شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"أريد حريتي"... عندما يتدخل الأهل بشكل مفرط في حياة أولادهم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والحريات الشخصية

الجمعة 8 مارس 202410:32 ص

في عالم مليء بالتحديات والمخاطر، يُظهر الوالدان غالباً رغبةً قويةً في حماية أولادهما وضمان سلامتهم.

هذا التدخل المفرط يمكن أن يتجلّى في أشكال عدّة، بدءاً من توجيهات مستمرّة ومراقبة دقيقة، وصولاً إلى انتقادات متكرّرة وضغوط نفسية. يمكن أن يكون هذا الأمر نتيجةً للحب والخوف، ولكن ما قد لا يعرفه الأهل هو أن هذا التحكّم الدائم قد يؤدي إلى تأثيرات سلبية على نموّ أولادهم وتطورهم، سواء ذهنياً أو عاطفياً.

أسباب تدخّل الأهل بشكل مفرط

"السبب الأوّل الذي قد يجعل معظم الأهل يتدخّلون بطريقة مبالغ فيها في حياة أولادهم، هو أنّهم يريدون أن يكون أولادهم بأمان. غالباً ما تتم رؤية هذا النوع من التربية مع الأب والأم اللذين يتبعان طفلهما إلى جميع أنحاء صالة الألعاب، حتى أنّهما يمسكان به خوفاً من تعرّضه للأذى في حال تركاه يلعب بمفرده"، هذا ما تقوله ماغدالينا باتلز، وهي كاتبة ودكتورة في علم النفس للأطفال والعلاقات الأسرية.

"الكثير من الأهل يربطون شخصيّتهم بشخصية أطفالهم، بحيث ينظرون إلى إخفاقات أطفالهم ونجاحاتهم على أنّها إخفاقاتهم ونجاحاتهم الشخصية"

وتوضح أن هناك بعض المخاوف التي تكون طبيعيةً ومبرّرةً، عندما يتعلّق الأمر بالسلامة، ولكن بعض هذه المخاوف قد يمتدّ بشكل زائد، ممّا يسبّب قلقاً للعائلة بأكملها، فالسماح بوقوع إصابات طفيفة في أثناء اللعب في أماكن اللعب العامّة مقبول وحتى مفيد على المدى البعيد، حيث يتعلّم الطفل الحذر تدريجياً. أما في حال عدم السماح بذلك، فقد يتعرّض الصبي أو الفتاة لإصابات أكبر عند تجربة تحديات أكبر، خصوصاً عندما لا يكون الوالدان حاضرَين لتقديم النصائح والتحذيرات.

أمّا السبب الثاني، فقد يكون غرور الوالدين: "الكثير من الأهل يربطون شخصيّتهم بشخصية أطفالهم، بحيث ينظرون إلى إخفاقات أطفالهم ونجاحاتهم على أنّها إخفاقاتهم ونجاحاتهم الشخصية. لذلك، فإنهم يريدون مساعدة طفلهم/ طفلتهم على تحقيق النجاح"، من هنا، تؤكد د. ماغدالينا، أنّه يجب على الأهل فصل هويّتهم عن هوية طفلهم من أجل مستقبله.

تأثير تدخّل الآباء والأمّهات على أولادهم

"في حال تدخّل الآباء والأمّهات بشكل مفرط في حياة أولادهم، وفي تصرّفاتهم ومشكلاتهم، فهذا الأمر قد يجعلهم يفقدون الثقة بأنفسهم ويعتقدون بأنّهم لا يعرفون شيئاً، وليس في استطاعتهم حلّ مشكلاتهم بمفردهم. كذلك قد يتّكلون على أفراد أسرتهم بحجّة أنّهم يعرفون أكثر منهم. من هنا، كلّما كبر الشاب أو الصبية، شعر/ ت بالتوتر وعدم الثقة بالنفس، وترسّخت في عقله/ ا معتقدات مقيّدة بأنّه/ ا لا يتمتّع/ تتمتع بقدرات كافية لمعالجة مشكلة ما أو مواجهة التحديات بمفرده/ ا"؛ هذا ما توضحه مدربة التنمية البشرية، تانيا حمدان، في حديثها إلى رصيف22.

"في حال تدخّل الآباء والأمّهات بشكل مفرط في حياة أولادهم، وفي تصرّفاتهم ومشكلاتهم، فهذا الأمر قد يجعلهم يفقدون الثقة بأنفسهم ويعتقدون بأنّهم لا يعرفون شيئاً، وليس في استطاعتهم حلّ مشكلاتهم بمفردهم"

تتابع: "من الطبيعي أن يتدخّل الأهل في بعض المواقف التي يتعرّض لها أولادهم؛ على سبيل المثال في حال واجهوا مشكلةً صغيرةً في المدرسة، يكفي أن يدعموهم وأن يسمحوا لهم بمواجهة الموضوع بأنفسهم. أمّا في حال بلغت المشكلة البسيطة حدود التنمّر، فهنا من الضروريّ أن يتصرّف الأهل بسرعة من خلال التحدّث مع إدارة المدرسة، وهنا يكون التدخّل إجبارياً".

من ناحية أخرى، قد يؤدّي التوجيه الأبويّ المفرط إلى نتائج عكسية، وذلك وفقاً لدراسة أجرتها الأستاذة المساعدة في كلية الدراسات العليا للتعليم في جامعة ستانفورد، جيلينا أوبرادوفيك.

فقد لاحظ الباحثون كيفية تصرّف الآباء والأمهات عندما يشارك أطفالهم في الألعاب، ووجدوا أن الأطفال الذين كان أهلهم يتدخّلون بكثرة، حتى عندما كانوا يقومون بالمهام بشكل جيّد، كانوا يواجهون صعوبةً في التحكّم بسلوكهم وعواطفهم في أوقات أخرى.

أريد حريّتي... لم أعد أتحمّل تدخّل والديّ

إليزا (اسم مستعار)، تبلغ اليوم الثلاثين من عمرها، ولا يزال والداها يتدخّلان في حياتها وقراراتها، وفق ما تكشف لرصيف22: "أعلم أنّهما يخافان عليّ كثيراً، وأعلم أنّهما يحبّانني كثيراً ويفعلان ذلك من أجلي إلى حدّ ما، ولكنّني سئمت من ذلك، خصوصاً أنّني لم أعد طفلةً".

بغصّة عالقة في حلقها، تقول: "أتذكّر أنّهما منعاني من السفر للعمل خارجاً، لكيلا أتركهما. أليست هذه أنانيةً؟"، مشيرةً إلى أنّهما يتدخّلان في أبسط الأمور، حتى ولو كان الأمر متعلّقاً بصبغ شعرها: "تقول والدتي دائماً: بعد بكير تتصبغي شعرك، بكرا بتندمي".

 "أعلم أنّهما يخافان عليّ كثيراً، وأعلم أنّهما يحبّانني كثيراً ويفعلان ذلك من أجلي إلى حدّ ما، ولكنّني سئمت من ذلك، خصوصاً أنّني لم أعد طفلةً"

وعن أثر تدخّل والديها عليها، تجيب: "دائماً ما أنتقد نفسي، لأنّني وببساطة، لا أعلم كيف أتّخذ أي قرار بمفردي، وإن فعلت ذلك، أندم وأشعر بأنّني أخطأت في قراري. كلّما أردت أن أفعل شيئاً، إمّا أستشير والديّ أو أسأل الشخص الموجود معي، فأنا أشعر بأنّني ما زلت طفلةً صغيرةً لا تملك القوّة على المشي بمفردها".

وتختم: "لا أثق بنفسي وبقرارتي، أتحدّث مع ذاتي بسلبية، ولا أقدّر 'الأنا'، ما أريده الآن هو حريّتي".

على الأهل التوقّف عن "قيادة السيارة" بمفردهم

توضح تانيا حمدان، أنّه يجب على الأهل أن يمرّوا بـ4 مراحل مع أطفالهم، وقد شبّهت المراحل هذه بمراحل عملية قيادة السيارة:

المرحلة الأولى: عندما يكون الأطفال صغاراً، يجلسون في الخلف، والأهل يقودون السيارة. في هذه المرحلة، يكون الآباء والأمّهات هم الذين يسيّرون الأمور بالطريقة التي يريدونها.

المرحلة الثانية: عندما يبدأ الصبي/ الفتاة بالجلوس بجانب الأم أو الأب في أثناء قيادة السيارة، والمشاركة في تحديد الوجهة. في هذه المرحلة، يبدأ الولد بمناقشة الخيارات.

المرحلة الثالثة: عندما يبدأ المراهق/ ة بتعلّم قيادة السيارة، فيبدأ الأهل بتوجيهه/ ا إلى الطريقة الصحيحة. في هذه المرحلة، تبدأ مرحلة إعطاء النصائح للمراهقين/ ات.

المرحلة الرابعة: عندما يبدأ الشاب/ الصبية بأخذ مفتاح السيارة والقيادة بمفرده/ ا. هنا تبدأ مرحلة اتّخاذ القرارات فردياً.

لكن وفق حمدان، "لا يزال بعض الأهالي يقودون السيارة بمفردهم، ما يعني أنّهم في مرحلة السيطرة والتحكّم، ولم يتمكّنوا من تدريب أنفسهم على إعطاء هذه السلطة رويداً رويداً لأولادهم حتى يتمكّنوا من إدارة حياتهم بالشكل الصحيح، ومن هنا يبدأ الضياع عند الأولاد، فهم اعتادوا على قيادة أهلهم للسيارة".

هل يمكن وضع حدود لتدخّل الأهل في حياة أولادهم؟

"قد يكون من الصعب وضع حدود للأهل، خصوصاً في مجتمعاتنا العربية، حيث يُعدّ هذا الأمر قلّة تربية، لكن وبعد أن خضعت للعلاج النفسيّ، أيقنت أنّه ليس من الخطأ فعل ذلك، فهذا من حقّي"؛ هذا ما يقوله فادي (اسم مستعار)، لرصيف22.

يضيف: "قبل سنة من الآن، كان والداي يتحكّمان في قراراتي واختياراتي، وكنت أشعر بأنّهما يفعلان ذلك للسيطرة على زمام الأمور فحسب، فمنذ أن كنت صغيراً، كانا يعاقبانني كلّما أخطأت، وحين كبرت ازدادت سلطتهما عليّ، حتى بعد دخولي الجامعة. هذا الأمر لم أعد أقبله، خصوصاً أنّني شاب أريد أن أكتشف الحياة أكثر وأن أستمتع بوقتي وباتّخاذ القرارات كما أريد، وكنت أتضايق كلّما رأيت أصدقائي يعيشون حياتهم على طريقتهم".

واللافت أن تدخّل والديه في أبسط أموره، جعله يشعر باكتئاب مع مرور الوقت وقاده إلى العصبية الدائمة وغير المبرّرة، لذلك قرّر استشارة معالج نفسيّ، من هنا، بدأ فادي أوّلاً بتعلّم قول "لا"، في الأمور أو القرارات التي لا تعجبه، وبوضع حدود تدريجياً مع المحافظة على احترامه لأهله.

أكّد الشاب البالغ من العمر 24 سنةً، أنّ الأمر لم يكن سهلاً أبداً، وقد استغرق سنةً كاملةً وما زال يعمل على الموضوع.

أمّا ليلى (اسم مستعار)، وبالرغم من أنها متزوّجة ولديها طفلان، فلا تزال والدتها على وجه التحديد تتدخّل في حياتها. كان زوجها يلاحظ ذلك، ولطالما لفت انتباهها لتضع حدوداً لوالدتها، خصوصاً أن هذا الأمر بدأ يؤثّر على علاقتهما الزوجية.

وبالرغم من أنها فضّلت عدم الغوص في الكثير من التفاصيل، إلّا أنّها توضح لرصيف22، أنّها الآن على خلاف مع أمّها لأنّها لم تعد تسمح لها بالسيطرة على قرارتها.

يجب على الأهل أن يتذكّروا أن مسؤوليّتهم تتجاوز مجرّد توجيه الأوامر، وأنّهم يجب أن يكونوا نموذجاً يُحتذى في تطوير شخصية أبنائهم/ بناتهم ومساعدتهم/ نّ على تحقيق النجاح في الحياة

في هذا السياق، تقول كارا غادرنسوارتز، وهي دكتورة في علم النفس ومتخصّصة في العلاج الجماعي في لوس أنجلوس في بفيرلي هيلز-كاليفورنيا، إن المفتاح الأساسيّ للتعامل مع والدين يتحكّمان بشكل كبير هو أن يكون الأولاد لطيفين ويضعون الحدود: "يجب أن يكونوا أقوياء ولطيفين في الوقت عينه، مع المحافظة على احترام الأهل، ولكن عليهم أن يحدّدوا حدودهم في حياتهم واختياراتهم".

كذلك، توضح كارا أن الأم المتسلّطة مثلاً قد تشعر بالاستياء عندما تتمّ معارضة نصائحها، وعليه، يجب على الأولاد السماح لها بمعرفة أنّهم يستمعون إلى كلامها، ولكنّهم سيتّخذون القرارات النهائية بشأن حياتهم، وحدهم.

باختصار، قد يتدخّل الآباء والأمهات بشكل مفرط في حياة أولادهم بسبب القلق على سلامتهم ورغبتهم في مساعدتهم على تحقيق النجاح. ومع ذلك، ينبغي على الأهل أن يكونوا حذرين، وأن يوفّروا لهم المساحة الكافية لتطوير قدراتهم الذاتية واتّخاذ القرارات بشكل مستقلّ.

وعليه، من الضروري وضع حدود واضحة لتدخّل الوالدين، ما يمكّن الأولاد من بناء الثقة بأنفسهم وتطوير مهاراتهم الحياتية.

في النهاية، يجب على الأهل أن يتذكّروا أن مسؤوليّتهم تتجاوز مجرّد توجيه الأوامر، وأنّهم يجب أن يكونوا نموذجاً يُحتذى في تطوير شخصية أبنائهم/ بناتهم ومساعدتهم/ نّ على تحقيق النجاح في الحياة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard