنتُ فيها، في الأقل كنتُ سأقف على الطرف الآخر، الطرف الذي لا تُشكّل الإجابة عبئاً عليه، بل السؤال، الطرف الذي يتمتع بحصانة قول ما يشاء، وعدم التفكير في كيفية الإجابة وطبيعتها واحتمالاتها وما يمكن أن تؤدي إليه من أسئلة. لو أنني فقط هناك، لما تعرّضت أصلاً لسؤال: كيفك؟ فالناس في غزة لا يأبهون بهذا السؤال، والإجابات الممكنة عنه ما زالت كما هي في السابق، تدور كلّها حول المأساة التي لم تتوقف يوماً، بل ازدادت. ما حدث هو أنّ الموت أصبح سريعاً وصوته مرتفعاً، على عكس ما كان يحدث سابقاً.

حينها، كنتُ أعتقد أن الخروج من غزة سيجنبني الأسئلة الكبيرة، وقد يكون هذا الخروج قد ساهم في ذلك بالفعل. لكنه في ذات الوقت، حوّل الأسئلة الصغيرة إلى أسئلة ضخمة. لم تعد المسألة مسألة قلقاً وجودي، بل باتت قلقاً على الآخر الذي تركته هناك، على أقدامي التي ما زالت تسير في شارع جلال، وأمي التي تنزعج من مكان نزوحها الجديد، وأبي الذي ملّ صوت المذيع على الراديو، وأختي التي تحلم بالأبراج الشاهقة، وأصدقائي الذين فقدت بعضهم وقُطعت عنّي أخبار بعضهم الآخر. لذلك، فسؤال واحد اليوم من نوع: كيفك؟ قادر على تغيير حياتي إلى الأبد.

لا تسألني كيفك

على أصدقائي في الغربة وزملائي في العمل والذين أقابلهم صدفة في المطعم أو على الطريق العام، ألّا يسألوني: كيفك؟ عليهم جميعاً أن يسألوا عن كلّ الأشياء الأخرى التي يمكن السؤال عنها، بدءاً من نظام العمل وصولاً إلى آخر مستجدات الذكاء الاصطناعي. لكن عليهم أن يتجنبوا هذا السؤال، فالأمر لم يعد روتينياً.

لقد تحوّل هذا السؤال إلى كابوس، ولديّ إجابة واحدة عليه، يجب أن تُعمم وأن يقرأها القريب والبعيد، وهي: أنا منيح، بس أهلي بيموتوا. عندي خبز بالبيت وأهلي ما عندهم. بشرب قهوة كلّ يوم وصحابي من شهر نفسهم فيها. بحب العنب بس ما بسترجي آكله عشان قتلوا دالية بيتنا في خانيونس. أنا منيح، بس يمكن كذّاب، أنا فعلاً كذّاب لأنّي مش منيح. بس أقلّك، أنا مش كذاب، العالم كلّه كذّاب وأمي هيّ الصادقة، قالت: كون منيح. لازم أكون منيح. لذلك: أنا منيح، بس أهلي بيموتوا.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard