اعتاد الغزيون رؤية آلة التصوير"الكاميرا" تتجول بين الأحياء، فتتوقف لحظات مجسدة واقعهم فوتوغرافياً، ولكن ما يدهش أن يتحول هذا الواقع للوحات فنية بأسلوب ساحر.
لا يمر الخمسيني فاخر عوض على مشاهد الحياة اليومية في قطاع غزة مرور الكرام، فهو يراها بعينَي الفنان التشكيلي الملتزم بالخروج للطبيعة والهواء الطلق، تلتقطها عدسة هاتفه النقّال لتترجمها فرشاته بطريقة كلاسيكية.
وهوعُرف بانتمائه للمدرسة الانطباعية التي تطبّق مقولة: "ما لون الشكل سوى انعكاس على شبكة العين، نتيجة للضوء الذي يقع على الشكل".
اللون الرمادي
بدأت موهبة عوض منذ نعومة أظافره، عندما تفتحت عيناه على واقع مخيم اللاجئين الذي يسكنه في دير البلح وسط القطاع، ثم كبرت مع عمره، فعكست نمط حياة الفلسطيني بأسلوب إبداعي.
دفعته تلك الأجواء إلى الانتماء للمدرسة الانطباعية، إذ وجد فيها فضاءً رحباً فزخرت لوحاته بمشاهد انتفاضة الحجارة الأولى عام 198، والاجتياح الإسرائيلي للمخيمات، والحروب المتكررة على القطاع. وامتدت لتصوير حياة الغزي المحاصر اليومية، فمزجت ريشته بين المتناقضات، الأمل والبؤس، الخير والشر، المدينة الصاخبة والطبيعة الصامتة والناطقة، البحر والمراكب، مشكلاً بذلك إرثاً فنياً فلسطينياً.
اعتدنا أن نرى أنماط حياة فلسطينيي غزة على شاشات التلفزيون، وكاميرات الموبايل، ولكن كيف تكون إذا تم تجسيدها بأسلوب إبداعي في لوحات تشكيلية؟ عن تجربة فاخر عوض والفن الانطباعي في القطاع
"وجدت نفسي في المدرسة الانطباعية قبل 20 عاماً، حينما شعرت أنها ستمنحني مساحة مختلفة في الرسم وبعيدة عن النمطية والواقعية، دون قيود أو فرض لون معين، فهي تعبّر عن الحالة الشعورية والمزاجية للفنان، خاصة عند رسم مشاهد الطبيعة"، يقول عوض، الذي تأثر بمن سبقوه من الفنانين العرب والأجانب، ولكنه خلق لنفسه بصمة مختلفة، ظهرت من خلال نمط اختيار الموضوعات وطريقة ضربة الريشة أثناء الرسم، وغزارة الألوان، ولكن يبدو أن اللون الرمادي هو الأقرب لفرشاته، كونه الأكثر تعبيراً عن الواقع الفلسطيني.
"البحر بيضحك ليه وانا نازلة ادلع أملا القلل.. البحر غضبان ما بيضحكش، أصل الحكاية ما تضحكش".
على أنغام الشيخ إمام انتهى فاخر من رسم إحدى لوحاته في إحدى زوايا مرسمه، المطل على شاطئ بحر غزة الملتصق بالمخيم.
لا يمكننا ذكر "لوحة المقهى" التي اتسمت بالألوان الشديدة القتامة لتمنح انطباعاً عن الحالة الشعورية للشباب الغزي، والتي يغلب عليها الكآبة بسبب واقعهم المرير، دون الرجوع إلى لوحة "لاعبو الورق"، التي أنهى رسمها الفنان الفرنسي بول سيزان أحد فناني المدرسة الانطباعية عام 1893. وهي اعتمدت نفس الألوان البنية القاتمة، وتأتي ضمن سلسلة من اللوحات الزيتية التي تعبّر عن حالة الكآبة التي كان يعيشها سيزان خلال الفترة الأخيرة من حياته.
المدرسة الانطباعية، بحسب باحثين، هي "أسلوب فني في الرسم يعتمد على نقل الواقع أو الحدث من الطبيعة، بعيداً عن التخيّل والتزويق، وفيها خرج الفنانون من المرسم ونفذوا أعمالهم في الهواء الطلق، مما دعاهم إلى الإسراع في تنفيذ العمل الفني قبل تغّير موضع الشمس في السماء، وبالتالي تبدّل الظل والنور، وسميت بهذا الاسم لأنها تنقل انطباع الفنان عن المنظر".
ظهرت الانطباعية في القرن التاسع عشر، وجاءت تسميتها من عنوان لوحة للرسام الفرنسي كلود مونيه، انطباع شروق الشمس soleil levant، التي أنجزها عام 1872، وبرز معه الفنانان إدوارد مانيه وبول سيزان.
وللمدرسة الانطباعية نصيب في المخيمات الفلسطينية في غزة والضفة الغربية، ففي مخيم جنين ظهر الفنان محمد شلبي زميلاً لفاخر ابن مخيم دير البلح، فكانت أولى لوحاته "عكا"، التي تبرز جمال مدينة عكا الفلسطينية المحتلة، والتي جاءت ثمرة اطلاعه على أساليب الفن الشرقي والغربي وحياة الفنانين العالميين، ليجد نفسه في المدرسة الانطباعية.
الانطباعية الفلسطينية
يشرح فاخر كيفية ممارسة هوايته الممتزجة بالتصوير: "لا أصنع لوحتي من وحي الخيال، فقبل التفكير في الرسم، أنزل للشارع وألتقط عبر عدسة هاتفي مئات المشاهد المتحركة للوحة الواحدة في توقيت زمني محدد، وإضاءة موحدة".
ويتابع: "مثلاً لو أردت تصوير شروق الشمس ألتقط الصور في هذا التوقيت، فلا يمكنني النزول وقت الغروب لرسم لوحة عن الشروق مثلاً".
يرى فاخر أن مؤسسات المجتمع الفلسطيني مقصرة، فـ"من المفترض عليها تبني الحالة الثقافية لإثبات الهوية الفلسطينية، فالفن جزء لا يتجزأ من حياة الشعوب، بل الجزء الأجدر كونه الإرث الشاهد على حياة أي شعب"
كذلك يحاول ألا ينسلخ عن بيئته، وهذا ربما ما يجعله أكثر قرباً من المجتمع الفلسطيني كونه يعبّر عن هموم أبناء شعبه وواقعهم المعيشي. رغم امتلاكه لحس فني غنائي لا يطوعه بسبب نظرة المجتمع الفلسطيني في غزة النمطية عن الغناء.
يجتمع فاخر عادة مع أصدقائه بعيداً عن أسرته، مرسمه الذي أشبه ما يكون بصالون ثقافي، هو نوع من التنفيس عن الروح في ظل واقع صعب تعيشه الحالة الثقافية والمجتمعية الغزية.
يرى فاخر أن مؤسسات المجتمع الفلسطيني مقصرة، فـ"من المفترض عليها تبني الحالة الثقافية لإثبات الهوية الفلسطينية، فالفن جزء لا يتجزأ من حياة الشعوب، بل الجزء الأجدر كونه الإرث الشاهد على حياة أي شعب".
بحسب فاخر، لا يوجد اهتمام بالفنانين التشكيليين زملائه، ليبقوا مصارعين من أجل أجل الاستمرار بمجهود فردي.
الحالة الثقافية الفلسطينية لا تخفى على أحد، فالفنان يحاول قدر المستطاع النهوض بهذا الفن من خلال مشاركته في معارض داخل غزة، وأحياناً خارجها رغم التحديات. فأهالي القطاع الذين بالكاد يستطيعون إيجاد لقمة عيشهم لا يوجد لديهم ثقافة اقتناء لوحات فنية حتى لو كانت بثمن متواضع، هذا ما يجعل الفنان فاخر وغيره يعملون في تدريس الفنون الجميلة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 11 ساعةجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أياممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 6 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.