شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"منعمل خبز من أكل البهايم، طعمه مقرف"... عن شمال غزّة الجائع

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والحقوق الأساسية

السبت 24 فبراير 202411:18 ص
Read in English:

"We make bread from animal feed, it tastes revolting": Memoirs from a starving Gaza

نفد لدينا الدقيق الأبيض. فاضطررنا لتناول الوجبة الشائعة الآن، الشعير وحبوب الذرة. لا تختلف حال عائلتي عن حال العائلات الغزيّة في شمال قطاع غزّة الجائع. أصابتني آلام في المعدة، فأعلنت التمرد على "وجبة الحيوانات" هذه، ورفضت تناولها. اكتفيت بالأرز، إلى جانب بقايا من أكياس الأندومي التي كنت خزّنتها مسبقاً قبل أن ينقطع من الأسواق بشكل تام. ومؤخرًا انتشرت البطاطا، فصرنا نشتريها بسعر باهظ. لكن لا بأس، المهم أنّ بإمكاننا استبدال الأرز. تناولت البطاطا المقلية بعد شهور من الحرمان، استمتعت جداً بطعمها اللذيذ، كأنّي أتذوّقها للمرة الأولى. تنتابني نوبات شوق عارمة للطعام الذي أحبه، وتحديداً للشوكولاتة. ينتابني شوق لنظام الحياة الطبيعيّ الذي يمرّا اليوم فيه مع ثلاث وجبات متكاملة. لكن هذه الشهوات باتت في عداد الأحلام.

فالحرب الشرسة التي مسحت مناطق كاملة من خريطة غزّة، مسحت معها رفاهيّة الاختيار. ولم يكتف الاحتلال الإسرائيلي بقتل سكان الشمال وتشريدهم، بل عمل على تجويعهم بشكل ممنهج، عبر منع المساعدات من دخول الشّمال وقصف شاحنات المساعدات التي تحاول الوصول إليه. يذكر العالم كلّه اللحظة التي أعلن فيها وزير الدفاع الإسرائيليّ، بعد أيّام معدودة من بدء الحرب على غزّة، فرض حصار كامل على القطاع، يشمل عدم توفير الكهرباء والماء والطعام والوقود. وها هم أهل الشّمال، بعد شهور من الحرب، يناشدون العالم، عبر صفحات التواصل الاجتماعيّ، لإنقاذهم من المجاعة. ويخبرون العالم بأنّهم وصلوا إلى حدّ البحث عن أوراق الشجر بعدما جرّفت آليّات الاحتلال معظم الأراضي الزراعيّة.

لم تتخيل أن تتمنى في يوم من الأيام أن تشتهي رغيف خبز، أو أن تشتهي المعكرونة فلا تجدها في الأسواق. وفي كلّ يوم تُصبر نفسها بالأمل: "بعد الحرب مش رح أخلّي إشي بنفسي

يأكلون طعام البهائم والطّيور

"هاد أكل البهايم وإحنا بنعمل منّه خبز. ريحته بتخزي وطعمه مقرف... أوف"، تقول ياسمين ناصر (23 عاماً) وهي تتحدث عن الشعير المخلوط بحبوب الذرة الذي يطحنه الغزيّون في الشّمال ليحصلوا على شيء يشبه الدقيق بعد انقطاعه بشكل نهائيّ من الأسواق وبات الناس يلمّون غباره عن الطرقات إن توفّر بشكل ما. تقول ياسمين لرصيف22: "لقد سئمنا الحرب وأصوات الصواريخ التي تزلزل الأرض من تحتنا. لكن ما إن قلّت وتيرة القصف بالشمال وقلنا إنّنا سنرتاح، بدأت معاناتنا بعد نفاذ مخزون الدقيق والطعام بسرعة رهيبة"، وتضيف: "ثمّ عجّ السوق بالشعير بالذرة، أو أعلاف الحيوانات المطحونة، والذرة الخاصة بالطيور التي نعجنها لتصبح خبزاً. خبز رديء للغاية، رائحته سيئة وطعمه أسوأ، لكن هذا هو المتاح في شمال غزة الآن".

تخبرنا أم مصعب (42 عاماً)، خلال انهماكها بطبخ الخبيزة على النار، عن اشتياقها للطبخ بشكل طبيعي على الغاز. حيث تزعجها رائحة الدّخان التي تلتصق بملابسها. ولا رفاهية لديها للاستحمام بعد الطبخ، إذ تعيش هي وأطفالها الخمسة في مدرسة بمخيم بجباليا، بعد أن دمر الاحتلال منزلها. "يمّا، سمعت الناس بحكوا إنه الخبز اللي مناكله هو علف حيوانات"، هذا ما قالته ابنة السيدة أم مصعب مستفسرة عن صحة الخبر. لم تعلم والدتها ماذا تقول لها؛ هل تعترف بالحقيقة كاملة، فتقول لها إنّها تعدّ الخبز من طعام العصافير والحمام أم تكتفي بالصّمت.

"بعد الحرب مش رح أخلّي إشي بنفسي"

ظلّت ياسمين مع عائلتها في شمال غزة، على الرغم من محاولات الاحتلال الإسرائيليّ دفعهم نحو الجنوب، وذلك بقصف محيط منزلهم تارةً، وتارةً أخرى عبر الاتصالات لتحذيرهم من البقاء فيما أسموها "منطقة حرب". لكن الآن، وبعد أن انخفضت وتيرة العمليّات العسكريّة في الشمال، تعاني ياسمين وعائلتها من التجويع. لم تخف الشابة الغزيّة سخطها على كل شيء في الحياة، فلم تتخيل أن تتمنى في يوم من الأيام أن تشتهي رغيف خبز، أو أن تشتهي المعكرونة فلا تجدها في الأسواق. وفي كلّ يوم تُصبر نفسها بالأمل: "بعد الحرب مش رح أخلّي إشي بنفسي. هجيب كل إشي انحرمت من أكله. "نفسي بالمعكرونة بالبشاميل. أقلّك؟ نفسي بخبزة فيها جبنة وعليها شرايح بندورة. وبعدها بديش إشي"، تقول ياسمين.

لا شك في أن أيّ شيء يأتي بعد حرمان طويل يكتسب خصوصية خاصّة وابتهاجاً مختلفاً. تحكي لنا ياسمين كيف شعرت بانتصار صغير حين صرخت كالأطفال: "رح نعجن بطحين أبيض ونعمل بيتزا". كان ذلك بعد انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من غرب غزة. "توجهت عائلتي لمنزل خالي. هناك لاقوا بقايا دقيق أبيض تركها في بيته قبل ما ينزح منه لجنوب غزة. ظهر السوس في الدقيق. بس مش مشكلة، فش إمكانية للدلال. عملنا خبز الصاج وصينية بيتزا. وعقدنا مراسم احتفال وأزلنا الشوق الكبير مع كوب الشاي الساخن".

تبدأ باسترجاع تفاصيل يومها المرير وهي تتحايل على طفلتها ذات الخمس سنوات كي تتوقّف عن البكاء، فتقول لأمّها: "جوعانة. بديش هاد الخبز

كيف يمرّ يوم الأمّ الغزّيّة؟

يُذكر أن السوق في غزة وشمالها يفتقد كذلك لأصناف الخضروات، فتتوفّر البطاطا والبصل والخبيزة فقط، وبكميات شحيحة جداً. قد يجد المرء البيض أيضًا، لكن يصل سعر البيضة الواحدة إلى 6 شيكل (ما يعادل دولارين). غالبيّة الغزّيين لا يستطيعون اقتناءه بهذا الثمن. هناك من يصنع "الكستر"؛ وهو صنف من أصناف الحلوى المصنوعة من النشا والسّكر. ويعتبرونه وجبة عشاء لأطفالهم. لكن مع ارتفاع سعر السّكر والنشا قلّ الإقبال على صنعه. كذلك، قد يجد المرء تمراً في أسواق الشّمال. يبلغ سعر الكيلو 25 شيكلاً (ما يعادل 7 دولار). فيحاول بعض الغزّيين تحسين طعم الشعير والذرة من خلال عجنهما وحشوهما بالتّمر. وتباع الكعكة الواحدة من هذه الوصفة بشيكلين، أي نصف دولار.

فكيف يقضي الغزيّ يومه في ظلّ هذه المجاعة التي باتت تتطلّب إبداعاً في إيجاد الحلول: "بصحى الصبح ببعت ولادي مع أبوهم يلموا خشب. ولما يرجعوا ببدأ أولع النار. طبعاً فش اختيارات كتيرة؛ يا رز يا خبيزة. وأحياناً أهل الخير ببعتولنا رز جاهز"، تقول أم مصعب. وعن الخبز المصنوع من الشعير والذرة، تقول إنّها اقتنت الكيلو الواحد بخمسين شيكلاً (ما يعادل 14 دولاراً). يتذمر أبناؤها من طعمه ولكن لا خيارات أخرى أمامها. في نهاية يومها ترتمي في الغرفة التي تعيش فيها بالمدرسة، ورائحة النار تفوح منها، فتتناول عطرها الخاصّ وترشه على ملابسها بغية تغيير رائحة الثياب. ثمّ تبدأ باسترجاع تفاصيل يومها المرير وهي تتحايل على طفلتها ذات الخمس سنوات كي تتوقّف عن البكاء، فتقول لأمّها: "جوعانة. بديش هاد الخبز. بدي من خبزنا قبل الحرب". تقول أم مصعب: "لم يعد لدينا مأوى. وفقد زوجي مصدر رزقه بعد أن كان يعمل سبّاكاً. قلبت الحرب حياتنا تماماً. وأنفقنا كل ما لدينا من مال. ولولا أهل الخير، لست أعلم كيف ستكون حالنا".

تكمل الأمّ حديثها وهي تمسح عن يديها السواد العالق بهما من دخان النار: "لقد تعبت من انتظار عربة المياه النقيّة يومياً، تعبت من حساسيّة عيني المزمنة بسبب الوقوف لفترات طويلة أمام النار، تعبت من التفكير بالطريقة التي سنتدبّر فيها أمرنا في اليوم التالي في ظلّ غلاء الأسعار". إذ تعتبر أم مصعب الخبيزة طوق نجاة بعد موجة غلاء الأرز والشعير. فمنذ توافرها في السوق، تشتريها بشكل يومي ويأكلونها دون خبز. لكنّها تتساءل: "لما تخلص الخبيزة شو بدنا نعمل؟".

هل يحرّك العالم ساكناً؟

سمح الاحتلال الإسرائيلي يوم 19 شباط/ فبراير 2024 بدخول ثماني شاحنات محملة بالمساعدات إلى شمال قطاع غزة. انتشرت بعدها فيديوهات على مواقع التواصل الاجتماعي تبين تدافع السكان للحصول على المساعدات، التي تعتبر الأولى منذ شهر كانون الثاني/ يناير الماضي، وإطلاق جيش الاحتلال النيران تجاه الآلاف من السكان المتجمعين للحصول على الدقيق الأبيض الذي تحمله الشاحنات. وفي اليوم التالي، أعلن برنامج الأغذية العالمي تعليق دخول المساعدات لمحافظتي غزة والشمال لحين الوصول لطريقة آمنة لتوزيعها.

وكان المكتب الإعلامي الحكومي في غزة صرّح بأنّ الخروج من المجاعة التي يعانيها السّكان، فإنّ محافظة الشمال إلى 600 شاحنة، ومدينة غزة إلى 700 شاحنة يوميّة. أمّا الوضع الحالي فقد تسبّب، وفق تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونسيف"، في أن يعاني طفلٌ من بين ستّة أطفال دون سنّ الثانية من سوء التغذية الحادّ. وقد شهدنا أيضاً وفاة عدد من الأطفال بسبب الجوع. يأتي ذلك في الوقت الذي تنتشر فيه عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ، وعلى مرأى من العالم، عشرات الفيديوهات التي يوثّقها جنود الاحتلال لأنفسهم وهم يطبخون في منازل الغزيّين النازحين. وقد نشرت صحيفة هآرتس الإسرائيليّة يوم 13 شباط/ فبراير 2024 تقريراً بعنوان: "في كلّ بيت في غزّة، وجدنا زيتوناً والكثير من زيت الزيتون والبهارات. نحن نطبخ بمشاعر مختلطة"، مشيراً إلى المعضلات "الأخلاقيّة التي يواجهها الجيش". ذلك بعد أن دمّرت هذه الأخلاق تاريخ شعب كامل وحاضره ومستقبله. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard